Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 45-51)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } شروع في خبر عيسى نفسه بعد قصّة أمّه وقصّة زكريا عليهم السلام وهو بدل من قوله : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ } [ آل عمران : 42 ] وما بينهما اعتراض ناطق بحكمة نزول الآيات مبيّن وجه دلالتها على صدق من أنزلت عليه . والمعنى أن الملائكة بشّرت مريم بالولد الصالح حين بشّرتها بإصطفاء الله إيّاها وتطهيره لها وأمرتها بمزيد عبادته والاستغراق في شكره . والمراد بالملائكة هنا الروح جبريل لقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] إلخ الآيات وذكر بلفظ الجمع لما تقدّم في قصّة زكريا ، أو لأنّه كان معه غيره . وفي لفظ ( كلمة ) أربعة وجوه : أحدها : أنّ المراد بالكلمة كلمة التكوين لا كلمة الوحي . ذلك أنّه لمّا كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الباري عزّ وجلّ ممّا يعلو عقول البشر عبّر عنه سبحانه بقوله : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فكلمة " كن " هي كلمة التكوين وسيأتي تفسيرها وهاهنا يقال أنّ كلّ شيء قد خلق بكلمة التكوين فلماذا خصّ المسيح بإطلاق الكلمة عليه وأجيب عن ذلك بأنّ الأشياء تنسب في العادة والعرف العام في البشر إلى أسبابها ولمّا فقد في تكوين المسيح وعلوق أمّه به ما جعله الله سبباً للعلوق وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البيوض التي يتكوّن منها الجنين أضيف هذا التكوين إلى كلمة الله ، وأطلقت الكلمة على المكون إيذاناً بذلك أو جعل كأنّه نفس الكلمة مبالغة . وهذا هو الوجه المشهور . الوجه الثاني : أنّه أطلق على المسيح للإشارة إلى بشارة الأنبياء به فهو قد عرّف بكلمة الله أي بوحيه لأنبيائه . قاله الأستاذ الإمام والكلمة تطلق على الكلام كقوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 171 ] إلخ . الوجه الثالث : أنّه أطلق عليه لفظ الكلمة لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرّفه قومه اليهود حتّى أخرجوه عن وجهه وجعلوا الدين مادياً محضاً قاله الرازي وجعله من قبيل وصف الناس للسلطان العادل بظلّ الله ونور الله لما أنّه سبب لظهور ظلّ العدل ونور الإحسان قال فكذلك كان عيسى سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته له وإزالة الشبهات والتحريفات عنه . الوجه الرابع : أنّ المراد بالكلمة كلمة البشارة لأمّه فقوله بكلمة منه معناه بخبر من عنده أو بشارة وهو كقول القائل ألقى إلى فلان كلمة سرّني بها بمعنى أخبرني خبراً فرحت به قاله ابن جرير واستشهد له بقوله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } [ النساء : 171 ] يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها قال فتأويل القول وما كنت يا محمّد عند القوم إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك ببشرى من عنده هي ولد لك اسمه المسيح عيسى بن مريم ثمّ قال مستدلاً على هذا ما نصّه : ولذلك قال عزّ وجلّ اسمه المسيح فذكر ولم يقل اسمها فيؤنث والكلمة مؤنثة لأنّ الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان وإنّما هي بمعنى البشارة ، فذكرت كنايتها كما تذكر كناية الذرية والدابة والألقاب إلى آخر ما أطال به في المسألة من جهة العربية . أمّا لفظ " المسيح " فمعرب وأصله العبراني " مشيحاً " بالمعجمة ومعناه المسيح وهو لقب الملك عندهم لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كلّ من يتولّى الملك بالدهن المقدّس وهم يعبّرون عن تولية الملك بالمسح وعن الملك بالمسيح وقد اشتهر أنّ أنبياءهم بشّروهم بمسيح يظهر فيهم وأنّهم كانوا يعتقدون أنّه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض فلمّا ظهر عيسى عليه السلام وسمّي بالمسيح آمن به قوم . وقالوا إنّه هو الذي بشّر به الأنبياء ولا يزال سائر اليهود يعتقدون أنّ البشارة لمّا يأت تأويلها ، وأنّه لا بدّ أن يظهر فيهم ملك . وقد بيّن الأستاذ الإمام معنى صدق لفظ المسيح على عيسى عليه السلام بحسب عرفهم فقال : إنّ الناس إنّما يولون الملك عليهم لأجل تقرير العدل فيهم ورفع أثقال الظلم عنهم وقد فعل المسيح ذلك . فإنّ اليهود كانوا عند بعثته فيهم متمسّكين بظواهر ألفاظ الكتاب وخاضعين لأفهام الكتبة والفريسيين وأوهامهم حتّى أرهقهم ذلك عسراً وتركهم يئنون من الظلم وأثقال التكاليف . فرفع المسيح ذلك