Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 38-41)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } معناه أنّه عندما رأى زكريا حسن حال مريم ومعرفتها وإضافتها الأشياء إليه دعا ربّه متمنيّاً لو يكون له ولد صالح مثلها هبة من لدنه تعالى ومن محض فضله ( وقد تقدّم الكلام في تفسير لدن ولدى ) وقد فسّر بعضهم " هنالك " بالزمان . قال الأستاذ الإمام : وهو ضعيف والاستعمال الفصيح فيها أنّها للمكان أي في ذلك المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربّه ورؤية الأولاد النجباء تشوّق نفس القارئ وتهيّج تمنّيه لو يكون له مثلهم ، وذهب المفسّر ( الجلال ) كغيره إلى أنّ الذي بعث زكريا إلى الدعاء هو رؤية فاكهة الصيف في الشتاء وعكسه فإنّ ذلك من قبيل مجيء الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر وليس في الآية ما يدلّ عليه ، وقد يعترض عليه بأنّ فيه إشعاراً بأنّ زكريا لم يكن قبل ذلك عالماً بإمكان الخوارق ولا يقول بهذا مؤمن بنبوّته . فإن قيل أنّ تعجّبه بعد قوله : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } قد يشعر بشيء من ذلك فالجواب إنّ هذا يؤيّد إمتناع أن تكون رواية الخوارق هي التي أثارت في نفسه هذا الدعاء . ثمّ قال الأستاذ الإمام في معنى هذا الدعاء وهذا التعجّب من استجابته أحسن قول وهاكه بالمعنى مع شيء من التصرّف : إنّ زكريا لمّا رأى ما رآه من نعمة الله على مريم في كمال إيمانها وحسن حالها ولا سيّما اختراق شعاع بصيرتها لحجب الأسباب ، ورؤيتها أنّ المسخّر لها هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، أخذ عن نفسه ، وغاب عن حسّه ، وانصرف عن العالم وما فيه ، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته ، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته ، وإنّما يكون الدعاء جديراً بأن يستجاب إذا جرى به اللسان بتلقين القلب ، في حال استغراقه في الشعور بكمال الربّ ، ولمّا عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة ، وقد أوذن بسماع ندائه ، واستجابة دعائه ، سأل ربّه عن كيفية تلك الاستجابة ، وهي على غير السنّة الكونية فأجابه بما أجابه ، وذلك قوله عزّ وجلّ : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } قرأ حمزة والكسائي فناداه الملائكة بالتذكير والإمالة والباقون فنادته بتاء التأنيث أي جماعة الملائكة والعرب تؤنث وتذكّر المسند إلى جمع الذكور الظاهر لا سيّما إذا كان في لفظه تاء كالطلحات . ورسم المصحف يتّفق مع القراءتين لأنّه رسم فيه بالياء غير منقوطة هكذا " فنادته " ومن سنّته رسم الألف الممالة ياء لأنّها منقلبة عنها وجمهور المفسّرين يقولون إنّ المراد بالملائكة جبريل ملك الوحي وقالوا إنّ العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع تريد به الجنس . قال ابن جرير يقال خرج فلان على بغال البريد وإنّما ركب بغلاً واحداً وركب السفن وإنّما ركب سفينة واحدة وكما يقال ممّن سمعت هذا الخبر فيقال من الناس وإنّما سمعه من رجل واحد وقد قيل إنّ منه { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] والقائل كان فيما ذكروا واحداً . ثمّ قال بعد ذلك وأمّا الصواب من القول في تأويله فإن يقال إنّ الله جلّ ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته والظاهر من ذلك أنّها جماعة الملائكة دون الواحد وجبريل واحد . فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلاّ على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ، ما وجد إلى ذلك سبيل ، ولم تضطّرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنّه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني . وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم . اهـ . أمّا قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } فالظاهر من معناه المتبادر عندي أنّه نودي وهو قائم يدعو بذلك الدعاء الذي ذكر هنا مختصراً وذكر في سورة مريم بأطول ممّا هنا . فالصلاة دعاء والدعاء صلاة ، وقد عطف { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } على ما قبله بالفاء وحكاية ما قبله صريحة في كون الدعاء وقع في المحراب الذي كانت مريم فيه . فقول الرازي إنّ الآية تدلّ على أنّ الصلاة مشروعة عندهم غريب جدّاً ، وأي دين لا صلاة فيه ولا دعاء ؟ { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } أي بولد اسمه يحيى ، كما في سورة مريم : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } [ مريم : 7 ] قرأ ابن عامر وحمزة " إن " بكسر الهمزة لأنّ النداء قول ، والباقون بفتحها على تقدير الباء أي نادته بأنّ الله يبشّره وفيه إشعار بأنّ البشارة محكية بالمعنى لا باللفظ ، فما هنا لا ينافي ما في سورة مريم من التفصيل . قرأ حمزة والكسائي يبشّرك كينصرك والباقون بالتشديد ؛ ويحيى تعريب لكلمة " يوحنا " في لغة بني إسرائيل . وهي من مادة الحياة فالاسم يشعر بأنّه يحيا حياة طيّبة بأن يكون وارثاً لوالده ومن آل يعقوب ما كان فيهم من النبوة والفضل . وقد وصف تعالى هذا المبشّر به بعدّة صفات وردت حالاً منه وهي قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } أمّا تصديقه بكلمة من الله فهو تصديقه بعيسى الذي يبشّر الله به بكلمة منه أو الذي يولد بكلمة الله " كن " فيكون أي بغير السنّة العامّة في توالد البشر ، وهي أن يولد الولد بين أب وأمّ . وقال أبو عبيدة إن المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي . لأنّ الكلمة تطلق على الكلام وإن كان كثيراً ، وقيل غير ذلك . وأمّا السيّد فهو من يسود في قومه بالعلم أو الكرم أو الصلاح وعمل الخير . والحصور وصف مبالغة من مادّة الحصر ومعناها الحبس فهو من يحبس نفسه ويمنعها ممّا ينافي الفضل والكمال اللائق بها . ويطلق على الكتوم للأسرار وعلى من يمتنع من النساء للعنة أو للعفّة . وأكثر المفسّرين على أنّ هذا الأخير هو المراد هنا ولذلك بحثوا في كون ترك التزوّج أفضل من فعله أم لا وقال الرازي : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ ترك النكاح أفضل ، ونقول : إنّ الآية ليست نصّاً ولا ظاهرة في ذلك ، وإذا سلّمنا أنّها تدلّ عليه فلا نسلم أنّها تدلّ على أن ترك التزوّج أفضل مطلقاً ، وليس يحيى بأفضل من أبيه ولا من إبراهيم الخليل ولا من محمّد خاتم النبيين والمرسلين . وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنّها قوام هذه الحياة الدنيا وسبب بقاء الإنسان الذي كرّمه الله وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في الأرض إلى الأجل المسّمى في علم الله . ومعنى كونه نبيّاً معروف . وأمّا كونه من الصالحين فمعناه أنّه من الأنبياء الصالحين أو من القوم الصالحين ، وهم أهل بيته . { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } قالوا إنّ السؤال للتعجّب . وأكثروا في ذلك السؤال والجواب . وتقدّم قول الأستاذ الإمام في ذلك . وهو أفضل ما قيل فيه . ولبعضهم كلام في المسألة لا يليق بمقام الأنبياء عليهم السلام . ولا يمنع مانع ما أن يكون الاستفهام على ظاهره وأن يكون قد قاله تشوّفاً إلى معرفة الكيفية التي يكون بها الإنتاج مع عدم توفر الأسباب العادية له بكبر سنّه وعقر زوجه { قَالَ } تعالى والظاهر أنّه بواسطة الملائكة { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } فإنّه متى شاء أمراً أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة لا يحول دون مشيئته شيء ، فعليك أن تفوّض الأمر إليه في هذه الكيفية { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } أي علامة تتقدّم هذه العناية وتؤذن بها . ومن سخافات بعض المفسّرين التي أومأنا إليها آنفاً زعمهم إنّ زكريا عليه السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم بوحي الشياطين . ولذلك سأل سؤال التعجّب ، ثمّ طلب آية للتثبّت ، وروى ابن جرير عن السدي وعكرمة أنّ الشيطان هو الذي شكّكه في نداء الملائكة وقال له إنّه من الشيطان . ولولا الجنون بالروايات مهما هزلت وسمحت لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل وليس في الكتاب ما يشير إليه ، ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلاّ هذا لكفى في جرحه ، وأن يضرب بروايته على وجهه ، فعفا الله عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية ممّا ينشر . { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } قيل معناه أن تعجز عن خطاب الناس بحصر يعتري لسانك إذا أردته ويرجّحه أنّ الآية تكون بغير المعتاد وقيل معناه أن تترك ذلك مختاراً لتفرغ لعبادة الله ويؤيّده قوله : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } والمشهور الأول وللمفسّرين روايات سقيمة فيه ، منها إنّ هذه الآية عقوبة عاقبه الله تعالى بها أن طلب الآية بعد تبشير الملائكة ومنها أنّ لسانه ربا في فيه حتّى ملأه ومثل هذا السخف لا يجوز ذكره إلاّ لأجل ردّه على قائله وضرب وجهه به . وفي إنجيل لوقا إنّ جبريل قال لزكريا : " 1 : 20 وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنّك لم تصدّق كلامي الذي سيتم في وقته " . وقال الأستاذ الإمام : الصواب إنّ زكريا أحبّ بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعيّن لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه ، ويبشّر أهله ، فسأل عن الكيفية ، ولمّا أجيب بما أجيب به سأل ربّه أن يخصّه بعبادة يتعجّل بها شكره ، ويكون إتمامه إيّاها آية وعلامة على حصول المقصود ، فأمره بأن لا يكلّم الناس ثلاثة أيّام بل ينقطع للذكر والتسبيح مساء صباح مدّة ثلاثة أيّام فإذا احتيج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماءً ، وعلى هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال . واختلفوا في الرمز هل كان بالقول الخفي وتحريك الشفتين أم بغيرهما من الأعضاء كالعينين والحاجبين والرأس واليدين لأنّ الرمز والإيماء يكون بكل ذلك . والعشي من الزوال إلى الغروب . وقيل من الغروب إلى ذهاب صدر من الليل وقال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح . والإبكار من الصباح إلى الضحى .