Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 167-170)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لقد تجلّت في الآيات السابقة الحجة ، وتضاءل كل ما أورده اليهود على نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم من شبهة ، فثبتت هذه النبوة بشهادة الله تعالى ، بما أنزله عليه ، إذ لا يستطيع أحد من الخلق أن يأتي بمثله ، فحسن بعد هذا أن ينذر الذين يصرّون على كفرهم ، ويستمرون على صدهم وظلمهم ، وإنما ينذرهم عز وجل سوء العاقبة ، ويبيّن لهم مصيرهم من الهاوية ، لذلك قال بعدما تقدم : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي أعرضوا عن طريق الحق والخير الموصلة إلى رضوان الله تعالى ، وحملوا غيرهم على الإعراض عنها ، بسوء القدوة ، وتمويه الشبهة { قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلاً بَعِيداً } بسيرهم في سبل الشيطان سيراً حثيثا ، بعدوا به عن سبيل الله بعداً شاسعاً ، حتى لم يعودوا يبصرون ما اتصفت به من الوضوح والإستقامة ، ولا يفقهون إنها هي الموصلة إلى خير العاقبة ومرسى السلامة . { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ } أنفسهم بكفرهم وقبح عملهم ، وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم ، { لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } أي ليس من شأنه ولا من مقتضى سنته في خلقه ، أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء ؛ لأن الكفر والظلم يؤثّران في النفس ويكيّفانها بكيفية خاصة من الظلمة وفساد الفطرة ؛ لا يزولان بمقتضى سنته تعالى في النفوس البشرية وتأثير عقائدها وأعمالها فيها ، إلاّ بما يضاد ذلك الكفر والظلم في الدنيا من الإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي يزكيّ النفس ويطهرها فتنشأ خلقاً جديداً ، ولا سبيل إلى ذلك في يوم الحساب وما يتلوه من الجزاء المشار إليه بقوله : { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } أي وليس من شأنه ولا من مقتضى سنته أن يهديهم طريقا - أي يوصلهم إلى طريق من طرق الجزاء على عملهم - إلا طريق جهنم ، وهي تلك الهاوية التي ينتهي إليها كل من يدسّي نفسه بالكفر والظلم ، وهي الطريق التي اختاروها لأنفسهم ، وأوغلوا في السير فيها طول عمرهم ، كالذي يهبط الوادي يكون منتهى شوطه قرارة ذلك الوادي لا قمة الجبل الذي هو فيه . فانتظار المغفرة ودخول الجنة لهؤلاء كانتظار الضد من الضد ، والنقيض من النقيض ، أو انتظار إبطال نظام العالم ونقض سنن الله تعالى وحكمته في خلق الإنسان . هذا هو التحقيق في مثل هذا التعبير ، لا ما يزعمه القائلون بالجبر لفظاً ومعنى ، أو معنى فقط ، ولا ما يزعمه خُصومهم من كل وجه . وقيل إن هذه الآية نزلت في قوم معيّنين ، علم الله منهم إنهم لا يتوبون من كفرهم وظلمهم ، وإلاّ وجب تقييد عدم المغفرة والهداية لغير طريق جهنم بشرط عدم التوبة ؛ لأن من تاب تاب الله عليه كما هو ثابت بالنص والإجماع . وما حمل قائلي هذا القول عليه ، إلاّ غفلتهم عن كون هذا هو جزاء الكافرين الظالمين في الآخرة ، وظنّهم أن قوله تعالى : { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } إلخ هو عبارة عن حرمانهم من الهداية في الدنيا ، وهذا هو الذي ساقهم إلى معتركهم في الجبر والقدر ، لعدم تطبيق مثله على مقتضى الحكمة واطراد الأسباب والسنن . ولما كان مقتضى سنة الله في أولئك الكافرين الظالمين ، أنه لا يهديهم بكفرهم وظلمهم طريقا إلاّ طريق جهنم ، وعلم منه إنهم صائرون إليها ، ولا بد إن يصلوها ، قال : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي يدخلونها ويذوقون عذابها ، حال كونهم خالدين فيها أبداً . قيل : إن لفظ { أَبَداً } ينفي أن يراد بالخلود طول المكث ، فيكون معنى العبارة الخلود الدائم الذي لا نهاية له . والصواب : إن هذا معنى اصطلاحي لا لغوي . أما معنى الخلود في اللغة ، فهو كما يؤخذ من مفردات الراغب : بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغير ولا فساد ، كقولهم للاثافي ( حجارة الموقد ) خوالد ، قال : " وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها " وفسّر الخلد في اللسان بدوام البقاء في دار لا يخرج منها . والمراد بالسكنى الدائمة في العرف ، ما يقابل السكنى الموقتة المتحولة كسكنى البادية ، فالذين لهم بيوت في المدن يسكنونها يقال في اللغة إنهم خالدون فيها . قال في اللسان : وخلد بالمكان يخلد خلودا ( من باب نصر ) وأخلد أقام … وخلد ( كضرب ونصر ) خلدا وخلودا ، أبطأ عنه الشيب . ومن كبر ولم يشب أو لم تسقط أسنانه يقال له المخلّد وقال زهير : @ لمن الديار غشيتها بالغرقد كالوحى في حجر المسيل المخلد @@ والأبد كما قال الراغب : " عبارة عن مدة الزمان الممتد ، الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان وتأبّد الشيء بقي أبدا ، ويعبّر به عما يبقى مدة طويلة " وفي لسان العرب " الأبد الدهر " وفيه تساهل . وقالوا في المثل : " طال الأبد على لبد " يضرب ذلك لكل ما قدم . وقالوا : أبد بالمكان ( من باب ضرب ) أبودا ، أقام به ولم يبرحه . ولم يكن عندهم شيء بمعنى اللانهاية يدور في كلامهم . { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره ؛ لأنه مقتضى حكمته وسنته ، ولا يستعصي على قدرته ، فعلى العاقل أن يتدبر ويتفكّر ، ليعلم أنه لا ملجأ من الله ولا مفر ، ولكل نبأ مستقر . { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } نادى الله تعالى بهذه الآية جميع الناس ، في سياق خطاب أهل الكتاب ؛ لأن الحجّة إذا قامت عليهم بشهادة الله تعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم الإيمان به ، فبالأولى تقوم على غيرهم ، ممن ليس لهم كتاب ككتابهم . وذكر الرسول هاهنا معرّفا ؛ لأن أهل الكتاب قد بشّروا به ، وكانوا ينتظرون بعثته ، بعنوان إنه الرسول الكامل ، الذي هو المتمم الخاتم ، ومما يدل على أن اليهود كانوا ينتظرون من الله مسيحاً ونبيّاً بشر بهما أنبياؤهم ، ما جاء في أوائل الفصل الأول من إنجيل يوحنا ، وهو إنهم أرسلوا بعض الكهنة واللاويين إلى يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ليسألوه من هو ، وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة ، فسألوه : أأنت المسيح ، قال : لا ، قالوا : أأنت النبي ؟ قال : لا . والشاهد إنهم ذكروا له النبي بلام العهد . فلا شك إن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية في زمن التنزيل تذكر مجيء الرسول المعرّف بصيغة التحقيق ( قد ) ، فهموا أن المراد به الرسول الذي بشّرهم به موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة ( وهو في سفر تثنية الاشتراع ) وعيسى في الإنجيل ( وسيأتي شاهد منه في تفسير الآية التالية لهذه ) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام . ومن لم يعرف شيئاً من أمر هذه البشارات ، يفهم من التعريف معنى آخر ، هو صحيح ومراد ، وهو إن التعريف لإفادة إن هذا الرسول هو الفرد الكامل في الرسل لظهور نبوّته ، ونصوع حجّته ، وعموم بعثته ، وختم النبوة والرسالة به ، ومعنى كونه جاء الناس بالحق من ربهم ، أنه جاءهم بالقرآن الذي هو أبلغ بيان للحق ، وأظهر الآيات المؤيدة له . واختيار لفظ الرب هنا ، للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يقصد به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم ، وتزكية نفوسهم ، لهذا قال { فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } أي إذا كان الأمر كذلك ، فآمنوا فإن تؤمنوا يكن الإيمان خيراً لكم ؛ لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس الحسيّة والمعنوية ، ويؤهلكم للسعادة الأبدية . هذا هو التقدير المتبادر عندي ، وعليه الكسائي ، وأما الخليل وتلميذه سيبويه فيقدّران : واقصدوا بالإيمان خيراً لكم ، أي مما أنتم عليه . وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيراً لكم . ويدل على ما اخترناه قوله في مقابله : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي إن تؤمنوا يكن الإيمان خيراً لكم ، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم ، وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم ، وما يترتب عليه من سوء عملكم ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وعبيداً ، وكلّ يعبده طوعاً أو كرهاً ، أما عبادة الكره وعدم الاختيار ، فبالخضوع للسنن والأقدار ، وهي عامة في جميع الخلق ، حتى ما ليس له إدراك ولا عقل ، وأما عبادة الاختيار ، فخاصة بالمؤمنين الأخيار ، والملائكة الأبرار ، وأمثالهم من جنود الله { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي وكان شأنه العلم المحيط والحكمة الكاملة ، كما يظهر ذلك في جميع أفعاله وأحكامه وسننه ، فلا يخفي عليه شيء من أمركم ، في إيمانكم وكفركم ، ولا يعدو حكمته أمر جزائكم ، وحاشا علمه وحكمته أن يخلقكم عبثاً ، وأن يترككم بعد ذلك سدى ، كلاّ إنه يجزي كل نفس بما تسعى ، فطوبى لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا .