Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 42-44)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } معطوف على قوله : { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] متعلّق بقوله قبله : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ آل عمران : 34 ] وهذا الخطاب ليس بشرع خصّت به وإنّما هو إلهام بمكانتها عند الله ربما يجب عليها من الشكر بدوام القنوت والصلاة ومن اعتقد إنّه مكرّم إجتهد في المحافظة على كرامته وتباعد أشدّ التباعد عن كلّ ما ينقص منها فقول الملائكة لها { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قد زادها بمقتضى سنّة الفطرة تعلّقاً بالكمال كما زادها روحانية بتأثير تلك الأرواح الطيّبة التي أمدّت روحها الطاهرة . والإصطفاء الأول هو قبولها محرّرة لخدمة الله في بيته وكان ذلك خاصّاً بالرجال والتطهير قد فسّر بعدم الحيض وبذلك كانت أهلاً لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد . وروي أنّ السيّدة فاطمة الزهراء ما كانت تحيض وأنّها لذلك لقّبت بالزهراء . وقال الجلال إنّه التطهير من مسيس الرجال واختار الأستاذ الإمام حمله على ما هو أعمّ من هذا وذاك ، أي طهّرك ممّا يستقبح كسفساف الأخلاق وذميم الصفات وغير ذلك . والإصطفاء الثاني ما اختصّت به من خطاب الملائكة وكمال الهداية . وقال الأستاذ الإمام : هو جعلها تلد نبيّاً من غير أن يمسّها رجل ، فهو على هذا إصطفاء لم يكن قد تحقّق بالفعل بل بالإعداد والتهيئة . وبحثوا هنا في قوله : { عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } هل المراد به عالموا زمانها - كما يقال أرسطو أعظم الفلاسفة ويفهم منه فلاسفة زمانه أو أُمّته - أم جميع العالمين . وفي الأحاديث إنّ أفضل النساء مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهنّ . { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } أي الزمي طاعته مع الخضوع له { وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } السجود التطامن والتذلّل ، والركوع والإنحناء ويستعمل في لازمه وسببه وهو التواضع والخشوع في العبادة أو غيرها . وركوعها مع الراكعين عبارة عن صلاتها مع المصلّين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابه كما تقدّم . وقد أطلق الركوع والسجود في صلاتنا على العمل المعلوم وهو استعمال للفظ في حقيقته ومجازه إذ الدين يطالبنا بالخشوع واستشعار التواضع في هذا الإنحناء والتطامن ولم تكن صلاة اليهود كصلاتنا في أعمالها وصورتها ، ولكنهم طولبوا فيها بمثل ما طولبنا من الخشوع والتذلّل لله تعالى . { ذٰلِكَ } الذي قصصناه عليك يا محمّد من أخبار مريم وزكريا { مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ } لم تشهده أنت ولا أحد من قومك ، ولم تطلع على شيء منه في الكتاب وإنّما نحن { نُوحِيهِ إِلَيكَ } بإنزال الروح الأمين الذي خاطب مريم وزكريا بما خاطبهما به على قلبك وإلقائه في روعك خبر ما وقع بين بني إسرائيل في ذلك وغير ذلك . فضمير " نوحيه " راجع إلى الغيب { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } أي قداحهم المبرية ، فالسهام والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون تسمّى أقلاماً { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } أي يستهمون بهذه الأقلام ويقترعون على كفالة مريم ، حتّى قرعهم زكريا فكان كافلها { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في ذلك ولم يتّفقوا على كفالتها إلاّ بعد القرعة . قال الأستاذ الإمام : أعقب هذه القصّة بهذه الآية الناطقة بأنّها من