عنهم بإرجاعهم إلى مقاصد الدين وحملهم على الأخوة الرافعة للظلم . أقول : وقد نقلوا عنه ما يفيد هذا المعنى وهو أنّ مملكته روحانية لا جسدية . وقد لاح لي عند الكتابة أنّ قوله تعالى : { ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى } يراد به أنّ لفظ المسيح هنا أجرى مجرى العلم لا مجرى الوصف ، والعلم المشتق لا يشترط فيه أن يكون مسمّاه متّصفاً بالمعنى الذي يدلّ عليه إذا استعمل وصفاً . فإذا وضعت لفظ " على " علماً على رجل يصير مدلوله شخص ذلك الرجل سواء كان ذا علو أم لا وإذا سمّيت ابنتك " ملكة " لم يكن لأحد أن يفسّر اللفظ بالمعنى الذي وضع له اللفظ قبل العلمية . وقد يجوز أن يلمح المعنى الذي ينقل لفظه إلى العلمية أحياناً . وقد ذكر المفسّرون بضعة وجوه لتفسير لفظ المسيح بناءً على أنّه مشتق من المسح ولا حاجة إلى ذكر شيء منها . وأمّا لفظ " عيسى " فهو معرب يشوع بقلب الحروف بعد جعل المعجمة مهملة وهذا يكثر في المنقول من العبرانية إلى العربية . فسين المسيح وموسى شين في العبرانية وكذلك سين شمس فهي عندهم بمعجمتين . وإنّما قيل : ابن مريم مع كون الخطاب لها ، إعلاماً لها بأنّه ينسب إليها . لأنّه ليس له أب ولذلك قالت بعد البشارة { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ } إلخ . وقوله تعالى في وصفه { وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } معناه أنّه يكون ذا وجاهة وكرامة في الدارين فالوجيه ذو الجاه والوجاهة . والمادّة مأخوذة من الوجه حتّى قالوا إنّ لفظ الجاه أصله وجه ، فنقلت الواو إلى موضع العين ، فقلبت ألفاَ ثمّ اشتقوا منه . فقالوا : جاه فلان يجوه ، كما قالوا وجه يوجه ، وذو الجاه يسمّى وجهاً كما يسمّى وجيهاً ويقال إنّ لفلان وجهاً عند السلطان كما يقال إنّ له جاهاً ووجاهة وكأنّ الأصل في الوجيه من يعظم ويحترم عند المواجهة لما له من المكانة في النفوس . وقال الإمام الغزالي : الجاه ملك القلوب . قال الأستاذ الإمام : إنّ كون المسيح ذا جاه ومكانة في الآخرة ظاهر . وأمّا وجاهته في الدنيا فهي قد تكون موضع إشكال لما عرف من إمتهان اليهود له ومطاردتهم إيّاه على فقره وضعف عصبيته . والجواب عن ذلك سهل وهو أنّ الوجيه في الحقيقة من كانت له مكانة في القلوب . وإحترام ثابت في النفوس ، ولا يكون أحد كذلك حتّى يكون له أثر حقيقي ثابت من شأنه أن يدوم بعده زمناً طويلاً أو غير طويل . ولا ينكر أحد أنّ منزلة المسيح في نفوس المؤمنين به كانت عظيمة جدّاً وأن ما جاء به من الإصلاح هو من الحقّ الثابت . وقد بقى أثره بعده . فهذه الوجاهة أعلى وأرفع من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون في الظواهر لظلمهم واتّقاء شرّهم أو لدهانهم والتزلّف إليهم ، رجاء الإنتفاع بشيء ممّا في أيديهم من عرض الحياة الدنيا لأنّ هذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلاّ الكراهة والبغض والانتقاص وتلك وجاهة حقيقية مستحوذة على القلوب . وحقيقة الوجاهة في الآخرة : هي أن يكون الوجيه في مكان علي ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها فيجلّونه ويعلمون أنّه مقرّب من الله تعالى ولا يمكننا أن نحدّدها ونعرف بماذا تكون . قال قائل في الدرس : إنّ هذه الوجاهة تكون بالشفاعة . فقال الأستاذ الإمام : إنّ الآية لم تبيّن ذلك ، على أنّكم تقولون إنّ هذه الشفاعة عامّة لكل نبي وعالم وصالح فما هي مزية المسيح إذن ؟ ولمّا كانت الوجاهة متعلّقة بالناس وما يعود من مطارح أنظارهم على شعور قلوبهم وخطرات أفكارهم قال تعالى فيه : { وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } أي هو مع ذلك من عباد الله المقربين إليه عزّ وجلّ . فما ينعكس عن أنظار الناظرين إليه هناك إلى مرايا قلوبهم حقيقي في نفسه . { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } ، قال الأستاذ الإمام : الجملة معطوفة على ما قبلها ولا يضرّ عطف الفعل على الاسم ؛ والكهل الرجل التامّ السوي من غير تقييد بسنّ معيّنة ، والكلام في المهد يصدق ممّا يكون في سنّ الكلام ، وهي سنّة فأكثر وما يكون قبل ذلك ، وهو آية على كلّ تقدير . لأنّ تعديته إلى الناس تفيد أنّه يكلّمهم كلام التفاهم ، وكلام الأطفال في المهد لا يكون كذلك عادة . وفي قوله " وكهلاً " بشارة بأنّه يعيش إلى أن يكون رجلاً سوياً كاملاً { وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } الذين أنعم الله عليهم وأصلحّ حالهم وهم الأنبياء الذين تعرف مريم سيرتهم . { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } أي كيف يكون لي ولد والحال أنّني لم أتزوّج ، فالمسّ كناية ظاهرة ، والاستفهام على حقيقته في وجه . ومعناه هل يكون ذلك بزواج يطرأ أم بمحض القدرة ؟ وفي وجه آخر : للتعجب من قدرة الله والاستعظام لشأنه { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي كمثل هذا الخلق البديع يخلق الله ما يشاء ، فإنّ من شأنه الاختراع والإبداع . أقول : وعبّر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل ، وكلّ منهما خلق وفعل ، لكن لفظ الفعل يستعمل كثيراً فيما يجري على قانون الأسباب المعروفة . ولفظ الخلق يستعمل في الإبداع والإيجاد ولو بغير ما يعرف من الأسباب . فيقال : خلق السماوات والأرض ولا يقال فعل السماوات والأرض ، ولمّا كان إيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس عبّر عنه بالفعل ، وإن كان فيه آية لزكريا أنّ هذين الزوجين لا يولد لمثلهما عادةً وأمّا إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد لأنّه من أمّ غير زوج في الظاهر ، فكان بالأمور المبتدأة بمحض القدرة أشبه ، والتعبير عنه بالخلق أليق ، وإن كان له سبب روحاني جعل أمّه بمعنى الزوج كما سيأتي ولكن هذا السبب غير معهود للناس ولا معروف لهم ، فمريم لا تعرفه . ولكنّها كانت مؤمنة بالله موقنة بقدرته على كلّ شيء ولذلك أحالها في البشارة على مشيئته لتكون موقنة فقال : { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً } أي إذا أراد شيئاً ، كما عبّر في آية أخرى . فالقضاء بمعنى الإرادة { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } قالوا إنّ هذا ورد مورد التمثيل لكمال قدرته ونفوذ مشيئته ، والتصوير لسرعة حصول ما يريد بغير ريث ولا تأخر ، بتشبيه حدوث ما يريده عند تعلّق إرادته به حالاً بطاعة المأمور القادر على العمل للآمر المطاع . ويسمّون الأمر بكن أمر التكوين . ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] أي أراد أن يكونا فكانتا ، ويقابله أمر التكليف الذي يعرف بوحي الله لأنبيائه . وقد مرّ الإلماع لهذا من قبل . وأقول : اعلم أنّ الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جموداً على العادات ؛ وذهولاً عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات ، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين ولكن لا دليل لهم إلاّ أنّ هذا غير معتاد ، وهم في كلّ يوم يرون من شؤون الكون ما لم يكن معتاداً من قبل فمنه ما يعرفون له سبباً ويعبّرون عنه بالاكتشاف والاختراع ومنه ما لا يعرفون له سبباً ويعبّرون عنه بفلتات الطبيعة . ونحن معاشر المؤمنين نقول إنّ تلك الأشياء المعبّر عنها بالفلتات ، إمّا أن يكون لها سبب خفي وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أنّ بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة فلا ينكروا كلّ ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه . ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك . وإمّا أن تكون قد وجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب ، وحينئذ يجب أن يعترفوا بأنّ الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوباً عقلياً مطرداً وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئاً ما ويعده مستحيلاً لأنّه لا يعرف له سبباً . ولعلّ أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير المألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس ما لو حدث به عقلاء الغابرين . لعدّوه من خرافات الدجّالين ؛ ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متّفقين على إمكان التولّد الذاتي ، أي تولّد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم . وإذا كان تولّد الحيوان من الجماد جائزاً فتولّد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول . نعم إنّه خلاف الأصل وأنّ كونه جائزاً لا يقتضي وقوعه بالفعل . ونحن نستدلّ على وقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه . ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين : أحدهما : أنّ الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب ويستحوذ على المجموع العصبي يحدث في عالم المادّة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد . فكم من سليم اعتقد أنّه مصاب بمرض كذا وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض ، فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحيّة وصار مريضاً . وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقداً أنّه سمّ ناقع فمات مسموماً به ، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب ، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول : إنّ مريم لمّا بشّرت بأنّ الله تعالى سيهب لها ولداً بمحض قدرته ، وهي على ما هي عليه من صحّة الإيمان وقوّة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد إنفعالاً فعل في الرحم فعل التلقيح ، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت ، وفي مزاج المريض فيبرأ ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متمماً لهذا التأثير . الوجه الثاني : وهو أقرب إلى الحقّ ، وإن كان أخفى وأدقّ ، وبيانه يتوقف على مقدّمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح . وهي أنّ المخلوقات قسمان : أجسام كثيفة وأرواح لطيفة ، وأنّ اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون من النمو أو يكون النمو منه . فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء ، والهواء روح . ولذلك كان من أسمائه إذا تحرّك الريح ، وأصلها روح بكسر الراء ولأجل الكسر قلبت الواو ياءً لتناسبه . والماء الذي منه كلّ شيء حي مركّب من روحين لطيفين وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطاً بين الكثيف واللطيف ، ولكنّه أقرب إلى الثاني . والكهربائية من الأرواح وناهيك بفعلها في الأشباح . فهذه الموجودات اللطيفة التي سمّيناها أرواحاً هي التي تحدث معظم التغيّر الذي نشاهده في الكون ، حتّى أنّنا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ممّا لم يكن يخطر على بال أحد من قدماء فلاسفتنا ، ويعتقد علماؤنا اليوم أنّ ما سيظهر منها في المستقبل أجل وأعظم . فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنّها تدرك وتريد ، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم ! ! إذا تمهّد هذا فنقول : إنّ الله المسخّر للأرواح المنبثّة في الكائنات قد أرسل روحاً من عنده إلى مريم فتمثّل لها بشراً ونفخ فيها ، فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها ، فحملت بعيسى عليه السلام ، وهل حملت إليها تلك النفخة مادّة أم لا ؟ الله أعلم . أمّا البحث في تمثّل هذه الأرواح التي تسمّى بلسان الشرع الملائكة فسيأتي الكلام عليه في تفسير قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] إذا أنسأ الله لنا في الأجل ووفّقنا للمضي في هذا العمل ( التفسير ) والأستاذ الإمام لم يتعرّض لهذا البحث . { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } قرأ نافع وعاصم ( ويعلّمه ) بالياء والباقون ( ونعلّمه ) بالنون . والكتاب هنا الكتابة بالخط والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع ، ويقف بالعامل على الصراط المستقيم لما فيه من البصيرة وفقه الأحكام وأسرار المسائل . والتوراة كتاب موسى فقد كان المسيح عالماً به يبيّن أسراره لقومه ، ويقيم عليهم الحجج بنصوصه ، والإنجيل هو ما أوحي إليه نفسه . وقد تقدّم في تفسير أوّل السورة الكلام فيهما . والكلام معطوف على قوله : { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ } وآية { قَالَتْ رَبِّ } معترضة بينهما { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي ويرسله أو يجعله ( بالياء أو النون ) رسولاً إلى بني إسرائيل ، فحذف لفظ يرسله أو يجعله لدلالة الكلام عليه ، كما قال الشاعر : @ ورأيت روحك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً @@ وقال الأستاذ الإمام : إنّ الرسول هنا بمعنى الرسالة ، والتقدير : ويعلّمه الرسالة إلى بني إسرائيل ، واستعمال لفظ الرسول بمعنى الرسالة شائع . قال كثير : @ لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول @@ وفي رواية " برسيل " قال وبعض المفسّرين يجعل الرسول بمعنى الناطق أي ناطقاً إلى بني إسرائيل { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أقول : والمعنى على التقدير الأول أنّه يرسله محتجّاً على صدق رسالته بأنّي قد جئتكم بآية من ربّكم ، وفسّر الآية بقوله : { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } قال الأستاذ الإمام : الخلق التقدير والترتيب لا الإنشاء والاختراع ويقرب أن يكون هذا إجماعاً من المفسّرين ، وفسّره الجلال هنا بالتصوير لأنه من التقدير . أقول : وذكر الجلال كغيره أنّه كان يتخذ من الطين صورة خفّاش ، فينفخ فيها فتحلّها الحياة وتتحرّك في يده ، وقال بعضهم بل تطير قليلاً ثمّ تسقط . قال الأستاذ الإمام : ولا حاجة إلى هذه التفصيلات ، بل نقف عند لفظ الآية . وغاية ما يفهم منها إنّ الله تعالى جعل فيه هذا السرّ ولكن لم يقل إنّه خلق بالفعل ، ولم يرد عن المعصوم إنّ شيئاً من ذلك وقع ، وقد جرت سنّة الله تعالى أن تجري الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفاً عليها فإن كانوا سألوه شيئاً من ذلك فقد جاء به ، وكذلك يقال في قوله : { وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } فإنّ قصارى ما تدلّ عليه العبارة أنّه خص بذلك وأمر بأن يحتجّ به . والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجّة على منكري نبوّته كما تقدّم وأمّا وقوع ذلك كلّه أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتجّ به في مثل ذلك . هذا ما قاله الأستاذ الإمام : ومن الغريب أنّ ابن جرير يروي عن ابن إسحاق " أنّ عيسى صلوات الله عليه جلس يوماً مع غلمان من الكتاب فأخذ طيناً ثمّ قال : أجعل لكم من هذا الطين طائراً ، قالوا وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم بإذن ربّي ثّم هيّأه حتّى إذا جعله في هيئة الطائر فنفخ فيه ، ثمّ قال كن طائراً بإذن الله ، فخرج يطير بين كفيّه " فكأنّه اتّخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان . والحاصل أنّه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير بل ولا عند النصارى الذين يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية إلاّ ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم . ولعلّ آية سورة المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية وهي : { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ المائدة : 110 ] فإنّ جعل ذلك كلّه متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلاّ أن يقال إنّ جعل هذه الآيات ممّا يجري على يديه عند طلبه منه والحاجة إلى تحدّيه به من أجل النعم وأعظمها ولكن هذا خلاف الظاهر . ومقتضى مذهب الصوفية أنّ روحانية عيسى كانت غالبة على جثمانيته أكثر من سائر الروحانيين لأنّ أمّه حملت به من الروح الذي تمثّل لها بشراً سويّاً فكان تجرده من المادّة الكثيفة للتصرف بسلطان الروح من قبيل الملكة الراسخة فيه وبذلك كان إذا نفخ من روحه في صورة رطبة من الطين تحلها الحياة حتى تهتزّ وتتحرّك وإذا توجّه بروحانيته إلى روح فارقت جسدها أمكنه أن يستحضرها ويعيد اتّصالها ببدنها زمناً ما ؛ ولكن روحانيه البشر لا تصل إلى درجة إحياء من مات فصار رميماً . ويؤيّد ذلك ما ينقله النصارى من إحياء المسيح للموتى . فإنّهم قالوا إنّه أحيا بنتاً قبل أن تدفن وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ، ولم ينقل أنّه أحيا ميّتاً كان رميماً . وأمّا إبراء الأكمه والأبرص بالقوّة الروحانية فهو أقرب إلى ما يعهد الناس لا سيّما مع اعتقاد المريض ويقول مجاهد : إنّ الأكمه من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار . والمشهور أنّه من ولد أعمى . وأمّا الإخبار ببعض المغيبات فقد أوتيه كثيرون من الأنبياء وممّن دون الأنبياء { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي إنّ فيما ذكر لحجّة لكم على صدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدّقين بقدرته الكاملة . ومن مباحث اللفظ : أنّ قوله : " فأنفخ فيه " يعود إلى الطير أو إلى ما ذكر . { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } أي أنّه لم يأت ناسخاً للتوراة بل مصدّقاً لها عاملاً بها ، ولكنّه نسخ بعض أحكامها كما قال : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فقد كان حرّم على بني إسرائيل بعض الطيّبات بظلمهم وكثرة سؤالهم فأحلّها عيسى { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } قال الأستاذ الإمام : أعاد ذكر الآية للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } أمرهم بتقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه ، وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف بالعبودية وقال في ذلك : { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي أقرب موصل إلى الله .