Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 67-69)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } تقدم إن نداء النبي صلى الله عليه وسلم بلقب الرسول ، لم يرد إلاّ في موضعين من هذه السورة ، وهذا ثانيهما ؛ وكلاهما جاء في سياق الكلام في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ومحاجّتهم في الدين . وقد اختلف مفسرو السلف في وقت نزول هذه الآية ، فروى ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس ، وأبو الشيخ عن الحسن ، وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد ، ما يدل على إنها نزلت في أوائل الإسلام ، وبدء العهد بالتبليغ العام . وكأنها على هذا القول وضعت في آخر سورة مدنية للتذكير بأول العهد بالدعوة في آخر العهد بها ، وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري إنها نزلت يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب . وروت الشيعة عن الإمام محمد الباقر إن المراد بما أنزل إليه من ربه : النص على خلافة عليّ بعده ، وإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف إن يشق ذلك على بعض أصحابه فشجّعه الله تعالى بهذه الآية . وفي رواية عن ابن عباس إن الله أمره إن يخبر الناس بولاية علي فتخوّف إن يقولوا : حابى ابن عمه ، وإن يطعنوا في ذلك عليه ، فلما نزلت الآية عليه في غدير خمّ أخذ بيد علي وقال : " من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " ولهم في ذلك روايات وأقوال في التفسير مختلفة . ومنها ما ذكره الثعلبي في تفسيره إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في موالاة علي شاع وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته وكان بالأبطح فنزل وعقل ناقته وقال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ من أصحابه : يا محمد أمرتنا عن الله إن نشهد إن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؛ فقبلنا منك - ثم ذكر سائر أركان الإسلام وقال - ثم لم ترض بهذا حتّى مددت بضبعي ابن عمك وفضّلته علينا ، وقلت " من كنتُ مولاه فعلي مولاه " فهذا منك أم من الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " والله الذي لا إله إلا هو ، هو أمر الله " فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره ، وأنزل الله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ } [ المعارج : 1 - 2 ] إلخ ، وهذه الرواية موضوعة . وسورة المعارج هذه مكية . وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجرة ، وهذا التذكير في سورة الأنفال ، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين ، وظاهر الرواية إن الحارث ابن النعمان هذا كان مسلماً فارتد ، ولم يعرف في الصحابة ، والأبطح بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع من غدير خم إلى مكة ؛ بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة . أما حديث " من كنت مولاه فعلي مولاه " فقد رواه أحمد في مسنده من حديث البراء وبريدة ، والترمذي والنسائي والضياء في المختارة من حديث زيد ابن أرقم ، وابن ماجه عن البراء ، وحسنه بعضهم وصححه الذهبي بهذا اللفظ ، ووثق أيضاً سند من زاد فيه : " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " إلخ وفي رواية إنه خطب الناس فذكر أصول الدين ، ووصى بأهل بيته فقال " إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض . الله مولاي ، وأنا ولي كل مؤمن " ثم أخذ بيد علي وقال - الحديث . ورواه غير من ذكر بأسانيد ضعيفة ، ومنها إن عمر لقيه فقال له : هنيئاً لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة . وذكروا إن سببه تبرئة علي مما كان قاله فيه بعض من كان معه في اليمن واستمالتهم إليه ، ذلك إن عليا كرم الله وجهه كان قد وجهه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية إلى اليمن ، فقاتل من قاتل وأسلم على يديه من أسلم ، ثم إنه تعجّل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك معه الحج واستخلف على جنده رجلاً من أصحابه ، فكسا ذلك الرجل كل واحد منهم حلة من البز الذي كان مع علي . فلما دنا جيشه خرج إليهم فوجد عليهم الحلل فأنكر ذلك وانتزعها منهم ، فأظهر الجيش شكواه من ذلك . وروي أيضاً عن بريدة الأسلمي إنه كان مع علي في غزوة اليمن وأنه رأى منه جفوة ، فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم إن بعض المؤمنين يشكو علياً بغير حق ، إذ لم يفعل إلا ما يرضي الحق ، خطب الناس في غدير خم ، وأظهر رضاه عن علي وولايته له وما ينبغي للمؤمنين من موالاته . وغدير خم مكان بين الحرمين قريب من رابغ على بعد ميلين من الجحفة . قالوا وقد نزله النبي صلى الله عليه وسلم وخطب الناس فيه في اليوم الثامن من ذي الحجة . وقد أتخذته الشيعة عيداً على عهد بني بويه في حدود الأربع مئة . ويقول أهل السنة إن الحديث لا يدل على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة ، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى . بل المراد بالولاية فيه ولاية النصرة والمودة التي قال الله فيها في كل من المؤمنين والكافرين { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] ومعناه من كنت ناصراً وموالياً له فعلي ناصره ومواليه ، أو من والاني ونصرني فليوال علياً وينصره . وحاصل معناه إنه يقفو أثر النبي صلى الله عليه وسلم فينصر من ينصر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى من ينصر النبي أن ينصره . وهذه مزية عظيمة . وقد نصر كرم الله وجهه أبا بكر وعمر وعثمان ووالاهم . فالحديث ليس حجة على من والاهم مثله ، بل حجّة له على من يبغضهم ويتبرأ منهم . وإنما يصح إن يكون حجة على من والى معاوية ونصره عليه . فهو لا يدل على الإمامة ، بل يدل على نصره إماما ومأموما . ولو دل على الإِمامة عند الخطاب ، لكان إماماً مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم والشيعة لا تقول بذلك ، وللفريقين أقوال في ذلك لا نحب استقصاءها والترجيح بينها ، لأنها من الجدل الذي فرّق بين المسلمين ، وأوقع بينهم العداوة والبغضاء . وما دامت عصبية المذاهب غالبة على الجماهير ، فلا رجاء في تحريهم الحق في مسائل الخلاف ، ولا في تجنبهم ما يترتب على الخلاف من التفرّق والعداء . ولو زالت تلك العصبية ونبذها الجمهور لما ضر المسلمين حينئذٍ ثبوت هذا القول أو ذاك ؛ لأنهم لا ينظرون فيه حينئذٍ إلا بمرآة الإنصاف والإعتبار ، فيحمدون المحقين ، ويستغفرون للمخطئين { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] . ثم إننا نجزم بأن مسألة الإمامة لو كان فيها نص من القرآن أو الحديث ، لتواتر واستفاض ، ولم يقع فيها ما وقع من الخلاف ، ولتصدى علي للقيام بأمر المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فخطبهم وذكرّهم بالنص ، وبيّن لهم ما يحسن بيانه في ذلك الوقت . وكان هو الواجب عليه لو كان يعتقد إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من الله ورسوله . ولكنه لم يقل ذلك ولا احتج بالآية هو ولا أحد من آل بيته وأنصاره الذين يفضّلونه على غيره ، لا يوم السقيفة ولا يوم الشورى بعد عمر ، ولا قبل ذلك ولا بعده في زمنه ، وهو هو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولم يعرف التقيّة في قول ولا عمل ، وإنما وجدت هذه المسائل ، ووضعت لها الروايات واستنبطت الدلائل ، بعد تكوّن الفرق ، وعصبية المذاهب . والوصية بالخلافة لا مناسبة لها في سياق محاجة أهل الكتاب ، فهي مما لا ترضاه بلاغة القرآن ، بل لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم النص على خليفته من بعده وتبليغ ذلك للناس لقاله في خطبته في حجة الوداع . وهي التي استشهد الناس فيها على تبليغه فشهدوا ، وأشهد الله على ذلك . دع سياق الآية وما قبلها وما بعدها ، فإنها هي نفسها لا تقبل إن يكون المراد بالتبليغ فيها تبليغ الناس إمارة عليّ ، فإن جملة " وإن لم تفعل " الشرطية ، التي بعد جملة " بلغ " الأمرية ، وجملة الأمر بالعصمة ، وجملة التذييل التعليلي بنفي هداية الكافرين : لا يناسب شيء منها تبليغ الناس مسألة الإمارة ، فتأمل الآية في ذاتها بعين البصيرة لا بعين التقليد . وأما الحديث فنهتدي به : نوالي علياً المرتضى ، ونوالي من والاهم ، ونعادي من عاداهم ، ونعد ذلك كموالاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ونؤمن بأن عترته صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على مفارقة الكتاب الذي أنزله الله عليه ، وإن الكتاب والعترة خليفتا الرسول ، فقد صحّ الحديث بذلك في غير قصة الغدير ؛ فإذا أجمعوا على أمر قبلناه واتبعناه ، وإذا تنازعوا في أمر رددناه إلى الله والرسول . وأما المتبادر من الآية ، فالظاهر إنه الأمر بالتبليغ العام في أول الإسلام ، كما رواه أهل التفسير المأثور ، ولولاه لأحتمل إن يكون المراد به تبليغ أهل الكتاب ما بعد هذه الآية . كأنه قال : بلّغ ما أنزل إليك في شأن أهل الكتاب ، وأذكر لهم ما يكون فصل الخطاب ، فإن سألت عن ذلك فهاك الجواب : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } إلخ ما سيأتي . وإذا صح حديث ابن عباس الذي رواه ابن مردويه والضياء ، لا يبقى للإحتمال مجال . قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية من السماء أنزلت أشد عليك ؟ فقال : " كنت بمنى أيام موسم وأجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } الآية ، قال : فقمت عند العقبة فقلت : يا أيها الناس من ينصرني على إن أبلّغ رسالات ربي ولكم الجنة ؟ أيها الناس وقولوا : لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة . قال صلى الله عليه وسلم " فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ويقولون : كذاب صابىء . فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك " فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه " وسيأتي لهذا مزيد تأكيد . قال تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } أي وإن لم تفعل ما أمرت به من التبليغ العام لما أنزل إليك كلّه - وهو ما عليه الجمهور - أو الخاص بأهل الكتاب - على ما سبق من الاحتمال - بأن كتمته ولو مؤقتاً ، خوفاً من الأذى بالقول أو الفعل أو بهما جميعاً . { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي فحسبك جرما إنك ما بلّغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله ، وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] وذهب الجمهور إلى إن معناه : وإن لم تبلّغ جميع ما أنزل إليك من ربك - بأن كتمت بعضه - فكأنك لم تبلّغ منه شيئاً قط ؛ لأن كتمان البعض ككتمان الجميع . فهو من قبيل قوله تعالى : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] ويقوّيه قراءة نافع وابن عامر وابن أبي بكر " رسالاته " بالجمع . فمعنى هذه القراءة أفادة إستغراق النفي لكل مسألة من مسائل الوحي الذي كلّف الرسول تبليغه ، لكن في الحكم لا في الواقع . فكأنه قال : وإن لم تفعل ، كنت كأنك ما بلّغت شيئاً ما من مسائل الرسالة ؛ لأنها لا تتجزأ . وقد ضعّف هذا الوجه الإمام الرازي ، وإن كان رأي الجمهور ؛ لأنه يقتضي إن ترك تبليغ بعض المسائل ترك لتبليغ كل مسألة بالفعل ، وذلك خلاف الواقع ، أو في الحكم ، ولا يصح إن يجعل تارك صلاة واحدة كتارك جميع الصلوات . وإنما المعنى على التشبيه من بعض الوجوه . ولا يعارض ما لا يتجزأ في الحكم كالإيمان والكفر ، بما يتجزأ كالعبادات والمعاصي . وترك التبليغ - لو جاز وقوعه - كفر . ولهذا المعنى نظير يؤيّده وهو حكم الله بأن من كذّب بعض الرسل ، كان كمن كذّبهم كلهم ، وذلك قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً } [ النساء : 150 - 151 ] بل ورد ما يؤيّد الوجه الآخر أيضاً ، وهو تشبيه قاتل النفس الواحدة ، بقاتل الناس جميعاً ، وتقدمت الآية في ذلك . وأما معنى قراءة الآخرين " رسالته " بالإفراد فهو نفي القيام بمنصب الرسالة . وقد جاء في القرآن ذكر تبليغ الرسالات بالجمع في قوله تعالى من سورة الأحزاب بعد قصة زيد وزينب : { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } [ الأحزاب : 39 ] هكذا قرأ الجماعة كلهم " رسالات " بالجمع ، وإنما قرىء بالإفراد في الشواذ . وجاء في مواضع أخرى من سورة الأعراف : وغيرها . والاستشهاد بآية الأحزاب أنسب في هذا المقام ؛ لأن ما نزل في قصة زيد وزينب ، هو أشدّ ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم متعلقاً بشخصه الكريم ، وهو قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] حتى روي عن عائشة وأنس رضي الله عنهما أنهما قالا : لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن شيئاً لكتم هذه الآية . فإن قيل : إن الله تعالى قد عصم الرسل عليهم السلام من كتمان شيء مما أمرهم بتبليغه ، ولولا ذلك لبطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ ، فما حكمة التصريح مع هذا بالأمر بالتبليغ ، وتأكيده بجعل كتمان بعضه ككتمانه كله ؟ قلت : حكمته بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعلام الله تعالى إياه بأن التبليغ حتم لا تخيير فيه ، ولا يجوز كتمانه ولو مؤقتاً بتأخير شيء منه عن وقته على سبيل الاجتهاد . إذ كان يجوز لولا هذا النص إن يكون من اجتهاد الرسول تأخير بعض الوحي إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله ، ولا يحملهم سماعه على ردّه ، وإيذاء الرسول لأجله . وحكمته بالنسبة إلى الناس ، أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنصّ ، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأي والفهم . أما الأول ، فيؤيّده تأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الإذن لمولاه زيد بن حارثة بتطليق زينب مع علمه بأن الله تعالى ما قضى بتزويجها له - وهو يعلم إن طباعهما لا تتفق وأنه لا بد إن يضطر إلى طلاقها - إلاّ ليتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الطلاق ، ويبطل بذلك جريمة التبنيّ وما يترتب عليها من الباطل . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن يقول الناس : تزوج مطلّقة ابنه ، لأنه تبنّى زيدا قبل البعثة . ولما لم يؤقّت الله تعالى وقتا لتطليق زيد لزينب ولتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها ، وافق اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم طبعه البشري والعمل بظاهر الشريعة من كراهة الطلاق ، فكان بناء على هذا يقول لزيد كلّما شكا إليه عشرة زينب " أمسك عليك زوجك واتق الله " ويخفي في نفسه ما يعلمه من أنه لا بد من طلاق زيد لها وتزّوجه هو بها ، ولكنه كان يحب تأخير ذلك . فلو كان في تبليغ الوحي هوادة لجاز في بعض مسائل الوحي مثل هذا التأخير بالإجتهاد . ولأجل هذا الشبه والتناسب بين تنفيذ ما أراد الله من إبطال التبنّي ولوازمه بزواج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب بعد تطليق زيد لها ، وبين مسألة تبليغ الوحي وكونه لا يجوز تأخيره خشية من قول الناس أو فعلهم - لأجل هذا - بيّن الله عقب هذه المسألة من سورة الأحزاب سنّته في عدم الحرج على الرسل وفي تبليغهم رسالات الله ، وكونهم يخشونه ولا يخشون أحداً سواه ( راجع آية 38 و39 منها ) . وأما الثاني - وهو ما ذكرنا من حكمة ذلك بالنسبة إلى الناس - فيؤيده ما نقل إلينا من الأقوال والآراء في جواز كتمان بعض الوحي - غير القرآن - أو العلم النبوي غير الوحي ، عن كل الناس أو عن جمهورهم ، وتأويل هذه الآية وما ثبت في معناها تأويلا يتفق مع آرائهم ؛ فكيف لو لم ترد هذه الآية في المسألة . ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين والسنن من سؤال بعض الناس علياً المرتضى : هل خصّهم الرسول بشيء من الوحي أو علم الدين ؟ يعني أهل البيت . وقد ورد في ذلك روايات متعددة بألفاظ مختلفة . منها قول أبي جحيفة لعلي : هل عندكم شيء من الوحي إلاّ ما في كتاب الله ؟ قال علي : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلاّ فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . ( قال السائل ) قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر . ومن البديهي إن الاستثناء في كلام الإمام علي منقطع ؛ لأن الفهم في القرآن ليس من الوحي ، وكذا ما في الصحيفة . وهو العقل أي دية القتل وفكاك الأسير إلخ وقال بعض العلماء : إن سبب سؤال علي عن ذلك إن بعض غلاة الشيعة كانوا يتحدثون ، أو يبثون في الناس إن عند علي وآل بيته من الوحي ما خصّهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون الناس . ويروي عن بعضهم جواز الكتمان على سبيل التقيّة . ومن الناس من قال إن ما يوحيه الله للرسل أنواع : منها ما هو خاص بهم لا يأذنهم بتبليغه لأحد ، ومنه ما يأمرهم بتبليغه لجميع الناس ؛ ومنه ما يخص به من يراهم أهلا له من الأفراد . ومن هنا أخذ من يقولون إن علم الأنبياء قسمان ظاهر وباطن ، فالظاهر عام ، والباطن خاص . ولبعض المتصوفة والباطنية سبح طويل في بحر هذه الأوهام . فأما الباطنية فأئمتهم في مذاهبهم زنادقة ، تعمّدوا هدم الإسلام بالشبهات والتأويلات المشككات . وأما المتصوّفة فقد راج على بعضهم تلك الشبهات والتأويلات لضعفهم في علم الكتاب والسنة . فاستمسكوا بالأحاديث الموضوعة ، وأخذوا بظواهر بعض الأحاديث والآثار الصحيحة . كقول أبي هريرة المروي في صحيح البخاري : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثتهُ قطع مني هذا البلعوم . - يشير إلى عنقه ، لأنه إذا ذبح ينقطع بلعومه وهو مجرى الطعام - فجهلة المتصوفة يزعمون إن ما عندهم من علم الحقيقة ، هو من قبيل ما في الوعاء الآخر من وعاءي أبي هريرة ، وبعضهم يظن إن لشيوخهم سنداً في تلقي علم الباطن ينتهي إلى بعض الصحابة ، أو أئمة آل البيت عليهم الرضوان . والذي عليه المحققون إن أبا هريرة يعني بما كتم من الحديث ، أحاديث الفتن وما يكون من الفساد في الدين والدنيا على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش ، وهم بنو أمية . وقد روي عنه إنه دعا الله تعالى أن ينقذه من سنة ستين وإمارة الصبيان . وقد مات سنة سبع وخمسين ، وقيل سنة تسع وخمسين . وفي سنة ستين ولي يزيد بن معاوية ؛ فعلم إن أبا هريرة كان يستعيذ بالله من إمارته ، وقد أعاذه الله تعالى فلم ير أيامها السود . وروي عنه إنه كان يقول في أغيلمة قريش الذين يفسدون على المسلمين أمر دينهم كما ورد في الحديث : " لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت " فهذا دليل على إنه سمع كحذيفة بن اليمان أخبار الفتن وأمراء الجور من النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكتمها عند وقوعها ، خوفاً من انتقام أولئك الأمراء المستبدّين المفسدين . وأما كتمان شيء من أمر الدين ، فهو محرّم بالإجماع وبنصوص الكتاب والسنة ، فكيف يكتمه ؟ . وقد روى البخاري وغيره عنه أنه قال : إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة الحديث ، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدّثت حديثاً . ثم يتلو قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 159 ] - إلى قوله تعالى - { الرَّحِيمُ } [ البقرة : 160 ] وقوله : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] إلخ وروى عنه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه حديث " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " وروي عن غيره ، وله طرق حسنة وصحيحة ، والوعيد في بعض ألفاظه على الكتمان مطلقاً . والحق الذي لا مرية فيه أن الرسول بلّغ جميع ما أنزله الله إليه من القرآن وبينّه ، ولم يخصّ أحداً بشيء من علم الدين ، وإنه لا يمتاز أحد في علم الدين على أحد إلاّ بفهم القرآن . وهو على نوعين : نوع كسبي يتوسل إليه بعلم السنّة وآثار علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار في الصدر الأول ، ومفردات اللغة العربية وأساليبها ، وكذا بعلوم الكون وشؤون البشر وسنن الله في الخلق ، فإن هذه العلوم المكتسبة من نقلية وعقلية هي التي يستعان بها على فهم القرآن . ونوع وهبي وهو الذي أشار إليه الإمام علي المرتضى بالفهم الذي يؤتيه الله عبدا من القرآن ، وهو ما به يفضل أهل العلم الكسبي بعضهم بعضاً ، ومن لا حظّ له من علم العربية والسنن والآثار ، لا حظّ له من هذا العلم الوهبي ؛ لأن الكسبي هو الأصل الذي يثمر العلم الوهبي . وقد ذكر القسطلاني في شرح البخاري إن قول علي يدل على جواز استخراج العلم بفهمه من القرآن ما لم يكن منقولا عن المفسّرين . وقد اشترط العلماء لكل فهم جديد في القرآن شرطين : أحدهما : أن يوافق مدلولات اللغة العربية ، وثانيهما : أن لا يخالف أصول الدين القطعية . فسقطت بذلك ضلالات الباطنية ، وأهل الوحدة من غلاة الصوفية ، وأشباههم من الذين يعبثون بكتاب الله بأهوائهم ، كالدجال عبيد الله الذي صنف في هذه الأيام تصانيف باللغة التركية حرّف فيها القرآن أبعد تحريف ، بحيث لا ينطبق على اللغة العربية ، ولا على أصول الإسلام ولا فروعه . منها كتاب ( قوم جديد ) وكتاب ( صوك جواب ) أي الجواب الأخير . والظاهر إن الغرض من هذه الكتب تنفير الترك من الإسلام وتحويلهم عنه . وقد بيّنا غير مرّة أن القرآن هو أصل الدين ، وإن السنّة بيان له واستنباط منه . وذكرنا بعض الشواهد على هذا في التفسير وفي المنار ، ثم رأينا النقل في ذلك عن الإمام الشافعي ، فقد قال : جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن . ذكره السيد الآلوسي في روح البيان . ومن أجدر من النبي صلى الله عليه وسلم بالفهم الوهبي من القرآن ، وقد اختصه الله بإنزاله إليه وببيانه للناس ؟ وتقدم إيضاح هذا البحث في تفسير { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] في أوائل هذه السورة . وقد روي عن أكابر الصوفية ما لم يرو عن غيرهم في إثبات كون القرآن ينبوع علوم الدين ، بل صرّح بعضهم بكونه ينبوع جميع العلوم والحقائق الكونية كلّها ، وسنعود إلى هذا البحث فنوفيه حقّه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] وما في معناه . { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } روى أهل التفسير المأثور والترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي والطبراني عن بضعة رجال من الصحابة : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية ، فلما نزلت ترك الحرس ، وكان أبو طالب أول الناس اهتماماً بحراسته ، وحرسه العباس أيضاً ، ومما روي في ذلك عن جابر وابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتّى نزلت الآية فقال : " يا عم ! إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث " ومعنى " يعصمك من الناس " يمنعك من فتكهم ، مأخوذ من عصام القربة ، وهو ما توكأ به - أي ما يربط به فمها - من سير جلد أو خيط . والمراد بالناس الكفّار الذين يتضمن تبليغ الوحي بيان كفرهم وضلالهم ، وفساد عقائدهم وأعمالهم ، والنعي عليهم وعلى سلفهم ، فإن ذلك يغيظهم ويحملهم على الإيذاء ، . لذلك كان المشركون يتصدون لإيذائه صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل ، وائتمروا به بعد موت أبي طالب ، وقرّروا قتله في دار الندوة ، ولكن الله تعالى عصمه منهم . وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة . ولذلك قيل : إن هذه الآية نزلت مرّتين ، فإن لم تكن نزلت مرّتين فقد وضعت في سياق تبليغ أهل الكتاب ، لتدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عرضة لإيذائهم ، وإن الله تعالى هو الذي عصمه من كيدهم ، ولتذكر بما كان من إيذاء مشركي قومه من قبلهم . أما قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } فهو تذييل تعليلي للعصمة ، أي إنه تعالى لا يهدي أولئك الناس الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ - وهم القوم الكافرون - إلى ما يهمّون به من ذلك ، بل يكونون خائبين ، وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين . { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } أي " قل " لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلّغهم عن الله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } يعتدّ به من أمر الدين ، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين { حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص ، والعمل الصالح ، وفيما بشّرا به من بعثة النبي الذي يجيء من ولد إسماعيل ، الذي عبّر عنه المسيح بروح الحق وبالبارقليط { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } على لسانه وهو القرآن المجيد ، فإنه هو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين ، على حسب سنّته في النشوء والإرتقاء بالتدريج . وقيل : إنّ المراد بما أنزل إليهم من ربهم ، ما أنزل على سائر أنبيائهم ، كما قيل مثله في آية : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } [ المائدة : 66 ] وتقدم توجيهه ، ولم يبعد العهد به فنعيده . إلاّ أن ذاك حكاية ماضية ، وهذا بيان للحال الحاضرة ، والحجّة عليهم في الزمنين قائمة . فهم لم يكونوا مقيمين لتلك الكتب قبل هذا الخطاب ، ولا في وقته ، ولا كان في استطاعتهم أن يقيموها في عهده ، كما إنهم لا يستطيعون أن يقيموها الآن . فهذا تعجيز لهم ، وتفنيد لدعواهم الاستغناء عن اتباع خاتم النبيين ، باتباعهم لأنبيائهم السابقين ، ولا يتضمن الشهادة بسلامة تلك الكتب من التحريف . ومثله أن تقول الآن لدعاة النصرانية من الأمريكان والألمان والإنكليز : يا أيها الداعون لنا إلى اتباع التوراة والإنجيل ، نحن لا نعتد بكم ، ولا نرى أنكم على إيمان وثقة بدينكم ، وصدق وإخلاص في دعوتكم ، حتى تقيموا أنتم وأهل ملتكم التوراة والإنجيل اللذين في أيديكم ، فتحبّوا أعداءكم ، وتباركوا لاعنيكم ، وتعطوا ما لقيصر لقيصر ، وتخضعوا لكل سلطة لأنها من الله ، وإذا اعتدى عليكم أحد فلا تعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، بل أديروا له الخد الأيسر ، إذا ضربكم على الخد الأيمن ، واتركوا التنافس في إعداد آلات الفتك الجهنمية ، ليكون للناس السلام في الأرض . واخرجوا من هذه الأموال الكثيرة والثروة الواسعة ، لأن الغني لا يدخل ملكوت السماوات ، حتّى يلج الجمل في سم الخيّاط ، ولا تهتموا برزق الغد ، إلخ . ونحن نراكم على نقيض كل ما جاء في هذه الكتب ، فأنتم لا تخضعون لكل حاكم بل ميّزتم أنفسكم . واستعليتم على الشرائع والحكام من غيركم ، وإذا اعتدي على أحد منكم في بقعة من بقاع الأرض . تجرّدون سيوف دولتكم وتصوبون مدافعها على بلاد المعتدي ودولته لا عليه وحده ، حتّى تنتقموا لأنفسكم بأضعاف ما اعتدي به عليكم . ولا همّ لأممكم ودولكم إلا إمتلاك ثروة العالم وزينته ونعيمه . وتسخير غيركم من الأمم لخدمتكم بالقوّة القاهرة . والاستعداد لسحق من ينافسكم في مجد هذا العالم الفاني . لعدم اهتمامكم بمجد الملكوت الباقي ، فنحن لا نصدّق بأنكم تدينون الله بهذه الكتب التي تدعوننا إليها ، حتّى تقيموها على وجهها . فهل يعدّ دعاة النصرانية مثل هذا الخطاب لهم اعترافاً منا بسلامة كتبهم من التحريف والزيادة والنقصان أم يفهمون إنه حجّة مبنية على التسليم الجدلي لأجل الإلزام ؟ نعم يفهمون هذا ، ولكنّهم يقولون لعوام المسلمين ، إن هذه الآية شهادة للتوراة والإنجيل بالسلامة من التحريف ! ! . { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } هذه جملة مستأنفة مؤكدة بالقسم الذي تدل عليه اللام في أوّلها ، تثبت أن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن - الذي أكمل الله به الدين ، المنزل على محمد خاتم النبيين - إلاّ طغياناً في فسادهم ، وكفراً على كفرهم ؛ ذلك بأنهم ما كانوا على إيمان صحيح بالله ولا بالرسل ، ولا على عمل صالح مما تهدي إليه تلك الكتب ، وإنما كان أكثرهم على تقاليد وثنية ، وعصبية جنسية ، وعادات وأعمال ردية ، فهم لهذا لم ينظروا في القرآن نظر إنصاف . وليس لهم من حقيقة دينهم الحق ما يقرّبهم من فهم حقيقة الإسلام ، ليعلموا أن دين الله واحد ، فما سبق بدء ، وهذا إتمام . بل ينظرون إليه بعين العصبية والعدوان ، وهذا سبب زيادة الكفر والطغيان ، - والطغيان مجاوزة الحد المعتاد . وأما غير الكثير - وهم الذين حافظوا على التوحيد ، ولم تحجبهم عن نور الحق تلك التقاليد - فهم الذين يرون القرآن بعين البصيرة ، فيعلمون أنه الحقّ من ربهم ، وإن من أنزل عليه ، هو النبي الأخير المبشّر به في كتبهم ، فيسارعون إلى الإيمان ، على حسب حظّهم من العلم وسلامة الوجدان . والفرق بين نسبة إنزال القرآن إلى الرسول هنا ، ونسبة إنزاله إليهم في أول الآية ( على القول المشهور بأن المراد بما أنزل إليهم القرآن ) هو أن خطابهم بإنزال القرآن إليهم يراد به إنهم مخاطبون به ومدعون إليه ، ومثله : { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا } [ البقرة : 136 ] وأما إسناد إنزاله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لإفادة أنه أوحي إليه فقط ، بل يشعر - مع ذلك - بأن إنزاله إليه سبب لطغيانهم وكفرهم ، وإنهم لم يكفروا به لأجل إنكارهم لعقائده وآدابه وشرائعه أو استقباحهم لها ، بل لعداوة الرسول الذي أنزل إليه وعداوة قومه العرب . وقيل إنه يفيد براءتهم منه ، وإنه لا حظ لهم فيه . { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } أي فلا تحزن عليهم ، لأنهم قوم تمكن الكفر منهم ، وصار وصفاً لازماً لهم - وهذه نكتة وضع الظاهر موضع الضمير - وحسبك الله ومن أتبعك من مؤمني قومك ومنهم ، كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم : قال الراغب : الآسى : الحزن ، وأصله إتباع الفائت بالغم . والعبرة للمسلم في الآية أن يعلم أن المسلمين لا يكونون على شيء يعتدّ به من أمر الدين ، حتّى يقيموا القرآن وما أنزل إليهم من ربهم فيه ويهتدوا بهدايته ، فحجّة الله على جميع عباده واحدة ، فإذا كان الله تعالى لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ، تلك التقاليد التي صدّتهم عمّا عندهم من وحي الله تعالى ، على ما كان قد طرأ عليه من التحريف بالزيادة والنقصان ، فأن لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظه لكتابنا أولى . والناس عن هذا غافلون ، وبالانتساب إلى المذاهب راضون ، وبهدي أئمتها لا يقتدون ، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون ، { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] ولما كان الانتساب إلى الدين لا يفيد في الآخرة إلاّ بإقامة كتاب الدين ، بيّن الله تعالى بعد تلك الحجة أصول الدين المقصودة من إقامة الكتب الآلهية كلها ، التي يترتب عليها الجزاء والثواب فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ } [ البقرة : 62 ] - { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } مناسبة وضع هذه الآية هنا لما قبلها وما بعدها ، بيان إن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله ، وما كلّفهم الله إياه ، لا وسائله ولا مقاصده ، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلّها ، ولا هم تركوا ما عندهم ، منها على ظواهرها ، ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر ، على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح ، ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون - اللهم إلاّ قليلاً منهم كان مخبوءاً في طيّات الزمان ، أو شعاف الجبال وزوايا البلدان - كانوا يعذبون على توحيد الله ، ويرمون بالزندقة أو الهرطقة لرفضهم تقاليد الكنائس ، وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة فيراجع تفسيرها في المفصل ، في جزء التفسير الأول . وفي هذه الآية بحث لفظي ليس في تلك ، وهو رفع كلمة الصابئين وتقديمها على كلمة النصارى . فأما الرفع ، ففي إعرابه وجوه ، أشهرها إنه مبتدأ خبره محذوف والتقدير " والصابئون كذلك " أو معطوف على محل اسم إن ، وقد أجاز كوفيو النحويين هذا وعدّوه من الفصيح إذا كان اسم إن مبنيّا كما هو هنا ، وكقولك : إنك وزيد صديقان . والبصريون يمنعونه ، ومن هذا القبيل قول الشاعر : @ وإلاّ فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق @@ والإِعراب صناعة يستعان بها على ضبط كلام العرب وفهمه . والعمدة في إثبات اللغات كلّها السماع من أهلها . وقد ثبت بالسماع إن هذا الاستعمال فصيح ، ولكن ما نكتته ؟ النكتة التي كان بها رفع الصابئين فصيحاً هاهنا على مخالفته نسق عطف المنصوب على المنصوب ، هي تنبيه الذهن إلى أن الصابئين كانوا أهل كتاب ، وإن كان حكمهم كحكم المسلمين واليهود والنصارى في تعليق نفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة بشرط الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، اللذين تتزكى بهما النفوس ، وتستعد لإرث الفردوس . ولما كان هذا غير معروف عند المخاطبين بهذه الآية ، وكان الصابئون غير مظنة لإشراكهم في الحكم مع أهل الكتب السماوية ، حسن في شرع البلاغة إن ينبه إلى ذلك بتغيير نسق الإعراب . فمثل هذا التغيير ، لا يعدّ فصيحاً إلاّ في مثل هذا التعبير . وهو ما كان لما تغيّر إعرابه وأخرج عما يماثله ، صفة خاصة تريد التنبيه عليها . فإذا قلت " إن زيداً وعمراً - وكذا بكر - أو بكر كذلك - قادرون على مناظرة خالد " لم يكن هذا القول بليغاً ، إلاّ إذا كان بكر في مظّنة العجز عن مناظرة خالد ؛ وأردت أن تنبه على خطإ هذا الظن ، وعلى كون بكر ، يقدر على ما يقدر عليه من ذلك زيد وعمرو . وهاهنا قاعدة عامة في البلاغة ، تدخل في بلاغة النطق والكتابة ، وهي أن ما يراد تنبيه السمع أو اللحظ إليه من المفردات أو الجمل ، يميّز على غيره ، إما بتغيير نسق الإعراب في مثل الكلام العربي مطلقا ، وإما برفع الصوت في الخطابة ، وأما بكبر الحروف ، أو تغيير لون الحبر أو وضع الخطوط عليه في الكتابة . والمسلمون يكتبون القرآن في التفسير والمتون المشروحة بحبر أحمر . وفي الطبع يضعون الخطوط فوق الكلام الذي يميّزونه كآيات القرآن في بعض كتب التفسير ، ثم صار الكثيرون منهم يقلّدون الإفرنج في وضع هذه الخطوط تحت الكلام الذي يريدون التنبيه عليه بتمييزه . وقد تجرأ بعض أعداء الإسلام ، على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ! وعدّ رفع الصابئين هنا من هذا الغلط ! ! وهذا جمع بين السخف والجهل . وإنما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أن النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه . وإن قواعده إذا قصرت عن الإحاطة ببعض ما ثبت عن العرب ، فإنما ذلك لقصور فيها ، وإن كل ما ثبت نقله عن العرب ، فهو عربي صحيح ، ولا ينسب إلى العرب الغلط في الألفاظ ، ولكن قد يغلطون في المعاني . ولم توجد لغة من لغات البشر دفعة واحدة . وإنما تترقى اللغات وتتسع بالتدريج ، ولم يكن التجديد في مفرداتها ومركباتها ، والتصرف في أساليبها ومشتقاتها ، بالتشاور والتواطؤ بين جميع أفراد الأمة ولا بين الجماعات منها ، - إلا ما يحصل في بعض المجامع العلمية والأدبية عند بعض الإفرنج في هذا العصر - وإنمّا كان التصرّف والتجديد من عمل الأفراد ، ولا سيّما من يشتهرون بالفصاحة كالخطباء والشعراء . فلم لم يكن ذلك المعترض ضعيف العقل ، أو قوي التعصب على الإسلام ؛ لنهاه عن هذا الإعتراض رواية هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يؤمن بأنه منزل عليه من الله عز وجل . فكيف وقد تلقته العرب بالقبول والاستحسان ؛ فكان إجماعاً عليه أقوى من إقرار الأندية الأدبية ( الأكادميات ) الآن ؟ بل يجب أن ينهاه مثل ذلك نقله عن أي بدوي من صعاليك العرب ، ولو برواية الآحاد . وليت شعري هل يعد ذلك المتعصب الأعمى مبتكرات مثل شكسبير في الإنكليزية وفيكتور هيغو بالفرنسية من اللحن والغلط فيهما ؟ ؟ . وأما تقديم الصابئين هنا على النصارى ، فمن قال إن المراد بالذين آمنوا هنا المنافقون الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، يرى أن نكتته الترتيب بين هذه الأصناف بالترقّي من الجدير بقبول توبته إذا صح إيمانه ودعم بالعمل الصالح ، إلى الأجدر بذلك ، ويجعل النصارى أقربها إلى القبول ، ويليهم عنده الصابئون ، فاليهود فالمنافقون ، وأنت تعلم إن العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، بل مطلق الجمع فلا حاجة إلى تكلّف النكتة للتقديم والتأخير .