Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 69-74)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جاءت هذه الآيات بعد دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء لبيان حالهم في ذلك . وقد قال المفسّرون : إنّ اليهود دعوا معاذاً وحذيفة وعمّاراً إلى دينهم ، فأنزل الله { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } الآية ، ولا شكّ أنّهم كانوا أشدّ الناس حرصاً على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم أم لا . وليس الإضلال خاصّاً بالدعوة بل كانوا يلقون ضروباً من الشكّ في النفوس ليصدّوها عن الإسلام . من أغربها ما في الآية الآتية [ 72 ] . وكان النزاع بين الفريقين مستمراً وهو ما لا بدّ منه في وقت الدعوة ، وقد قال تعالى في بيان حال هذه الطائفة المضلّلة : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } قال الأستاذ الإمام : معناه أنّهم بتوجّههم إلى الإضلال واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية وما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البيّنات على كونه نبيّاً هادياً . فهم يعبثون بعقولهم ويفسدون فطرتهم باختيارهم ، ولا وجه لمن قال : إنّ معنى إضلال أنفسهم هو كون عاقبته شرّاً عليهم ووبالاً في الآخرة لأنّهم يعذّبون عليه فإنّ الكلام في المحاجّة وبيان اعوجاج طريقة المضلّين ، وأمّا العقاب في الآخرة على الإضلال فهو مبين في مواضع من الكتاب وليس هذا محلّه ، وهو لا يفيد هنا في الاحتجاج لأنّه إنذار لغير مؤمن بالنذير . ولكلّ مقام مقال . أقول : وقد أورد الرازي نحو ما قاله الأستاذ الإمام . ووجهاً ثالثاً هو أنّهم لمّا اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثمّ إنّ المؤمنين لم يلتفتوا إليهم صاروا خائنين خاسرين ، حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أنّ الأمر بخلاف ما تصوروه . ولكن ينافي هذا قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ } وهم قد شعروا بخيبتهم في الإضلال ولكنّهم لانهماكهم فيه لم يشعروا بأنّه كان صارفاً لهم عن معرفة الحقّ والهدى لأنّ المنهمك في الشيء لا يكاد يفطن لعواقبه وآثاره . ثمّ إنّه تعالى ناداهم مبيّناً لهم حقيقة ما هم فيه من الضلال لعلّهم يلتفتون إلى أنفسهم التي شغلوا عنها بمحاولة إضلال غيرهم فقال : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ذهب الرازي إلى أنّ هذه الآية موجّهة إلى الطائفة العارفة بما في التوراة من دلائل نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم وما قبلها موجّهة إلى غير العارفين بذلك ، فآيات الله على هذا هي البشارات التي في التوراة ومثلها بشارات الإنجيل ، واللفظ عام يشمل ما في الكتابين . والكفر بها عبارة عن عدم العمل بها . والمختار عندي أنّ الخطاب هنا موجّه إلى جميع أهل الكتاب ، والآيات عامّة في كلّ ما يدلّ على نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما جاء به من القرآن وغيره . وقد كانوا يشهدون هذه الآيات معنًى وحسّاً . وفي الاستفهام من التوبيخ لهم والنعي عليهم ما يليق بمن يكابر الوجود ويجحد المشهور . { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } أي تخلطون الحقّ الذي جاء به الأنبياء ونزلت به الكتب وهو عبادة الله وحده وعمل البرّ والخير والبشارة بنبي من بني إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة - لِمَ تخلطون هذا بالباطل الذي ألحقه به أحباركم ورهبانكم من التأويلات والآراء ، وتجعلون كلّ ذلك ديناً يجب اتّباعه ويحسب أنّه من عند الله كما قال تعالى في آية أخرى تأتي : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 78 ] فلبس الحقّ بالباطل عام يشمل كلّ ما ذكر وقيل هو خاص بالعقائد والأحكام وقوله : { وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } خاص بالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم . والصواب : أنّ هذا عام أيضاً ، فإنّهم كانوا يكتمون بعض الأحكام اتّباعاً للهوى ، فيجعلون الكتاب قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا ، ويأكلون بذلك السحت ، وقد بيّن الله لهم على لسان رسوله كثيراً ممّا كانوا يخفون من الكتاب كما سيأتي في سورة المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى . والآية حجّة على الحشوية المقلّدين من هذه