Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 35-37)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر الرازي إن وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها يرجع إلى سياق الكلام على أهل الكتاب ؛ لأن ما بعده جاء على سبيل الاستطراد ، وقد جاء في ذلك السياق : إن اليهود قد همّوا ببسط أيديهم إلى الرسول وبعض المؤمنين بالسوء وقصد الاغتيال ، لما كانوا عليه من العتوّ على الأنبياء وشدة الإيذاء لهم ، وإنهم كانوا هم والنصارى مغرورين بدينهم ، يزعمون إنهم أبناء الله وأحباؤه ، فأرشد الله المؤمنين وأمرهم بأن يتقوه ويبتغوا إليه وحده الوسيلة بالعمل الصالح ، ولا يكونوا كأهل الكتاب في افتتانهم وغرورهم . هذا معنى ما قاله . والوجه في التناسب عندي إن يبنى على أسلوب القرآن ، الذي امتاز به على سائر الكلام ، من حيث كونه مثاني للهداية ، والموعظة والعبرة ، لا تبلى جدّته ، ولا تملّ قراءته ، والركن الأول لهذا الأسلوب إن يكون الكلام في كل موضوع مختصرا مفيدا تتخلله أسماء الله وصفاته والتذكير بوحدانيته ، ووجوب تقواه والإخلاص له والتوجه إليه وحده ، وبالدار الآخرة والجزاء فيها على الأعمال . فبناء على هذا الأسلوب قفّى الله تعالى على قصة ابني آدم وما ناسبها - من بيان حدود الذين يبغون على الناس ويفسدون في الأرض - بالأمر بالتقوى - ومنها اتقاء الحسد والبغي والفساد الذي هو سبب الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة - وبابتغاء الوسيلة إليه تعالى والجهاد في سبيله - رجاء الفلاح والفوز بالسعادة - ووعيد الكفار الذين لا يتقون الله ولا يتوسلون إليه بما يرضيه ، فقال : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } اتقاء الله ، هو اتقاء سخطه وعقابه . وسخطه وعقابه أثر لازم لمخالفة سننه في الأنفس والآفاق ، ومخالفة دينه وشرعه الذي يعرج بالأرواح إلى سماء الكمال . والوسيلة إليه ، هي ما يتوسل به إليه ، أي ما يرجى إن يتوصل به إلى مرضاته والقرّب منه ، واستحقاق المثوبة في دار كرامته ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلاّ بتعريفه تعالى : وقد تفضّل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم . قال الراغب : الوسيلة : التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة ، بتضّمنها معنى الرغبة … وحقيقة الوسيلة إلى الله : مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة . اهـ . وروي تفسير الوسيلة بالقربة عن حذيفة وصححه الحاكم عنه . ورواه ابن جرير عن عطاء ومجاهد والحسن وعبد الله بن كثير . وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية إنه قال : تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه . وروي عن ابن زيد تفسيرها بالمحبّة قال : أي تحببوا إلى الله ، وقرأ { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ } [ الإسراء : 57 ] وعن السدي إنها المسألة والقربة . وروى ابن الأنباري إن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الوسيلة فقال : الحاجة . قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول : @ إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي @@ ولم يرو ابن جرير هذا ، واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة ، وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة . على إنه لا ينافيه ، كما لا ينافيه تفسيرها بالمحبة . فإن طلب الحاجة من الله ومحبّة الله مما يتقرّب به إليه . وتفسير الوسيلة بما فسّرناها به أعم ، وهو المطابق للغة . قال في لسان العرب : الوسيلة في الأصل ، ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به إليه . وذلك بعد إن فسّر الوسيلة بالمنزلة عند الملك وبالقربة . وقال : ووسل فلان إلى الله وسيلة ، إذا عمل عملا تقرّب به إليه . والواسل الراغب ، قال لبيد : @ أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي رأي إلى الله واسل @@ ثم ذكر من معانيها الوصلة والقربى . وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ويرجّح به بعض التفسير المأثور على بعض . وللوسيلة معنى في الحديث غير معناها هنا . روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة من حديث جابر : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " من قال حين يسمع النداء " ( أي الأذان ) : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محمودا الذي وعدته : حلت له شفاعتي يوم القيامة " . وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلاّ ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر ، إنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلّوا عليّ ، فإنه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة " . وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للوسيلة يؤيّده قول نقل اللغة إن من معانيها المنزلة عند الملك . فيظهر إن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنّة فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة وهي دعاء أيضاً ، والجزاء من جنس العمل . فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معيّنة ، وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من علم وعمل . { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ } أي جاهدوا أنفسكم بكّفها عن الأهواء ، وحملها على التزام الحق في جميع الأحوال ، وجاهدوا أعداء الإسلام ، الذين يقاومون دعوته وهدايته للناس . فالجهاد من الجهد ، وهو المشقّة والتعب ، وسبيل الله هي طريق الحقّ والخير والفضيلة ، فكل جهد يحمله الإنسان في الدفاع عن الحق والخير والفضيلة أو في تقريرها وحمل الناس عليها ، فهو جهاد في سبيل الله { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي اتقوا ما يجب تركه ، وابتغوا ما يجب فعله ، من أسباب مرضاة الله وقربه ، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيله ، رجاء الفوز والفلاح ، والسعادة في المعاش والمعاد . فصل في التوسل والوسيلة عند عامة المتأخرين بينّا معنى الوسيلة في الآية وما قاله رواة التفسير المأثور عن السلف فيها . ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامّتهم إنّ الوسيلة إلى الله تعالى تُبتغي بغير ما شرّعه الله للناس من الإيمان والعمل ومنه الدعاء ، إلاّ كلمة رويت عن الإمام مالك لم تصحّ عنه ، بل صحّ عنه ما ينافيها . وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين المتّقين ، أي تسميتهم وسائل إلى الله تعالى ، والإقسام على الله بهم ، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضرّ وجلب النفع منهم عند قبورهم أو في حال البعد عنها . وشاع هذا وكثر حتّى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم إلى الله تعالى ، أو يدعونهم من دون الله تعالى ، و " الدعاء هو العبادة " كما قال النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن النعمان بن بشير . والله تعالى يقول { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] ويقول : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف : 194 ] ويقول : { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 13 - 14 ] . لكن بعض المصنفين زعم إنهم يسمعون ، ويستجيبون للداعي . والعوام يأخذون بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى لعموم الجهل ، ومن المشتغلين بالعلم من يتأوّل لهم بأن هذا من التوسل بهم . وقد حقّق شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الموضوع بجميع فروعه ، فكان ما كتبه في ذلك مصنّفا حافلا أطلق عليه اسم ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) وقد طبعناه مرتين . ومما جاء فيه ، قوله بعد بيان معنى الوسيلة في القرآن والحديث بنحو ما تقدم : " وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته . والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح " . " وحينئذٍ ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان بإتفاق المسلمين ، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة * فأما المعنيان الأولان الصحيحان بإتفاق العلماء ، فأحدهما : هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته ، والثاني : دعاؤه وشفاعته كما تقدّم . فهذان جائزان بإجماع المسلمين . ومن هذا قول عمر بن الخطاب : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . أي بدعائه وشفاعته * وقوله تعالى : { وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35 ] أي القربة إليه بطاعته . وطاعة رسوله ، طاعته ، قال تعالى : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] فهذا التوسل الأول هو أصل الدين . وهذا لا ينكره أحد من المسلمين * وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر ، فإنه توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمّه العبّاس ، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعبّاس ، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم إن ما يفعل في حياته قد تعذّر بموته ، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائما . فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان : أحدها : التوسل بطاعته ، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلاّ به . والثاني : التوسل بدعائه وشفاعته ، وهذا كان في حياته ، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته . والثالث : التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته ، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم * وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة ، أو عن من ليس قوله حجة ، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى . " وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز ، ونهوا عنه حيث قالوا : لا يسئل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال أبو الحسن القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسّمى بشرح الكرخي في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة * قال بشر بن الوليد : حدّثنا أبو يوسف قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاّ به ، وأكره إن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف : بمعقد العز من عرشه ، هو الله فلا أكره هذا ، وأكره إن يقول بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ، قال القدوري : المسألة بحقه لا تجوز ، لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقاً " . وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من إن الله لا يسئل بمخلوق ، له معنيان : أحدهما : هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون إن يقسم أحد بالمخلوق ، فإنه إذا منع إن يقسم على مخلوق بمخلوق ، فلأن يمنع إن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى . وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، والشمس وضحاها ، والنازعات غرقا ، والصافات صفا . فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه ، بخلاف المخلوق ، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها ، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال : " من حلف بغير الله فقد أشرك " وقد صحّحه الترمذي وغيره ، وفي لفظ " فقد كفر " وقد صححّه الحاكم . وقد ثبت عنه في الصحيحين إنه قال " من كان حالفا فليحلف بالله " وقال " لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم إن تحلفوا بآبائكم " . وفي الصحيحين عنه إنه قال " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " وقد اتفق المسلمون على إنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وإيمان السدق وسراويل الفتّوة وغير ذلك ، لا ينعقد يمينه ولا كفّارة في الحلف بذلك . والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور . وهو مذهب أبي حنيفة ، واحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك ، وقيل هي مكروهة كراهة تنزيه - والأول أصح - حتّى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إليّ من أن أحلف بغير الله صادقاً ، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك ، والشرك أعظم من الكذب . وإنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان : ( إحداهما ) لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور مالك وأبي حنيفة والشافعي ، ( والثانية ) : ينعقد اليمين به ، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه . وابن المنذر وافق هؤلاء . وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وعدى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء . وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق - وإن كان نبيا - قول ضعيف في الغاية ، مخالف للأصول والنصوص ، فالإِقسام به على الله - والسؤال به بمعنى الإقسام - هو من هذا الجنس . والذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء - من إنه لا يجوز أن يسئل الله تعالى بمخلوق ، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمن شيئين كما تقدم : ( أحدهما ) : الإقسام على الله سبحانه وتعالى به ، وهذا منهّي عنه عند جماهير العلماء كما تقدم ، كما ينهى إن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء . ( والثاني ) : السؤال به ، فهذا يجوزّه طائفة من الناس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس . لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف ، بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظن إن لهم فيه حجة إلاّ حديث الأعمى الذي علّمه إن يقول : اسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة * . وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ، فإنه صريح في إنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته ، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يقول " اللهم شفّعه فيّ " ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم . ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم يكن حالهم كحاله . ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " يدل على إن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته ، إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس . وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم ؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقا ، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلا من هذا ، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى إنه يبرّ قسمه . فإبرار القسم خاص ببعض العباد . وأما إجابة السائلين فعام ، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم ، وإن كان كافراً ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال : " " ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلاّ أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث : إمّا إن يعجّل له دعوته ، وأما إن يدّخر له من الخير مثلها ، وإما إن يصرف عنه من الشر مثلها " قالوا : يا رسول الله إذاً نكثر ، قال : " الله أكثر " " ( ثم قال في موضع آخر ) : وهذا التوسل بالأنبياء ، بمعنى السؤال بهم - وهو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم إنه لا يجوز - ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك ، فضلا إن يجعل هذا من مسائل السبب ، فمن نقل عن مذهب مالك إنه جوّز التوسل به بمعنى الإقسام به أو السؤال به ، فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه ، فضلاّ عن إن يقول مالك إن هذا سبب للرسول أو يتقص به ، بل المعروف عن مالك إنه كره للداعي إن يقول : يا سيدي سيدي ! وقال : قل كما قالت الأنبياء : " يا رب يا رب يا كريم " وكره أيضاً إن يقول : يا حنّان يا منّان ! فإنه ليس بمأثور عنه . فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء إذ لم يكن مشروعا عنده إن يسأل الله بمخلوق ، نبياً كان أو غيره - وهو يعلم إن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق لا نبي ولا غيره بل قال عمر " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " - وكذلك ثبت في الصحيح عن ابن عمر وأنس وغيرهما إنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه ، لم ينقل عن أحد منهم إنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بمخلوق لا به ولا بغيره ، لا في الاستسقاء ولا غيره . وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى ، فلو كان السؤال به معروفا عند الصحابة ، لقالوا لعمر إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس ، فلم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنّا نفعله في حياته ، وهو التوسل بأفضل الخلق ، إلى إن نتوسل ببعض أقاربه ؟ وفي ذلك ترك السنّة المشروعة وعدول عن الأفضل ، وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما ، ونحن مضطرون غاية الإضطرار ، في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب . والذي فعله عمر ، فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين ، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجرشي كما توسل عمر بالعباس . وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم ، إنه يتوسل في الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح ، قالوا وإن كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو أفضل اقتداء بعمر . ولم يقل أحد من أهل العلم إنه يسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي . وكذلك من نقل عن مالك أنه جوّز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم ، أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك ، كالشافعي وأحمد وغيرهما ، فقد كذب عليهم . ولكن بعض الجهال ينقل هذا ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك ، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا ، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ، ولكن من الناس من يحرّف نقلها ، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى اهـ المراد منه ، ومن أراد إن يحيط بهذه المسألة علماً تفصيلياً فليقرأ كتاب ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) كلّه . وأما القول الجملي الجامع ، فهو إن الوسيلة ، ما نتقرب به إلى الله تعالى ، وترجو أن تصل به إلى مرضاته ، وهو ما شرّعه لك لتزكية نفسك ، إذ جعل مدار الفلاح على تزكيتها . والتوسل هو ابتغاء الوسيلة المأمور به هنا ، أي العمل بالمشروع لتزكية النفس ، وقد دلّ كتاب الله في جملته وتفصيله على إن مدار النجاة والفلاح على الإيمان والعمل الصالح { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } [ النجم : 39 - 41 ] { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } [ طه : 15 ] { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] . نعم دلّت السنّة على إن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه ، لكن ثبت في الصحيح إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله وسأله إن لا يجعل بأس أمته بينها فلم يعطه ذلك ، وثبت أيضا إنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان عمّه أبي طالب وإن الله أنزل عليه في ذلك { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] وثبت أيضاً إن لكل نبي مرسل دعوة واحدة مستجابة قطعا ، فما عداها بين الرجاء والخوف ، ولذلك خبّأ صلى الله عليه وسلم ( دعوته ليشفع بها يوم القيامة . فتعلم بأمثال هذه الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها ، والآيات التي ذكرنا بعضها ، أن دعاء غيرك لك لا يطرد نفعه مهما كان الداعي صالحاً ، فهل يكون شخص غيرك وسيلة وقربة لك إلى الله وإن لم يدع لك ؟ هذا شيء لا يدل عليه كتاب ولا سنّة ولا عقل ، إن جاز إن يحكم العقل في قربات الشرع . فالعمدة في تقرّب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته وحسن جزائه هو إيمانه وعمله لنفسه . فإذا أنت لم تعمل لنفسك ما شرّعه الله لك وجعله سبب فلاحك ، ولم يدع لك غيرك بذلك ، فكيف تكون قد ابتغيت إلى الله الوسيلة ؟ وهل تسميتك بعض عباد الله المكرمين وسيلة ، أو طلبك منه بعد موته إن يشفع لك - أي يدعو لك - يعدّ امتثالاً منك لأمر الله تعالى : { وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } ؟ كلاّ ! إن الطلب من الميّت غير مشروع ؟ وإذا فرض إنه مشروع ومسموع ، فلا يمكن إن يعلم هل كان مقبولاً أم غير مقبول ؟ فإن ذلك من أمر الآخرة الغيبي ، { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] وحده ، ومنه أمر الشفاعة ، فهي لا تنال بالسؤال هنا ، وإنما تفوّض إليه تعالى : { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } [ الزمر : 44 ] { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] . فسنّة الفطرة في الدنيا أن الإنسان لا يشبع إذا أكل عنده والده أو أستاذه أو أحد الصالحين ، ولا يشفي من مرضه إذا ترك الدواء وشربه غيره عنه ، ولا تؤثر في نفسه أو تظهر في أعماله أخلاق غيره ، فإذا كان النبي أو الولي الذي يتكل عليه جواداً سخيّاً شجاعاً أمينا ، لا يبذل هو المال بذلك السخاء ، ولا النفس تمتلك الشجاعة ، ولا يؤدي الحقوق إلى أهلها بتلك الأمانة ؛ لأن أعماله تصدر عن أخلاقه ، لا عن أخلاق الرسول أو الولي الذي يتّكل عليه . فإذا كان من سنّة الفطرة في الدنيا أن لا تعيش بأخلاق غيرك ولا بعلمه وعمله - وهي دار الكسب والتعاون - فكيف ينفعك إيمان غيرك وصلاحه { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] ؟ ؟ . { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذا كلام مستأنف ، يؤكد مضمون ما قبله من كون مدار الفوز والفلاح في الآخرة على تقوى الله والتوسل إليه بالإيمان والعلم الصحيح ، وتزكية النفس بالعمل الصالح والجهاد في سبيله ، وهو شأن المؤمنين الصادقين ، فهو يقول إن مدار النجاة والفلاح على ما في نفس الإنسان ، لا على ما هو خارج عنها كما يتوهم الكفّار في أمر الفدية . فلو إن للذين كفروا جميع ما في الأرض ومثله معه ، وبذلوا ذلك كلّه دفعة واحدة ليكون فداء لهم يفتدون به من العذاب الذي يصيبهم يوم القيامة ، لا يتقبله الله تعالى منهم ولا ينقذهم به من العذاب ؛ لأن سنته الحكيمة قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة ، إنما يكون من نفس الإنسان لا من الأشياء التي تكون خارجها { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] ولهم عذاب شديد الألم قد استحقوه بكفرهم ، وما استتبعه من سيّئات أعمالهم ، اتكالا منهم على الفدية والشفعاء . وهذا فرق جوهري واضح بين الإسلام وغيره من الأديان ، فالإسلام دين الفطرة ، وسنّة الله تعالى فيها إن سعادة الإنسان البدنية والنفسية في الدنيا والآخرة من نفسه لا من غيره ، فالنصارى يعتقدون إن خلاصهم ونجاتهم وسعادتهم بكون المسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم ، وأكثرهم يضمون إلى المسيح الرسل والقديسين ، ويرون إن الله يحل ما يحلّونه ويعقد ما يعقدونه ، وإنهم شفعاء لهم عنده . وأما المسلمون فيعتقدون إن العمدة في النجاة والفلاح تزكية النفس بالإيمان والفضائل والأعمال الصالحة ، فبذلك تصلح نفوسهم وتكون أهلا لرضوان الله تعالى . وإن من دسّى نفسه بالشرك والفسق ، والفساد في الأرض ، لا يكون أهلاً لمرضاة الله ودار كرامته ، فلا يقبل منه فداء ، ولا تنفعه شفاعة الشافعين . { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } يريد الذين كفروا إن يخرجوا من النار - دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها - وما هم بخارجين منها البتة ، كما يدل عليه تأكيد النفي بالباء . ثم أكّد مضمون ذلك بإثبات العذاب المقيم لهم . والمقيم : هو الثابت الذي لا يظعن . والآية استئناف بياني ، إذ من شأن من سمع الآية التي قبلها إن تستشرف نفسه للسؤال عن حال أولئك الكفّار الذين لا يتقبل منهم فداء مهما جلّ وعظم ، فجاءت هذه الآية بالجواب . ثم قال تعالى : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً … } .