Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 38-40)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المحاربون المفسدون في الأرض ، يأكلون أموال الناس بالباطل جهرة ، وينتزعونها منهم عنوة ، واللصوص يأكلونها كذلك ، ولكنهم يأخذونها خفية ، فلما بيّن الله تعالى عقاب أولئك ، وأمر بالتقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيل الله - وهي الأعمال التي يكمل بها الإيمان ، وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام - بيّن عقاب هؤلاء أيضاً ، جمعا بين الوازع النفسي وهو الإيمان والصلاح ، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال ، فقال عز من قائل : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } أي والسارق والسارقة مما يتلى عليكم حكمهما ، ويبيّن لكم حدهما ، كما بيّن لكم حدّ المفسدين في الأرض مثلهما ، فاقطعوا أيديهما ، أو التقدير : وكل من السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، كما تقطعون أيدي المحاربين إذا سلبا المال مثلهما ، والمراد قطع يد كل منهما ، أي إذا سرق الذكر تقطع يده ، وإذا سرقت الأنثى تقطع يدها ، وإنما جمع اليد ولم يقل يديهما ؛ لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية ، أي الجمع بين تثنيتين . ومثله قوله تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] والوصف هنا متضمن لمعنى الشرط فقرن خبره بالفاء على الأظهر . وقد صرّح بأن هذا الحد على الرجال والنساء ، كما صرّح بذلك في حدّ الزنا ؛ لأن كلاّ من الذنبين يقع من كل منهما ، فأراد الله زجر كل منهما بتلاوة القرآن ، وإن كانت الأحكام الشرعية مشتركة بينهما عند الإطلاق ، وتغليب وصف الذكورة وضمائرها في الكلام ، إلاّ ما خصّ الشرع به الرجال ، كالإمامة والقتال : والمتبادر من إطلاق اليد ، إنها الكف إلى الرسغ ، ولهذا قال في آية الوضوء { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } [ المائدة : 6 ] وإنما تقع السرقة بالكف مباشرة ، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معها البدن ، فلا يقال إن اليد لا تعمل إلا بهما . ولهذا المعنى - وهو إيقاع العذاب على العضو المباشر للجريمة - قالوا إن اليمنى هي التي تقطع ؛ لأن التناول يكون بها ، إلاّ ما شذّ . { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } هذا تعليل للحدّ ، أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعلمهما وكسبهما السيء ، ونكالا وعبرة لغيرهما . فالنكال مأخوذ من النكل وهو ( بالكسر ) قيد الدابة . ونكل عن الشيء ، عجز أو أمتنع لمانع صرفه عنه . فالنكال هنا ما ينكل الناس ويمنعهم إن يسرقوا . ولعمر الحق إن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه تميسم الذل والعار ، هو أجدر العقوبات بمنع السرقة ، وتأمين الناس على أموالهم ، وكذا على أرواحهم ؛ لأن الأرواح كثيراً ما تتبع الأموال ، إذا قاوم أهلها السرّاق عند العلم بهم { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فهو غالب على أمره ، حكيم في صنعه وفي شرعه ، فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة . وقد اختلف العلماء في القدر الذي يوجب الحدّ من السرقة ، فروي عن الحسن البصري وداود الظاهري إنه يثبت القطع بالقليل والكثير عملا بإطلاق الآية وحديث " لعن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده " رواه الشيخان من طريق الأعمش عن أبي هريرة ، وعليه الخوارج . وذهب جمهور السلف والخلف - ومنهم الخلفاء الأربعة - إلى إن القطع لا يكون إلا في سرقة ربع دينار ( أي ربع مثقال من الذهب ) أو ثلاثة دراهم من الفضة . والشافعي جعل ربع الدينار هو الأصل في تقويم الأشياء المسروقة ؛ لأنه الأصل في جواهر الأرض كلّها ، وروي عن مالك إن كلا من الذهب والفضة أصل معتبر في نفسه ، وفي رواية أخرى - قيل إنها المشهورة عنه - إن التقويم بدراهم الفضة لا بربع الدينار . وقال بعض العلماء : إن العروض تقوّم بما كان غالبا في نقود أهل البلد ، فيختلف باختلاف البلاد . والأصل في هذا المذهب وفي هذا الخلاف في التقدير ، حديث عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلاّ ابن ماجه . وفي رواية مرفوعا " لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعدا " رواه أحمد ومسلم وابن ماجه . وفي رواية أخرى للنسائي مرفوعا " لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجنّ " قيل لعائشة : ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار . ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين والسنن الثلاث " إن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وفي رواية " قيمته ثلاثة دراهم " وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأن الأعمش راويه فسّر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب وهي كالمجن ( الترس ) وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه . ومذهب الحنفية إن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم فأكثر ، ولا قطع في أقل منها . واحتجّوا برواية عند البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم . ورجّحوها على حديث الصحيحين والسنن بإدخالها في عموم درء الحدود بالشبهات . ولكن في إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن ولا يحتجّ بحديثه معنعنا ، فكيف يعارض حديث الصحيحين ، بل الجماعة كلهم ؟ وهنالك مذاهب أخرى كثيرة في قدر النصاب ، لا نذكرها لضعف أدلتها ، بل بعضها لا يعرف له دليل . ووردت أحاديث في إن الثمر المعلّق والكثر ( وهو بالتحريك جمار النخل ) لا قطع فيها ، وأما الثمر بعد إحرازه فكغيره من المال . وقيل : لا قطع فيه . واشترط الجمهور في القطع ، إن يسرق الشيء من حرز مثله ، فإن لم يكن محرزاً محفوظا فلا قطع . وتفصيل ذلك في كتب الحديث وشروحها . وتثبت السرقة بالإقرار وبالبيّنة . ويسقط الحدّ بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام ( الحاكم ) . وكذا بعده عند بعض العلماء وهو مخالف للأحاديث الصريحة . وورد النهي عن إقامة الحدّ في الغزو . وتفصيل ذلك في محلّه . وأما التوبة فقد بيّن الله حكمها في قوله : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن تاب من السرّاق ورجع عن السرقة وغيرها من المعاصي رجوع ندم وعزم على الاستقامة ، من بعد ظلمه لنفسه بامتهانها وسفهها ، وللناس بالاعتداء على أموالهم ، وأصلح نفسه وزكّاها بالصدقة ، المضادة للسرقة ، وبغير ذلك من أعمال البر ، فإن الله تعالى يقبل توبته ، ويرجع إليه بالرضاء والإثابة ، ويغفر له ويرحمه ، فإن ذلك من مقتضى اسمه الغفور واسمه الرحيم . وهل يسقط الحدّ عن التائب ؟ قال الجمهور : لا يسقط عنه مطلقا . وقال بعض السلف : بل يسقط عنه . وإذا قيست السرقة على الحرابة والإفساد فالقول بسقوط الحدّ ظاهر ، إن تاب قبل رفع أمره إلى الحاكم ، ولكن لا يسقط حقّ المسروق منه ، بل لا تصحّ التوبة إلاّ بإعادة المال المسروق إليه بعينه إن بقي ، وإلا دفع قيمته إن قدر . ولا يظهر لنا وجه لما قاله بعض الفقهاء من عدم الجمع بين الحدّ وغرامة المال المسروق . فإن الحدّ حقّ الله تعالى لمصلحة عباده عامة ، والمال حقّ من سرق منه خاصة . { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } جعل الله تعالى هذه الآية ذيلا لهذا السياق ، بيّن فيه ما ينبغي إن يحضر القلوب بعد تلك العبر والأحكام ، فقال ما حاصل المراد منه : ألم تعلم أيها السامع لهذا الخطاب ، إن الله تعالى له ملك السماوات والأرض ، يدبّر الأمر فيهما بالحكمة والعدل ، والرحمة والفضل ، فكان من متعلقات اسمه العزيز الحكيم ، أن وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعدّ به سارقا من ذكر أو أنثى ، كما وضع ذلك العقاب للمحاربين المفسدين ، ومن مقتضى اسمه الغفور الرحيم ، إن يغفر لمن تاب من هؤلاء وهؤلاء ويرحمه ، إذا صدق في التوبة وأصلح عمله ، فهو بمقتضى أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، يعذّب من يشاء تعذيبه من الجناة تربية له ، وتأمينا لعباده من شرّه ، ويرحم من يشاء من التائبين والمصلحين برحمته وفضله ، ترغيبا لعباده في تزكية أنفسهم ، وصلاح ذات بينهم ، وهو على كل شيء من التعذيب والرحمة قدير ، لا يعجزه شيء في تدبير ملكه . يجوز إن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن أو يقرؤه . ويجوز إن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والاستفهام فيه للتقرير ، أي إنّك تعلم هذا فتذكّره وذكّر به . وجعله ابن جرير لأهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وجوارها ومن على شاكلتهم ، الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ؛ لأن السياق الذي انتهى ببيان حدّ السرقة كان في محاجّتهم ، ومنها إبطال دعواهم إنهم أبناء الله وأحباؤه بأنهم بشر من جملة خلقه ، وأنه هو ربّ العباد ومالكهم ، المتصرف في أمرهم بالعدل والحكمة ، يغفر لمن يشاء ، ويعذّب من يشاء كما تقدم . فكأن ابن جرير يرى أن ما ذكر من وضع الله الحدود والعقوبات في الدنيا ، وبيان ما أعدّه من الخزي والعذاب للعصاة في الآخرة ، ينتظم في سلك الدلائل على إبطال دعوى قولهم إنهم أبناء الله وأحباؤه ، وإثبات كونهم بشراً من جملة خلقه ، يعذّب من شاء منهم بالشرع وبالفعل كما يعذب غيرهم ، كما يرحم من يشاء . وتشهد بذلك شريعتهم ذات العقوبات القاسية ، وما وقع عليهم أفرادا وجميعا من عذاب الدنيا بالحرب والسبي والأمراض . وقد تقدم هنا ذكر العذاب على ذكر الرحمة خلافاً لما تكرر في القرآن ، حتّى في مثل هذا التركيب من تقديم الرحمة أو المغفرة على العذاب ، ومنه الآية التي ردّ الله فيها على أهل الكتاب زعمهم إنهم أبناء الله وأحباؤه ، إذ قال : { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [ المائدة : 18 ] وحكمة هذا التقديم هنا ترتيب الآية على ما قبلها من بيان عقاب السارق أولا ، وذكر توبته ثانيا . فهي لا تنافي كون الرحمة المطلقة سابقة ومقدّمة على العذاب المطلق . واستدل الرازي وأمثاله بالآية على مذهب الأشاعرة القائلين بأنه يحسن من الله تعالى أن يعذّب التائبين المصلحين ، والنبيين والصديقين ، ولو بتخليدهم في النار ، ويرحم المفسدين الظالمين ، ولو بتخليدهم في الجنة ، ووجه الدلالة عندهم إنه تعالى ناط التعذيب والرحمة بالمشيئة ، ورتّبه على كونه مالك الملك ، والمالك يتصرف في ملكه كما يشاء . وما حسن لهم هذا القول واستنباط مثل هذا الدليل له ، إلاّ توجه ذكائهم وفهمهم إلى الردّ على من نقلوا عنهم من المعتزلة إنه يجب عليه تعالى إن يفعل ما هو الأصلح لعباده . فإن كان قد قال هذا القول بنصّه أحد ، فهو مخطئ وقليل الأدب ؛ لأنه يوهم أن هنالك سلطانا فوق سلطان الله سبحانه يوجب عليه ، وإن كان لا يريد ذلك . ولكن الأشاعرة لا يستطيعون إن ينكروا ولا أن يتأوّلوا ما ثبت في الكتاب والسنة من إن الله تعالى يوجب على نفسه ما يشاء ، فلا يكون ذلك نافياً لكونه صاحب الملك والتدبير ، ولا لتقييد مشيئته بسلطة سواه ، ولا هم ينكرون إن مشيئته لا تكون إلاّ على حسب علمه وحكمته ، وإنه لا يمكن إن تكون معطّلة لصفة من صفاته . فإذا لا وجه للقول بأن مقتضى الملك إن يكون كل عمل يعمله المالك حسنا من حيث إنه المالك ، إذ الأمر في الشرع والعقل والعرف ليس كذلك ، فالذي يملك عدّة عبيد فيظلم المحسن منهم بالضرب والإهانة بغير ذنب منه ، ويحسن إلى الفاسق المسيء المفسد في داره وملكه ، يعدّ ظالماً مذموماً شرعاً وعقلاً ولغة وعرفا . وأما كون كل ما يفعله الله تعالى فهو حقّ وحسن ، فليس سببه إنه المالك وكون المالك يحسن منه كل تصرف في ملكه من حيث إنه المالك ، بل لأنه تعالى منزّه عن الظلم والنقص ، متّصف بالحكمة والعدل ، والرحمة والفضل ، فتقديسه وتنزيهه وكماله يتجلى في أسمائه الحسنى كلّها ، لا في اسم الملك والمالك والمريد فحسب . وقد كانت العرب بدوها وحضرها ، تفهم من وضع أسماء الله تعالى في الآيات بحسب المناسبة ما لا يفهمه أمثال الرازي - على إمامته في العلوم والفنون العربية ، واطلاعه على ما نقل عنهم في هذا الباب . ومن ذلك ما نقله عن الأصمعي في تفسير آية السرقة قال : " قال الأصمعي : كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية فقلت : { ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سهوا . فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟ فقلت كلام لله . قال : أعد . فأعدت { ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم تنبّهت فقلت { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : الآن أصبت . فقلت كيف عرفت ؟ قال : يا هذا ( عزيز حكيم ) فأمر بالقطع . فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع " اهـ . فقد فهم الأعرابي الأمي إن مقتضى العزة والحكمة . غير مقتضى المغفرة والرحمة ، وأن الله تعالى يضع كل اسم موضعه من كتابه ، ليدل على متعلقه في خلقه . ولم يتأمل الرازي في كلام الأعرابي من هذا الوجه ، بل من وجه بلاغة المناسبات فقط . وسبحان من لا يغفل ولا يذهل ، ولا يضل ولا ينسى .