Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 75-77)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا بيان حال أخرى من أحوال أهل الكتاب ، تمثّلها طائفة أخرى تخون الأمانة وتستحلّ أكل أموال من ليس من الإسرائيليين بالباطل غروراً في الدين وتأويلاً للكتاب . وهي قد جاءت في مقابل الطائفة التي تكيد للمسلمين ليرجعوا عن دينهم . وقال الأستاذ الإمام في قوله : { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } إلخ . هذه الآية جاءت ببعض التفصيل لما أجمل في الآيات السابقة من غرور أهل الكتاب وزعمهم أنّهم شعب الله الخاص ، وأنّ الدين والحقّ من خصائصهم . وابتداؤها بالعطف يشعر بمعطوف محذوف حذف إيجازاً ، لأنّ السياق لا يقتضي ذكره وهو مبيّن في آيات أخرى كقوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } [ آل عمران : 113 ] إلخ . فكأنّه هاهنا يعطف على ما هنالك أي منهم كذا ومنهم كذا . وإنّما قال : كأنّه لأنّ آية " من أهل الكتاب " إلخ في هذه السورة وهي متأخّرة عن هذه الآيات . ولعلّ جعله معطوفاً على ما قبله باعتبار المفهوم أقرب ، فكأنّه قال منهم طائفة تكيد للمسلمين ومنهم من يستحلّ أكل أموالهم وأموال غيرهم ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً وإنّما أعاد ذكر { أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ } ولم يبتدئ الآية بقوله : { وَمِنْهُمْ } - والكلام فيهم - للإشعار بأنهم فعلوا ذلك باسم الكتاب الذي حرّفوا نهيه عن أكل أموال الناس بالباطل فزعموا أنّه لم ينههم إلاّ عن خيانة إخوتهم الإسرائيليين . وقد تقدّم تفسير القنطار [ آية 14 ] وقوله : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } معناه إلاّ مدّة دوامك أيّها المؤتمن له قائماً على رأسه تلحّ بالمطالبة ، أو تلجأ إلى التقاضي والمحاكمة ، { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أي ذلك الترك للأداء بسبب قولهم ليس علينا في أكل أموال الأميين أي العرب تبعة ولا ذنب . فكأنّه يقول إنّ استحلال هذه الخيانة جاءهم من الغرور بشعبهم والغلو في دينهم ، فإنّ ذلك يستتبع إحتقار المخالف إحتقاراً يهضم به حقّه الثابت في المعاملة - قال الأستاذ الإمام : كأنّهم يقولون إنّ كل من ليس من شعب الله الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من نظر الله ومبغوض عنده ، فلا حقوق له ولا حرمة لماله ، فيحلّ أكله متى أمكن ، وقد ردّ الله عليهم هذه المزاعم بقوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إنّ ذلك كذب عليه لأنّ ما كان منه فهو ما جاء في كتابه وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة الأميين وأكل أموالهم بالباطل وهم يعلمون أنّ ذلك ليس فيها ، ولكنّهم لا يأخذون الدين من الكتاب ، وإنّما لجأوا إلى التقليد فعدّوا كلام أحبارهم ديناً ينسبونه إلى الله ، وهؤلاء يقولون في الدين بآرائهم ويحرّفون الكلم عن مواضعه ليؤيّدوا بذلك أقوالهم ، فكلّ هذه الدواهي جاءتهم من هذه الناحية ، ناحية التقليد والأخذ بكلام العلماء في الحلال والحرام ، وهو مما لا يؤخذ فيه إلاّ بكتاب الله ووحيه . وانظر كيف أنصفهم الكتاب فبيّن أنّ منهم الوفي والخائن ، ولا يكون أفراد جميع الأمّة خائنين وناهيك بأمّة منها السمؤل . أقول : وفي خبر هؤلاء المحرّفين من العبرة لنا معشر المسلمين ما فيه ، فإنّ فينا من يقول الآن إنّه يجوز أكل أموال غير المسلمين بل المسلمين في دار الحرب مطلقاً ثمّ إنّ هؤلاء يفسرون دار الحرب كما يشاءون حتى رأيت بعض الناس يحلّون لعمّال مركبات الترام بمصر أن يخونوا أصحابها ببيع تذكرة الركوب فيها مرتين أو أكثر ويساعدونهم على ذلك وإن استلزمت مساعدتهم الكذب ، فهم بهذا يحلّون الخيانة والسرقة والكذب وهي من كبائر المعاصي