الأمّة الذين يخلطون الحقّ المنزل بآراء الناس ويجعلون كلّ ذلك ديناً سماوياً وشرعاً إلهياً . ثمّ قال تعالى : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قال السيوطي في أسباب النزول روى ابن إسحاق عن ابن عبّاس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أُنزل على محمّد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فأنزل الله فيهم { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } إلى قوله : { وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . أقول : وأخرج ابن جرير عن قتادة أنّه قال : قال بعض أهل الكتاب لبعض : " أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار واكفروا آخره فإنّه أجدر أن يصدّقوكم ، ويعلموا أنّكم قد رأيتم فيه ما تكرهون ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم . وأخرج أيضاً عن السدي أنّه قال فيها كان أحبار قرى عربية اثني عشر حبراً فقالوا : لبعضهم ادخلوا في دين محمّد أول النهار وقولوا نشهد أنّ محمّداً حقّ صادق ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا إنّا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدّثونا أنّ محمّداً كاذب ، وأنتم لستم على شيء ، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم ، لعلّهم يشكون فيقولون هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم ؟ " فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك . وروي أنّهم فعلوا ذلك ولم يقفوا عند حدّ القول فقد أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : " يهود صلّت مع محمّد صلاة الصبح وكفروا آخر النهار مكراً منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه " . وقال الأستاذ الإمام : هذا النوع الذي تحكيه الآية من صدّ اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر ، وهي أنّ من علامة الحقّ أن لا يرجع عنه من يعرفه . وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم فكان ممّا سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الإسلام : " هل يرجع عنه من دخل في دينه ؟ فقال أبو سفيان : لا " وقد أرادت هذه الطائفة أن تغشّ الناس من هذه الناحية ليقولوا لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه ، واطّلعوا على باطنه وخوافيه ، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحقّ بعد معرفته ، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب . فإن قيل : إنّ بعض الناس قد ارتدّوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ومكيدة ، كما كاد هؤلاء . فماذا تقول في هؤلاء ؟ والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى ، وهي إنّ بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أنّه فيه منفعة له لا لاعتقاده أنّه حقّ في نفسه ، فإذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنّه في المنفعة فإنّه يترك ذلك الشيء ، ويظهر لي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتدّ إلاّ لتخويف أولئك الذين كانوا يدبّرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه ، لأنّ مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحقّ ووصلوا فيه إلى عين اليقين ، فإنّها قد تخدع الضعفاء الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان ، كالذين كانوا يعرفون بالمؤلّفة قلوبهم . وبهذا يتّفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له فيما رأى . وقد أفتيت بذلك كما يظهر لي والله أعلم . { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } هذا من قول الكائدين من أهل الكتاب . وآمن له : صدّقه وسلّم له ما يقول قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] وقال حكاية عن أُخوة يوسف : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] . وقال الأستاذ الإمام : إنّ الإيمان يتعدّى باللام إذا أريد بالتصديق الثقة والركون ، كقوله : { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] أي فيكون تصديقاً خاصاً تضمّن معنى زائداً . وذلك أنّ اليهود حصروا الثقة بأنفسهم لزعمهم أنّ النبوّة لا تكون إلاّ فيهم بل غلوا في التعصّب والغرور حتّى حقّروا جميع الناس فجعلوا كلّ ما يكون من أنفسهم حسناً وما يكون من غيرهم قبيحاً . وهذا من الانتكاس الذي يحول بين أهله وبين كلّ خير . وإنّنا نرى من الناس من يحاول تغرير قومه بحملهم على أن يكونوا كذلك يحقّرون كل ما لم يأت منهم وإن كان حسناً ، فنعوذ بالله من الخذلان وعسى أن يعتبر هؤلاء بما ردّ الله به على أهل الكتاب إذ قال لنبيّه { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } لا هدى شعب معيّن هو لازم من لوازم ذاته ، فهو سبحانه يبيّن هداه على لسان من شاء من عباده لا تتقيّد مشيئته بأحد ولا بشعب . أمّا قوله : { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } وقد قرأه ابن كثير " أآن " بهمزتين مع تليين الثانية والباقون بهمزة واحدة - ففيه وجهان : أحدهما : أنّه متّصل بما حكاه تعالى من قول اليهود وجملة { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } اعتراضية بينه وبين ما سبقه . والمعنى ولا تصدّقوا غير من تبع دينكم بأنّ أحداّ يؤتى مثل ما أوتيتم ، أو يقيموا عليكم الحجّة عند ربّكم ، أي لا تعترفوا أمام العرب مثلاً بأنكم تعتقدون أنّه يجوز أن يبعث نبي من غير بني إسرائيل إلخ وهذا مبني على أنّهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعناداً للنبي صلى الله عليه وسلم لا اعتقاداً وأنّهم كانوا لا يصرّحون باعتقادهم المستكن في أنفسهم إلاّ لمن آمنوا له من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة . وهذا الوجه ظاهر على قراءة الجمهور . هذا ما ظهر لي وهو نحو ما جرى عليه الزمخشري في الكشاف كما رأيته بعد . قال : أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاّ لأهل دينكم دون غيرهم . أرادوا : أسروا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلاّ إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام . قال : { وْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } عطف على { أَن يُؤْتَىۤ } والضمير في يحاجوكم لأحد لأنّه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أنّ المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحقّ ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجّة ، فإن قلت : فما معنى الاعتراض ؟ قلت : معناه أنّ الهدى هدى الله من شاء أن يلطف به حتّى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان كذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيفكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين . وكذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهداية والتوفيق . اهـ . كلام الزمخشري أي فهو مؤكّد للاعتراض الأول ، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام . كقوله : { كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 74 ] بعد قوله : { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } [ النمل : 34 ] . قال النيسابوري : فإن قيل إن جدّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمّد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدّهم في حفظ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدلّ على صحّة دين محمّد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟ فالجواب ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم ، بل المراد أنّه إن اتّفق منكم تكلّم بهذا فلا يكن إلاّ عند خويصتكم وأصحاب أسراركم . على أن يحتمل أن يكون شائعاً ، ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان عن غيرهم . هذا ما قاله ، وهو مبني على أنّ المراد من الإيمان إظهاره والظاهر أنّ المراد به النهي عن تصديق من يقول ذلك من غيرهم أي الاعتراف له بأنّه صادق كأنّهم قالوا إذا قال لكم قائل إنّه يجوز أن يؤتى غيركم من النبوّة مثل ما أوتيتم فكذّبوه ولا تؤمنوا له . والمفهوم مسكوت عنه وهو مفهوم مخالفة ، فيه من الخلاف في الأصول ما هو مشهور وإذا قلنا به فإنّه يصدق بأن يؤمنوا لبعض أهل دينهم إذا قالوا بهذا الجواز كالمتّفقين معهم على المكابرة والمكايدة للتنفير عن الإسلام . وأهل الجحود والكيد لا يكابر بعضهم بعضاً فيما هو حجّة للمخالف عليهم جميعاً ، وإنّما يكابرون المخالفين . ثمّ قال النيسابوري : فإن قيل كيف وقع قوله : { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } بيّن جزئي كلام واحد وهذا لا يليق بكلام الفصحاء ؟ قلت قال القفّال يحتمل أن يكون هذا كلاماً أمر الله نبيّه أن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحدّ ، كأنّه لمّا حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حقّ ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفّار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله ، أو لا إله إلاّ الله ، أو تعالى الله ، ثمّ يعود إلى تلك الحكاية . اهـ . أقول : ويجوز على هذا الوجه أن تكون الباء المحذوفة من " أن يؤتى " للسببية ويكون المعنى آمنوا وجه النهار مخادعة واكفروا آخره مكايدة ولا تؤمنوا إيماناً حقيقياً ثابتاً إلاً لمن تبع دينكم وأقرّكم على ما أنتم عليه من التوراة بسبب إتيان أحد كمحمّد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتيتم من النبوّة والوحي أو بسبب ما يخشى من محاجّته لكم عند ربّكم في الآخرة . والسببية معلّقة بالنهي ، أي لا يكن إتيان محمّد بدين حقّ وشرع إلهي كالذي أوتيتموه على لسان موسى سبباً في الإيمان له . وأمّا قراءة ابن كثير بالاستفهام : فأقرب ما تفسّر به على هذا الوجه - أي وجه كون الكلام حكاية عن اليهود - أن يقال : إنّ المصدر الذي يؤخذ من { أَن يُؤْتَىۤ } مبتدأ خبره محذوف للعلم به من قرينة الحال والخطاب . والمعنى : أإتيان أحد بمثل ما أوتيتم يحملكم على الإيمان له وإن لم يتّبع دينكم ؟ أي إنّ هذا منكر لا ينبغي أن يكون . ولم أر هذا ولا ما قبله لأحد . الوجه الثاني : أن يكون قوله : { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } من كلام الله تعالى بناءً على أنّ حكاية كلام اليهود قد إنتهت بقوله : { دِينَكُمْ } وعلى هذا تكون قراءة ابن كثير أظهر . وتقرير المعنى عليها : أتكيدون هذا الكيد كراهة أن يؤتى أحد ما أوتيتم ؟ أو : أإيتاء أحد مثل ما أوتيتم يحملكم على ذلك الباطل ؟ ويحتمل على هذا أن يكون قوله : { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } بمعنى حتّى يحاجّوكم ، إذ وردت { أَوْ } بمعنى { حَتَّىٰ } أو بمعنى الواو كما قيل . أو التقدير : ألأجل أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولمّا يتصل بذلك محاجتكم عند ربّكم كدتم ذلك الكيد ؟ ينكر عليهم ذلك . وأمّا قراءة الجمهور فيجوز أن تحمل على هذه القراءة ، لأنّ أداة الاستفهام يجوز حذفها استغناء عنها بلحن القول وكيفية الأداء . ويجوز فيها وجوه أخرى أظهرها أن يكون المعنى : قل إنّ الهدى الذي هو هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ويحاجّوكم به عند ربّكم في الآخرة ، أي وذلك جائز داخل في مشيئة الله فلا وجه لإنكاره ولذلك أعقبه بقوله : { إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } فالكلام كلّه ردّ عليهم من الله تعالى . وأقوى هذه الوجوه ما يوافق القراءتين وهو إنّ قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ } إلى آخر الآية ردّ عليهم وأنّ قوله : { أَن يُؤْتَىۤ } استفهام إنكاري على القراءتين . والمعنى : أتفعلون ما تفعلون من الكيد للمؤمنين ، ومن كتمان الحقّ عن غير أبناء دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلخ . وعندي أنّ في الكلام لفّاً ونشراً مرتباً وهو أنّ كراهتهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا هو سبب كيدهم للمؤمنين ليرجعوا ، وكراهتهم أن يحاجّهم بعض المؤمنين عند ربّهم هو سبب كتمانهم ذلك عمّن لم يتّبع دينهم أو عدم الإيمان لهم إذا هم ادّعوه ، ويشهد لهذا الأخير : قوله تعالى حكاية عنهم : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 76 ] هذا ما فتح الله عليّ به وله الحمد . وما عدا هذا ممّا أكثروا فيه فانتزاع بعيد من البلاغة لا يقبله الذوق إلاّ باستكراه وتكلّف . وختم الآية بقوله : { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } لبيان سعة فضله وإحاطة علمه بالمستحقّ له وللإشعار بأنّ اليهود قد ضيّقوا بزعمهم حصر النبوّة فيهم - هذا الفضل الواسع وجهلوا كنه هذا العلم المحيط . ثمّ بيّن تعالى أنّ فضله الواسع ورحمته العامّة تابعة لمشيئته لا لوساوس المغرورين من أهل الكتاب الذين حجروهما بجهلهم فقال : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فهو يجعل من يشاء نبيّاً ويبعثه رسولاً ومن اختصه بذلك فإنّما يختصه بمحض فضله العظيم لا بعمل قدمه ، ولا لنسب شرفه ، وإن جهل ذلك الذين يظنّون أنّه تعالى يحابي الأفراد أو الشعوب بذلك وبغيره ، تعالى الله عن ذلك .