أنباء الغيب وأخّر خبر إلقاء الأقلام لكفالة مريم وذكره في سياق نفي حضور النبي صلى الله عليه وسلم مجلس القوم وشهود ما جرى منهم . ولا بدّ لهذه العناية من نكتة وقد قالوا في بيانها : إنّ كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم ولم يروها سماعاً عن أحد معلوم عند منكري نبوّته فلم يبق له طريق للعلم بها إلاّ مشاهدتها فنفاها تهكّماً بهم وبذلك تعيّن أنّه لم يبق له طريق لمعرفتها إلاّ وحي الله تعالى إليه بها . وهذا الجواب منقوض وإن اتّفق عليه من نعرف من المفسّرين وذلك إنّ القرآن نطق بأنّهم قالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] : { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا } [ الفرقان : 5 ] قال : والصواب أنّ النكتة في النصّ على نفي حضور النبي القوم إذ يلقون أقلامهم أي بعد النصّ على كون القصّة من أنباء الغيب هي أنّ هذه المسألة لم تكن معلومة عند أهل الكتاب فيكون للمنكرين شبهة على أنّه أخذها عنهم . أقول : ويرد على هذا قوله تعالى في آخر قصّة يوسف : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ يوسف : 102 ] وإذا كان بعض المجاحدين قد ادّعوا أنّه يعلمه بشر فهذه الدعوى قدّرها القرآن بقوله : { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] ورد أنّهم قالوا هذا إذ رأوه يقف على قين ( حداد ) روي بمكّة وذلك القين لم يكن يحسن العربية ، وأنّي للقين بمثل هذا العلم ؟ عرف العربية أم لم يعرفها . فالقرآن لا يعتدّ بتلك الشبهة إذ الأمّي الناشئ بين الأمّيين لا يمكن أن يتلقّى أخبار الأولين من حداد ولا من عالم كحبر أو راهب بمجرد وقوفه عليه أو اجتماعه به ولو أمكن ذلك عادةً أو عقلاً لما كان لعاقل أن يثق بحفظ ذلك القين أو غير القين وبأمانته في النقل ولا يختلف أحد من المنكرين لنبوّته صلى الله عليه وسلم في كمال عقله وسمو إدراكه وفطنته . ولا شكّ في أنّ إتيانه في هذه القصص بما لا يعرفه أهل الكتاب ممّا يؤكّد دفع تلك الشبهة الواهية ويدعم ذلك الأصل الراسخ وهو كونه صلى الله عليه وسلم أمّياً نشأ بين أمّيين لا علم لهم بأخبار الأنبياء مع أممهم كما قال في سورة هود بعد ذكر قصّة نوح عليه السلام : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] وقد سمع كفّار قريش هذه الآية وسائر سورتها ولم يقل أحد منهم بل كنّا نعلمها . ومثل هذا قوله بعد ذكر قصّة موسى وشعيب : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [ القصص : 44 ] إلى آخر الآيات الثلاث . أمّا المجاحدون من أهل الكتاب لا سيّما دعاة النصرانية في هذا الزمان فهم يقولون فيما وافق القرآن به كتبهم أنّه مأخوذ منها بدليل موافقته لها ، وفيما خالفها أنّه غير صحيح بدليل أنّه خالفها ، وفيما لم يوافقها ولم يخالفها به أنّه غير صحيح لأنّه لم يوجد عندنا وهذا منتهى ما يكابر به مناظر مناظراً ، وأبطل ما يرد به خصم على خصم . ويقول المسلمون إنّنا نحتجّ على أنّ ما جاء به القرآن هو الحقّ بما قام من الأدلّة على نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم مع حفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح ومن تلك الدلائل التي يشتمل عليها القرآن معرفة قصص الأنبياء مع كونه أمّياً لم يتعلّم شيئاً كما تقدّم فهي دليل على صحّة نفسها ، وما جاء فيها مخالفاً لما في الكتب السابقة نعده مصحّحاً لما وقع فيها من الغلط والنسيان بانقطاع أسانيدها حتّى أنّ أعظمها وأشهرها كالأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ولا زمن كتابتها ولا اللغة التي كتبت بها أولاً . وقد تقدّم الإلماع إلى ذلك من قبل .