Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 163-166)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لا يزال الكلام في أهل الكتاب عامة ، وكان أول هذا السياق أنهم يفرّقون بين الله ورسله ، فيدعون الإيمان ببعضهم ويصرّحون بالكفر ببعض ، وإن هذا عين الكفر ، وإيمان يتبع فيه الهوى ليس من معرفة الله ومعنى رسالته في شيء . ثم ذكر بعده شيء من عناد اليهود خاصة وإعناتهم وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم إن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وبيّن له تعالى إنهم شاغبوا موسى صلى الله عليه وسلم من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك ، وكفروا بعيسى وبهتوا أمه ، وحاولوا قتله وصلبه ، فليس كفرهم وعنادهم ناشئا عن عدم وضوح الدليل ، بل عن عناد أصيل وهوى دخيل ، كأنه يقول له إنه لولا ذلك لبادروا إلى الإيمان بك أيها الرسول ، ولما شاغبوك بهذا القال والقيل ؛ لأن أمر نبوّتك ورسالتك ، أوضح دليلاً وأقوم قيلا مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك . ولهذا ناسب أن يختم الكلام في محاجة اليهود ، ويمهّد للكلام في محاجة النصارى ، ببيان إن الوحي جنس واحد ، وإنه لو كان إيمانهم بمن يدعون الإيمان بهم من الرسل السابقين صحيحاً مبنياً على الفهم والبصيرة ، لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } أي إنا بما لنا من العظمة والإرادة المطلقة اللائقة بمقام الألوهية ، والرحمة الواسعة التي هي شأن الربوبية - قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن ، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الذين يدّعي الإيمان بهم هؤلاء الناس ، ولم ننزل على أحد من أممهم ولا منهم كتابا من السماء ، كما سألوك للتعجيز والعناد ؛ لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي ، وما هو بالأمر المشاهد الحسي ، بل هو أمر روحي ، يعدّ الله له النبي ، { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . الوحي في اللغة يطلق على الإشارة والإيماء ، ومنه قوله تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] وعلى الإلهام الذي يقع في النفس ، وهو أخفى من الإيماء ومنه قوله عز وجل : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [ القصص : 7 ] ويظهر إن هذا بعناية خاصة من الله تعالى ، وعلى ما يكون غريزية دائمة ومنه قوله تعالى : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [ النحل : 68 ] وعلى الإعلام في الخفاء ، وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره ، ومنه قوله تعالى : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [ الأنعام : 112 ] وأطلق على الكتابة والرسالة لما يكون فيهما من التخصيص . ووحي الله إلى أنبيائه هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم بعد إن يكون أعدّ أرواحهم لتلقيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة وعرّفه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد بأنه : " عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله ، بواسطة أو بغير واسطة . والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت . ويفرّق بينه وبين الإلهام ، بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى . وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور " ثم بيّن وجه إمكانه ووقوعه في فصلين لم ينسج أحد على منوالهما . بدأ الله تعالى بذكر نوح ؛ لأنه أقدم بني مرسل ذكر في كتب القوم ( وقصة بعثته في سفر التكوين وهو السفر الأول من الأسفار الخمسة التي يسمونها التوراة ) وإنما تنهض الحجة على الناس إذا كانت مقدماتها معروفة عندهم . ثم خص بعض النبيين الذين جاؤا من بعد نوح بالذكر لشهرتهم وعلو مقامهم عند أهل الكتاب فقال : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ } أي وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده . فأما إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام ، فمجمع على فضله ونبوته عند أهل الكتاب كلهم وعند العرب أيضاً ، وكل أولئك الأنبياء الذين ذكروا بعده من ذريته . ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم واشتهر بلقب ( إسرائيل ) فسائر أنبياء أهل الكتاب من ذريته ، ويسمّون أنبياء بني إسرائيل ، وأما محمد خاتم النبيين والمرسلين ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، فهو من نسل أخيه الأكبر إسماعيل الذبيح صلى الله عليه وسلم . وأما الأسباط ، فجمع سبط ، وهو يطلق على ولد الولد . وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا ، فكل نسل من أولاد يعقوب العشرة وولدي ابنه يوسف وهما ( إفرايم ومنسّى ) يسمى سبطا ، ولذلك قيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل . وأما أبناء يعقوب العشرة آباء الأسباط الأخرى فهم : ( 1 ) رؤبين ( بالهمزة ويخفف فيقال روبين وتصرف فيه بعض العرب فقالوا روبيل ) ( 2 ) شمعون ( 3 ) يهوذا ( 4 ) يسّاكر ( 5 ) زبولون ( 6 ) بنيامين ( 7 ) دان ( 8 ) نفتالي ( 9 ) جاد ( 10 ) أشير فسلالة هؤلاء مع سلالة ابني يوسف هم اثنا عشر سبطا . وأما سلالة ( لاوي ) الابن الثالث ليعقوب فلم تجعل سبطا مستقلا ، بل نيط بهم خدمة دينية خاصة ، ولهم أحكام خاصة بهم . والمراد بالوحي إلى الأسباط ، الوحي إلى الأنبياء الذين بعثوا فيهم ، وخص منهم بالذكر أشهر المرسلين ، لأن لهم كتباً يهتدى بها . وما كل نبي يوحى إليه يكون مرسلا وله كتاب . والمشهور عند المفسرين : إن الأسباط هم أولاد يعقوب ، ولذلك استشكلوا الوحي إليهم وكونهم من النبيين مما بيّنه الله تعالى من كيدهم لأخيهم يوسف وكذبهم على أبيهم وغير ذلك مما لا يليق بالنبيين ، وأجاب بعضهم بأن ذلك كان منهم قبل النبوة ، ولا يرضى هذا من يقول إن الأنبياء ، معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها . وهم يقولون بعموم هذه العصمة ، وإن كان الدليل الذي يحتجون به خاصاً بالرسل منهم ، وقد علمت إن إطلاق لفظ الأسباط على أبناء إسرائيل من صلبه خاصة غلط ، وإن المتفق عليه عند أهل الكتاب عامة هو ما ذكرناه ، وما حاجهم الله تعالى إلا بما هو معروف عندهم ، فالآية لا تدل على نبوة إخوة يوسف من أولاد يعقوب { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } أي وكما أعطينا داود كتاباً خاصاً مزبورا ( أي مكتوبا ) فالزبور بمعنى المزبور ، كالركوب بمعنى المركوب ، وقرأه حمزة وخلف بضم الزاي ، وهو جمع وزن مفرده ووزنه ( كعرق وعروق ) أو ( فلس وفلوس ) وقيل جمع زبور بالفتح ، وقيل مصدر . وهو على كل حال بمعنى كتاب ومكتوب . وقد ذكر بهذا اللفظ ولم يعطف على ما قبله فيفيد مطلق الوحي ، لأن لزبور داود شأنا خاصا في كتب الوحي وعند أهل الكتاب ، هو مع هذه الفائدة موافق لنسق الفواصل فائتلف به اللفظ مع المعنى ، فصاحة وبلاغة وحسنا . { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة ، أوحينا إليهم كما أوحينا إلى هؤلاء ، وهم المسرودة أسماؤهم أو المبيّنه قصصهم في السور المكية ، وأجمع الآيات لأسماء الأنبياء قوله تعالى في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 84 - 86 ] وأجمع السور لقصصهم هود وطسم الشعراء . ومنهم هود وصالح وشعيب وهم من العرب . { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي كالمرسلين إلى الأمم المجهول علمها وتاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك ، كأمم الشرق ، الصين واليابان والهند ، وأمم بلاد الشمال ( أوربة ) وأمم القسم الآخر من الأرض ( أمريكة ) وإنما لم يقص الله تعالى عليه خبر الرسل الذين أرسلهم إلى أولئك الأقوام ؛ لأن حكمة ذكر الرسل وفوائد بيان قصصهم له صلى الله عليه وسلم لا تتحقق بقصص أولئك المجهول حالهم وحال أممهم عند قومه وجيران بلاده من أهل الكتاب . وهذه الحكم والفوائد هي المشار إليها في مثل قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] وقوله : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ هود : 120 ] وقوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 44 - 46 ] . فالعبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى الله عليه وسلم كل ذلك يظهر في قصص من ذكرهم من الرسل ، دون من لم يذكرهم وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل في كل الأمم ، فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معيّن احتكرها لنفسه ، كما كان يزعم أهل الكتاب غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله ولا ينطبق على سعة رحمته تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] وقال : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] وهذه حقيقة من حقائق العلم الإلهي والدين السماوي ، لم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعم مشاغبوهم إن القرآن مقتبس من كتبهم ، وكم فيه من هذه الحقائق ، ولكن طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون . ولا نخوض في إحصاء الأنبياء والرسل فإنه لا يعلم إلا بوحي من الله تعالى ، ولم يبيّن الله ذلك في كتابه ولا رسوله فيما صح من الخبر عنه . { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } خاصا ممتازاً عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين ، ولولا ذلك لم يختلف التعبير ، كما علمت من إيتاء داود الزبور ، وإن صح إن يسمى الوحي إليهم تكليما ، والتكليم لهم وحياً ، كما يفهم من قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } [ الشورى : 51 ] والظاهر إن تكليم موسى كان من النوع الثاني ، وهو التكليم من وراء حجاب ، وقد سماه وحياً في قوله تعالى : { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } [ طه : 13 ] إلخ . أما حقيقة ذلك الوحي والتكليم فليس لنا إن نخوض فيه ، لأننا لم نكن من أهله ، على إننا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا مع بعض بواسطة الأصوات التي تجعل كل ذرة من الهواء متكيفة به ، وهي أعم الوسائط وأظهرها . وأما الحجاب ، فحكمته حصر القوة الروحية والاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه همومها وأهواؤها المتفرقة ، كما كان شأن موسى إذا رأى النار في الشجرة ، وأما الرسول الذي يرسله الله فيوحى إلى النبي بإذنه ما يشاء فهو ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين . واستدل بعضهم بتأكيد الفعل على كون تكليم الله لموسى لم يكن بواسطة الملك ، يعنون إنه لو قال هنا كما قال في سورة البقرة : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } [ البقرة : 253 ] ولم يزد عليه كلمة { تَكْلِيماً } المؤكدة ، لجاز أن يكون التكليم مجازيا ، فإن الفراء قال : إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما - بأي طريق وصل - ما لم يؤكد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام . وقال بعضهم : إنّ هذا التأكيد لا يمنع أن يكون التكليم نفسه مجازيّا ، لأنه يمنع المجاز في الفعل لا في الإسناد ، بل يجوز أن يسند الكلام المؤكد بمثله إلى المبلّغ عن المتكلم ، كما يبلّغ عن الملك حاجبه أو وزيره ، وعن المرأة المحجّبة زوجها أو ولدها . أقول : ومنه إسناد الكلام إلى الترجمان ، إذ المقصد من التكليم توجيه الخطاب إلى المخاطب ، ولو بواسطة الترجمان أو غيره ، والمقصد من الكلام معناه ، إلاّ أن يكون رسالة مقصودة لذاتها . ولكن نقل عنهم تأكيد الفعل المستعمل في حقيقته دون مجازه ، كقول هند بنت النعمان في زوجها روح ابن زنباع وزير عبد الملك بن مروان : @ بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجاً من جذام المطارف @@ فأكدت " عجت " مع العلم بأنه مجاز ؛ لأن المطارف ( جمع مطرف بالكسر والضم وهو رداء من خز له أعلام ) لا تعج ( والعجيج الصياح ) . { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي أرسلنا أولئك الرسل الذين منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ، رسلاً مبشرين من آمن وعمل صالحاً بالأجر العظيم ، ومنذرين من كفر وأجرم بالعذاب الأليم ، { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } بأن يدعوا أنهم ما كفروا وأجرموا ، إلاّ لجهلهم ما يجب عليهم بهدايتهم من الإيمان والعمل الصالح قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [ طه : 134 ] وقال عز وجل : { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ القصص : 47 ] ثم قال في هذه السورة القصص : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] وقال سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وقال تبارك اسمه : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } [ الأنعام : 155 - 157 ] . المتبادر من الشواهد الأولى إنها في عذاب الدنيا ، سواء كان بالاستئصال ، أو فقد الاستقلال ، وهو المشار إليه بالهلاك ، أو بما دون ذلك وهو المشار إليه بالمصيبة . وأما الشاهد الأخير فيظهر إنه أعم ، وقد جاء بعده الوعيد بسوء العذاب ، والتهديد بقوله { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] وفيه تهديد بعذاب الدنيا ، أو بالموت وقيام الساعة العامة أو الخاصة ، ويعقب ذلك عذاب الآخرة . وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي مطلقة ، والمتبادر منها إن من حكمة إرسال الرسل ، قطع حجّة الناس واعتذارهم بالجهل عندما يحاسبهم الله تعالى في الآخرة ويقضي بعذابهم ، ومفهومه ومفهوم سائر الآيات : إنه لولا إرسال الرسل لكان للناس أن يحتجوا في الآخرة على عذابها وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابهم بظلمهم واستدل بها كثير من العلماء على امتناع مؤاخذة الله الناس وتعذيبهم على ترك الهداية التي لا تعرف إلاّ من الرسل عليهم السلام . ويستدلون بآية الإسراء على نجاة أهل الفترة ، وكل من لم تبلغه الدعوة . ولما كانوا شيعا تتعصب كل شيعة منهم لمذهب ينسب إلى عميد منهم قدّسوه بإشهاره والانتساب إليه ، صارت كل شيعة تلتمس من الآيات ما يؤيّد مذهبها وتأوّل ما ينقضه . وعلى هذا الأساس أوّل بعضهم آية الإسراء ، بأن المراد بالرسول فيها العقل . ويرد هذا التأويل سائر الآيات التي بمعناها كالآية التي نفسرها ، فلا يجد أبرع المأوّلين والمحرّفين ، منفذا لمثل هذا القول في الرسل المبشّرين المنذرين ، الذين ذكروا في سياق إثبات الوحي ، وقصّ الله على نبيه بعضهم وذكرهم بأسمائهم وبيّن أحوالهم ، وكذلك آية القصص { حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } [ القصص : 59 ] لا يقول عاقل إنّ الرسول هنا هو العقل ، ولكن قد يقوله الذي جنّ في مذهبه جنونا مطبقا ، وما المجانين في ذلك بقليل ، وكيف والتقليد مبني على عدم استعمال العقل في فهم الدين ، والاكتفاء فيه بما يعزى إلى المذهب بحجة إن المقلدين تعجز عقولهم عن إدراك الأدلة العقلية والنقلية وإنما يفهمون كلام علمائهم دون كلام الله وكلام رسوله . اختلف العلماء الذين اتبع الناس مذاهبهم في التكليف ، هل يتوقف كله على إرسال الرسل ، أم يمكن أن يعرف كله أو بعضه بالعقل ، فقالت طائفة لا يجب على أحد إيمان ولا عمل صالح ، ولا يحرّم على أحد كفر ولا جرم ، ولا يستحق أحد ثوابا ولا عقابا على شيء ، إلاّ من بلغته دعوة رسول قامت بها عليه الحجة ، فإنه يكلّف العمل بما جاء به فحسب ، ولا يجازى إلاّ على ذلك . وذهبت طائفة إلى أن التكليف بعد بعثة الرسل لا يتعدى ما جاؤا به لمن بلغته ، وأما من لم تبلغه دعوة ، فإنه يمكن أن يدرك بعقله حسن الأشياء والأعمال وقبحها ، ويجب عليه أن يعمل الحسن ويترك القبيح ، والله تعالى يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالعقل ، كما يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالشرع . والمتبادر من الآية التي نحن بصدد تفسيرها : إنّ عدم إرسال الرسل يمكن إن يكون حجّة للناس يوم القيامة إذا أراد الله أن يؤاخذهم ويعذبهم على ترك الهدى الذي جاءهم به أولئك الرسل . والمتبادر من آية سورة الإسراء : إنه ليس من شأن الله تعالى ولا من سنته أن يعذّب الأمم التعذيب السماوي العام الذي عبّر عنه بقوله : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] إلا إذا أرسل إليهم رسولا فكذّبوه . وسنته في هذا النوع من التعذيب ، مبيّنة في مواضع من الكتاب العزيز ، فهو لا يأخذ به كل قوم كذّبوا رسولهم ، بل من أنذرهم العذاب فتماروا بالنذر ، وتمادوا في عناد الرسل . ومن أخذ القرآن بجملته وفقه أحكامه وحكمه ، يعلم أن الدين وضع إلهي لا يستقل العقل البشري بالوصول إليه بنفسه ، بل يعرف بالوحي ، وأنه مع هذا موافق لسنن الفطرة في تزكية النفس ، وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس ، فهو من حيث هو وضع إلهي ، يترتب على العمل به والترك ، جزاء وضعي يحدده الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وهذا الجزاء خاص بمن بلغته دعوته على وجهها . ومن حيث إنه موافق لسنن الفطرة ، يترتب على الاهتداء به تزكية النفس ، وعلى الإعراض عنه تدسيتها ، وتأثير العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة والآداب العالية التي يهدي إليها تأثير فطري ذاتي ، فكل من اهتدى بها زكت نفسه بقدر اهتدائه بها ، وإن لم يعلم إن رسولا جاء بها . وكذلك تأثير العقائد الباطلة والأعمال القبيحة والأخلاق الفاسدة التي ينهى عنها ، فكل من تلوثت بها نفسه فسدت وسفلت ، والأصل في هذا وذاك ، الإخلاص في إيثار ما يعتقد الإنسان إنه الحق والخير على ضده . فكما دلّت الآيات على إن الله تعالى لا يؤاخذ الناس بمخالفة ما جاءت به الرسل ، إلاّ إذا بلغتهم دعوتهم ، وقامت عليهم حجتهم ؛ لأن هذا النوع من المؤاخذة وضعي لا يتحقق إلا بتحقق الوضع الذي يترتب هو عليه . كذلك تدل آيات أخرى على الحساب والجزاء العامّ بالقسط ، على حسب تأثير الأعمال في النفوس ، فمن دسى نفسه وأبسلها ، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها . ولا يمكن أن يقول عاقل : إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواء ، مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم . فإن هذا مخالف لحكم العقل وإدراك الحس ، إذ لم توجد ولا توجد أمة إلاّ وفيها الصالحون والطالحون والأبرار والفجّار ، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى ، على داعية الشهوة والهوى ، والعكس . فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواء { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } [ المائدة : 100 ] { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ هود : 24 ] . { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم وعدم شهادتهم بها ، وهي عندهم في مرتبة المشهود به لوضوحها ، ولكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان ، فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه ، ويكون شاهداً له مقنعا لهم ، فبيّن الله تعالى له أن هذا الطلب جار على شنشنتهم في معاملة أنبيائهم من قبل ، وإن وحيه إليه هو من جنس وحيه إلى أولئك الأنبياء الذين يزعمون إنهم يؤمنون بهم ويشهدون لهم ، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم مع وضوح أمر نبوتك في نفسه ، لا يشهدون بما أنزل إليك ، وإن كانوا يشهدون لما هو من جنسه ، لكن الله يشهد لك به ، فإنه { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أي متلبسا بعلمه الخاص ، الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل إنزاله إليك { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] فهو بما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والقضائية والإجتماعية ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم وغير ذلك ، وبما جاء به من الأسلوب البديع الذي لم يسبق إليه ولا يلحق فيه ، من مزج هذه العلوم بعضها ببعض مزجا دقيقا يؤلّف بين ما كان موضوعه منها أعلى الموضوعات كالمسائل الإلهية ، وما كان منها أدنى كشؤون الكفّار والمجرمين ، بحيث يكون القليل من آياته - كالكثير منها - مؤثراً في جذب القلوب إلى الإيمان ، وتغذيتها بالحق والخير ، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته وبلاغته ، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل ، وبما فيه من التناسق والتصادق ، والسلامة من الخلاف والتعارض - على كثرة علومه ، وتشعب فنونه - هو بمثل هذه الخصائص والمزايا البارزة في أعلى حلل الفصاحة والبلاغة ، مثبت لشهادة الله تعالى به وبأنه وحي من عنده ؛ لأن تلك الخصائص والمزايا لا يقدر على الإتيان بها أفراد العلماء الواسعي الاطلاع ، فضلا عن أميّ نشأ بين الأميين ، ووصل إلى سن الكهولة ولم يظهر منه شيء من مثل ذلك ، ولا مما دونه من مظاهر فصاحة قومه كالشعر والخطابة والمفاخرة . فإذا كان لا يقدر على مثله أحد من علماء الدنيا والدين ، وفحول البلاغة المقرمين ، تعيّن إنه من عند الله . فكأنه تعالى يقول لنبيه : ماذا يضرك جحود اليهود وعدم شهادتهم لك ، والله يشهد بما أنزله إليك ، وأنت على يقين من ذلك بالوحي ، وقد أيد شهادته لك بعلمه الذي أودعه هذا القرآن ، فكان بذلك مثبتاً لحقية نفسه وكونه أنزل عليك من ربك ، بأقوى من إثبات الدعاوى بالبيّنات والشهادات التي تحتمل النقض ، ويؤيدها كذلك يوماً بعد يوم بتصديق ما أنزله في هذا القرآن من الوعد لك بالفلاح والنصر ، ووعيد من عادوك بالخذلان والخسر { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ } أيضاً بذلك ؛ لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين منهم ، وأنت تراه وتتلقى عنه لا ريب عندك في ذلك . والله يؤيّدك بجند منهم ينفخون روح التثبيت والسكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } [ الأنفال : 12 ] وكل ذلك قد كان ، وثبتت به شهادة ملائكة الله عند نبيه وعند المؤمنين بإخبار الله ، وبما ظهر لهم من صدقها في أنفسهم . { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } فشهادته أصدق ، وقوله الحق ، { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] .