التي لا تحلّ في دين ويتناولهم وعيد اليهود في الآية ووعيد قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 116 - 117 ] وما جرأهم على ذلك إلاّ سوء التقليد للفقهاء الذين قالوا بجواز أكل مال الحربي في داره بالعقود الفاسدة التي لا تحلّ في دار الإسلام كالربا والبيع الفاسد . ولكن هؤلاء الفقهاء لا يحلّون الغشّ ولا الخيانة ولا السرقة ولا الكذب والإحتيال لذلك ، وإنّما يقولون يجوز أكل ماله برضاه في مثل تلك العقود ، على أنّ المسألة خلافية لم يتفق الفقهاء عليها . فلينظر المسلم الصادق المستنير بالدليل إلى سوء مغبّة التقليد وكيف أنّه استلزم الاجتهاد الباطل إذ صار الجاهلون من المقلّدين يقيسون أكل المال بالغشّ والخيانة والسرقة على أكله بالعقود الفاسدة مع التراضي وبينهما فرق عظيم . ثمّ قال تعالى في بيان الحقّ في المعاملة { بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } العهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك فإذا اتّفق إثنان على أن يقوم كلّ منهما للآخر بشيء مقابلة ومجازاة يقال إنّهما تعاهدا ويقال عاهد فلاناً فلان عهداً فيدخل فيه العقود المؤجّلة والأمانات ، فمن ائتمنك على شيء أو أقرضك مالاً إلى أجل أو باعك بثمن مؤجّل وجب عليك الوفاء بالعهد وأداء حقّه إليه في وقته من غير أن تلجئه إلى التقاضي والإلحاح في الطلب بذلك تقتضي الفطرة وتحتّمه الشريعة . وهذا مثال العهد مع الناس وهو المراد هنا أولاً وبالذات للردّ على أولئك اليهود الذين لم يجعلوا العهد ممّا يجب الوفاء به لذاته وإنّما العبرة عندهم بالمعاهد ، فإن كان إسرائيلياً وجب الوفاء له لأنّه إسرائيلي ومن كان غير إسرائيلي فلا عهد له ولا حقّ يجب الوفاء به . ويدخل في الإطلاق عهد الله تعالى وهو ما يلتزم المؤمن الوفاء له به من اتّباع دينه والعمل بما شرّعه على لسان رسوله وعهد للناس العمل به ، وهو حجّة على اليهود أيضاً فإنّهم ما كانوا يوفون بهذا العهد مع أنّهم يقولون بوجوب الوفاء ولو أوفوا به لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتّبعوا النور الذي أنزل معه كما أوصاهم الله وعهد إليهم على لسان موسى عليه السلام . ولفظ { بَلَىٰ } جاء لإثبات ما نفوه في قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } فهو يقول : بلى عليكم سبيل وأي سبيل ، إذ فرض عليكم الوفاء بالعهد والتقوى ثمّ ذكر جزاء أهل الوفاء والتقوى فقال من أوفى بعهده الذي عاهد به الله أو الناس واتّقى الإخلاف والغدر والاعتداء فإنّ الله يحبّه فيعامله معاملة المحبوب بأن يجعله محلّ عنايته ورحمته في الدنيا والآخرة . قال الأستاذ الإمام ما معناه : إنّ ورود الجواب بهذه العبارة أفادنا قاعدة عامّة من قواعد الدين وهي أنّ الوفاء بالعهود واتّقاء الأخلاف وسائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرّب العبد من ربّه ويجعله أهلاً لمحبّته لا كونه من شعب كذا ، ومن هذه القاعدة يعلم خطأ اليهود في زعمهم أنّه ليس عليهم في الأميين سبيل . وفيه التعريض بأنّ أصحاب هذا الرأي ليسوا من أهل التقوى التي هي الركن الركين لكلّ دين قويم . ثمّ بيّن تعالى جزاء أهل الغدر والإخلاف مع بيان السبب الذي يحملهم على ذلك فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } روى الشيخان وغيرهما أنّ الأشعث قال كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ألك بينة ؟ " قلت لا . فقال لليهودي : " أحلف " فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي ، فأنزل الله { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } الآية . وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أنّ رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت هذه الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : لا منافاة بين الحديثين بل يحمل على أنّ النزول كان بالسببين معاً . وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنّ الآية نزلت في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدّلوه وحلفوا أنّه من عند الله . قال الحافظ ابن حجر : والآية محتملة ولكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح . اهـ . من لباب النقول . ويحتمل أنّ الآية كانت تذكر عند ذكر تلك الوقائع فيظنّ من لم يكن سمعها أنّها نزلت فيها وهي على كلّ حال متصلة بما قبلها متممة له ، والأيمان فيها جمع يمين وهو في الأصل اسم لليد التي تقابل الشمال ثمّ سمّى الحلف والسقم يميناً لأنّ الحالف في العهد يضع يمينه في يمين من يعاهده عند الحلف لتأكيد العهد وتوثيقه حتّى إنّ اللفظ يطلق على العهد نفسه . وقد أضاف العهد هاهنا إلى الله لأنّه تعالى عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون ويتعاقدون عليه ، أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ويتّقوه في جميع الأمور فعهد الله يشملّ كل ذلك . ولمّا كان الناكث للعهد لا ينكث إلاّ لمنفعة يجعلها بدلاً منه عبّر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة ، وسمّى العوض ثمناً قليلاً مع العلم بأنّ بعض الناس لا ينكثون العهد في الأمور الكبيرة إلاّ إذا أوتوا عليه أجراً كبيراً وثمناً كثيراً لأجل أن يبيّن للناس أنّ كلّ ما يؤخذ بدلاً من عهد الله فهو قليل لا سيّما إذا أكّد باليمين لأنّ العهود إذا خزيت اختلّ أمر الدين إذ الوفاء آيته البيّنة بل محوره الذي عليه مداره ، وفسدت مصالح الدنيا إذ تبطل ثقة الناس بعضهم ببعض والثقة روح المعاملات وسلك النظام وأساس العمران ، لأجل هذا كان الوعيد على نكث العهد ولو لأجل المنفعة أشدّ ما نطق به الكتاب وأغلظه وأي عقاب أشدّ من عقاب من لا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب له من النعيم فيها ولا يكلّمه الله كلام إعتاب ولا ينظر إليه نظر عطف ورحمة ولا يزكّيه بالثناء على عمل له صالح أو لا يطهّره من ذنوبه بالعفو والمغفرة وله عذاب أليم ؟ لم يكتف تعالى بحرمان بائعي العهد بالثمن من النعيم وبما أعدّ لهم من العذاب الأليم حتّى بيّن مع ذلك أنّهم يكونون في دركة من الغضب الإلهي لا ترجى لهم فيها رحمة ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة فعدم النظر والكلام كناية عن عدم الاعتداد ومنتهى الغضب الذي لا رجاء معه ولا أمل . إنّ الزنا وشرب الخمر والميسر والربا وعقوق الوالدين من الكبائر ، ولكن الله تعالى لم يتوعّد مرتكبي هذه الموبقات بمثل ما توعّد به ناكثي العهود وخائني الأمانات ، لأنّ مفاسد النكث والخيانة أعظم من جميع المفاسد التي حرّمت لأجلها تلك الجرائم ، فما بال كثير من الناس يدعون التديّن ويتّسمون بسمة الإسلام وهم لا يبالون بالعهود ولا يحفظون الأيمان ويرون ذلك صغيراً من حيث يكبّرون أمر المعاصي التي لم يتعوّدوها لأنّهم لم يتعوّدوها . الإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث في نفس ، وقد عد تعالى أخصّ وصف لزعماء الكفر يبيح قتالهم كونهم لا وفاء لهم بالعهود إذ قال : { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [ التوبة : 12 ] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " آية المنافق ثلاث " - وفي رواية لمسلم : " وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم - إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " رواه الشيخان وغيرهما . وفي رواية لهما : " وإذا عاهد غدر " وروى أحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه أنّه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقال : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " .