Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 70-75)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بدأ الله تعالى السياق الطويل في أهل الكتاب بأخذ الميثاق على بني إسرائيل وبعث النقباء فيهم ، ثم أعاد التذكير به في أواخره هنا ، فذكره وذكر معه إرسال الرسل إليهم وما كان من معاملتهم لهم فقال : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } تقدّم إن الميثاق هو العهد الموثّق المؤكد وإن الله أخذه عليهم في التوراة فراجع الآية 13 ( ج 6 تفسير ) . وقد نقضوا الميثاق كما تبيّن في أوائل هذه السورة وأواخر ما قبلها . وأما معاملتهم للرسل ، فقد بيّن الله تعالى إجماله بهذه القاعدة الكلية ، وهي إنهم كانوا كلّما جاءهم رسول بشيء لا تهواه أنفسهم - وإن كان مقترناً بأشياء يوافق فيها الحق أهواءهم - عاملوه بأحد أمرين : التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان ، أو القتل وسفك الدم . والظاهر إن جملة { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } استئناف بياني ، لا صفة لرسل كما قال الجمهور . وجعل الرسل فريقين في المعاملة بعد ذكر لفظ الرسول مفردا في اللفظ ، جائز ؛ لأن وقوعه مفرداً إنما هو بعد " كلما " المفيدة للتكرار والتعدد ، واستحسن بعضهم إن يكون جواب " كلما " محذوفاً تقديره : استكبروا وأعرضوا ، وجعل التفصيل بعد ذلك استئنافاً بيانياً مفّصلاً لما ترتب على الاستكبار وعدم قبول هداية الرسل . وهو حسن لموافقته لقوله تعالى في آية أخرى : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] وتقدم تفسيرها . والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه - كالتكذيب - وقع في الماضي ، نكتته تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة كأنّه واقع في الحال ، للمبالغة في النعي عليهم والتوبيخ لهم ، فقد أفادت الآية إنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أخشن مركب وأشده تقحّما بهم في الضلال ، حتّى لم يعد يؤثّر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم ، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأخيار . { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي وظنوا ظنا تمكّن من نفوسهم ، فكان كالعلم في قوّته إنه لا توجد ولا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد . والفتنة : الاختبار بالشدائد ، كتسلط الأمم القويّة عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد ، وقيل : المراد بها القحط والجوائح . وليس بظاهر هنا . وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا ، هو ما جاء مفصّلا في أوائل سورة الإسراء - التي تسمّى سورة بني إسرائيل أيضاً - من قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } [ الإسراء : 4 ] - إلى قوله - { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] الآية ، فالفساد مرتين هناك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } أي فعموا عن آيات الله في كتبه الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة ، وعن سننه في خلقه المصدقة لها ، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل ، وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه ، وخرج عن هداية دينه ، فاتبع هواه ، وظلم نفسه والناس ، فلما عموا وصموا وانهمكوا في الظلم والفساد ، سلّط الله تعالى عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار ، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا الأموال ، وسبوا الأمة وسلبوها الملك والاستقلال ، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم ، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم ، ثم عموا وصموا مرّة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض ، وقتل الأنبياء بغير حق ، فسلّط الله تعالى عليهم الفرس ثم الروم ( الرومانيين ) فأزالوا ملكهم واستقلالهم . أما قوله تعالى : { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } فهو بدل من فاعل عموا وصموا ، أو هو الفاعل والواو علامة الجمع على لغة بعض العرب من الأزد التي يعبّر النحاة بكلمة واحد من أهلها قال : " أكلوني البراغيث " والمراد إن عمى البصيرة والختم على السمع لم يكن عاما مستغرقاً لكل فرد من أفرادهم ، وإنما كان هو الكثير الغالب عليهم . وتقدم قريباً في تفسير { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 66 ] بيان حكمة هذا التدقيق في القرآن بنسبة الفساد للكثير أو الأكثر في الأمة . وإنما يعاقب الله الأمم بالذنوب إذا كثرت وشاعت فيها ، لأن العبرة بالغالب ، والقليل النادر لا تأثير له في الصلاح أو الفساد العام ، ولذلك قال تعالى : { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] وهذا هو الواقع وعلته ظاهرة ، وحكمته باهرة . { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } الآن من الكيد لخاتم الرسل ، فاتباع الهوى قد أعماهم وأصمهم مرة أخرى ، فتركهم لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ، وما هو عليه من النعوت والصفات التي أشار إليها النبيّون في بشاراتهم به ، ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات ، وما فيها من الحجج والبيّنات ، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم على ما قبله . وقد غفل عن هذا المعنى جمهور المفسرين فجعلوا " يعملون " بمعنى الماضي . ونكتة التعبير به استحضار صورة أعمالهم في ماضيهم ، وتمثيلها لهم ولغيرهم في حاضرهم ، كما قلنا في تفسير { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } وما قلناه أقوى وأظهر ، وإنما تحسن هذه النكتة في العمل المعين المهم الذي يراد التذكير به بعد وقوعه بجعل الزمن الحاضر ، مرآة للزمن الغابر ، ولا يظهر هذا الحسن في الأعمال المطلقة المبهمة . ومن مباحث اللفظ إن أبا عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب قرأوا " أن لا تكون " والأصل حينئذٍ : وحسبوا أنه - أي الحال والشأن - لا تكون فتنة ، فخففت أن المشددة وحذف ضمير الشأن المتصل ، وأشرب الحسبان معنى العمل كما تقدم . ثم انتقل من بيان حال اليهود إلى بيان حال النصارى في دينهم فقال عز وجل : { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } أكد تعالى بالقسم كفر قائلي هذا القول من النصارى . إذ غلوا في إطراء نبيّهم المسيح ابن مريم عليه السلام ، غلوا ضادّوا به غلوّ اليهود في الكفر به ، وقولهم عليه وعلى أمّه الصديقة بهتاناً عظيماً ، ثم صار هو العقيدة الشائعة فيهم ، ومن عدل عنها إلى التوحيد يعدّ مارقاً من دينهم ، ذلك بأنهم يقولون إن الإله مركّب من ثلاثة أصول يسمّونها " أقانيم " وهي الآب والابن ، وروح القدس ، ويقولون إن المسيح هو الابن ، والله هو الآب ، وإن كل واحد من الثلاثة عين الآخرين ، فينتج ذلك أن الله هو المسيح ، وإن المسيح هو الله بزعمهم . وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في تفسير الآية إل 19 من هذه السورة ( راجع من هذا الجزء ) . { وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي والحال إن المسيح قال لهم ضدّ ما يقولون : أمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، معترفاً بأنه ربه وربهم ، فاعترف بأنه عبد مربوب لله تعالى ، ودعا بني إسرائيل الذين أرسل إليهم أن يعبدوا الله الذي يعبده هو . ولا يزال أمره هذا محفوظاً عندهم فيما حفظوا من إنجيله ، في هذه الكتب التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه ، وهي التي يسمّونها الأناجيل ، ففي إنجيل يوحنا منها عنه عليه السلام ما نصه : " 17 : 3 وهذه هي الحياة الأبدية - أن يعرفوك أنت الإِله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " فدين المسيح مبني على التوحيد المحض ، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله . وسنعود إلى بيان ذلك في تفسير قوله تعالى في آخر هذه السورة حكاية عنه عليه السلام : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 117 ] . { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص . وقفّى عليه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه ، ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله تعالى ، هو أن كل من يشرك بالله شيئاً ما من ملك أو بشر ، أو كوكب أو حجر ، أو غير ذلك ، بأن يجعله ندّا له . أو متّحدا به . أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضر ، أو يزعم أنه يقرّبه إلى الله زلفى ، فيتّخذه شفيعا زاعما أنه يؤثر في إرادة الله تعالى أو علمه ، فيحمله على شيء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته في الأزل - من يشرك هذا الشرك ونحوه - فإن الله يحرّم عليه الجنة في الآخرة ، بل هو قد حرّمها عليه في سابق علمه ، وبمقتضى دينه الذي أوحاه إلى جميع رسله ، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلاّ النار ، دار العذاب والهوان ، وما لهؤلاء الظالمين لأنفسهم بالشرك من نصير ينصرهم ، ولا شفيع ينقذهم { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] - { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] فالنافع رضاه { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] وشر أنواعه الشرك . ونكتة جمع الأنصار مع كون النكرة المفردة تفيد العموم في سياق النفي ، هي التنبيه على كون النصارى كانوا يتكلون على كثير من الرسل والقديسين إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم ، وإن لم نكن من أصل دينهم . { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } أكد تعالى بالقسم أيضاً كفر الذين قالوا إن الله - الذي هو خالق السماوات والأرض وما بينهما - ثالث أقانيم ثلاثة ، وهي : الآب والابن وروح القدس ، قال ابن جرير : وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكانية والنسطورية . كانوا فيما بلغنا يقولون : الإِله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم : أبا والدا غير مولود ، وابنا مولودا غير والد ، وزوجاً متتبعة بينهما . اهـ فكان هو وكثير من المفسرين والمؤرخين المتقدمين يرون - بحسب معرفتهم بحال نصارى زمنهم وما يروون عمن قبلهم - أن الذين يقولون من النصارى إن إلههم ثالث ثلاثة ، هم غير الفرقة التي تقول منهم : إن الله هو المسيح ابن مريم . وأن ثم فرقة ثالثة تقول : إن المسيح هو ابن الله وليس هو الله ، ولا ثالث ثلاثة . وأما النصارى المتأخرون ، فالذي نعرفه منهم وعنهم إنهم يقولون بالثلاثة الأقانيم ، وبأن كل واحد منها عين الآخر . فالآب عين الابن وعين روح القدس ، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضاً . ومن العجيب إن بعض متأخري المفسرين ينقلون أقوال من قبلهم في أمثال هذه المسائل ويقرّونها ، ولا يبحثون عن حال أهل زمنهم ، ولا يشرحون حقيقة عقيدتهم . وقد سبق لنا بيان عقيدة التثليث ، وكون النصارى أخذوها عن قدماء الوثنيين ، فارجع إلى تفسير { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } [ النساء : 171 ] في أواخر سورة النساء ( 95 ج 6 تفسير ) وبينا قبيلها عقيدة الصلب والفداء ( 55 ج 6 تفسير ) ثم بيّنا عقيدة التثليث في تفسير الآية 19 من هذه السورة ( ج 6 تفسير ) . قال تعالى رداً عليهم { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي قالوا قولهم هذا بلا روّية ولا بصيرة ، والحال إنه ليس في الوجود ثلاثة آلهة ولا اثنان ولا أكثر من ذلك - لا يوجد إله ما إلا إله متصف بالوحدانية ، وهو الله الذي لا تركيب في ذاته ولا تعدد - وهذه العبارة أشد تأكيداً لنفي تعدد الإِله من عبارة : لا إله إلا إله واحد ؛ لأن " من " بعد " ما " تفيد استغراق النفي وشموله لكل نوع من أنواع المتعدد وكل فرد من أفراده ؛ فليس ثم تعداد ذوات وأعيان ، ولا تعدد أجناس أو أنواع ، ولا تعدد جزئيات أو أجزاء . والنصارى قد اقتبسوا عقيدة التثليث عمن قبلهم ولم يفهموها ، وعقلاؤهم يتمنون لو يقدرون على التفصي منها ، ولكنّهم إذا أنكروها بعد هذه الشهرة تبطل ثقة العامة بالنصرانية كلّها . كما قال أحد عقلاء القسوس لبعض أهل العلم العصري من الشبّان السوريين . ومن الغريب إنهم يعترفون بأن هذه العقيدة لا تعقل ، ولكن بعضهم يحاول تأنيس النفوس بها ، بضرب أمثلة لا تصدق عليها ، ككون الشمس مركبة من الجرم المشتعل والنور والحرارة ، قال الشيخ ناصيف اليازجي : @ نحن النصارى آل عيسى المنتمي حسب التأنس للبتولة مريم فهو الإِله ابن الإِله وروحه فثلاثة في واحد لم تقسم للآب لاهوت ابنه وكذا ابنه وكذا هما والروح تحت تقنم كالشمس يظهر جرمها بشعاعها وبحرها والكل شمس فاعلم @@ فهو يقول إن ربهم جوهر له أعراض كسائر الجواهر والأجسام . ولكن العرض ليس عين الذات ، فحرارة الشمس ليست شمساً ، ولا هي عين الجرم ولا عين الضوء . فإذاً لا يصح أن يكون الابن وروح القدس عين الآب ! ! وقد أورد صاحب إظهار الحق الحكاية الآتية ، في بيان تخبّطهم في هذه المسألة ، قال : " نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص ، وعلّمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيّما عقيدة التثليث . وكانوا في خدمته ، فجاء محبّ من أحباء هذا القسيس وسأله عمن تنصر فقال : ثلاثة أشخاص تنصروا ، فسأله هذا المحبّ : هل تعلّموا شيئاً من العقائد الضرورية ؟ فقال : نعم . وطلب واحداً منهم ليري محبّه ، فسأله عن عقيدة التثليث فقال : إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة ، أحدهم الذي هو في السماء ، والثاني الذي تولّد من بطن مريم العذراء ، والثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإِله الثاني بعدما صار ابن ثلاثين سنة . فغضب القسيس وطرده وقال هذا مجهول . ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال : إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان ، فغضب عليه القسيس أيضاً وطرده . ثم طلب الثالث وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين وحريصاً في حفظ العقائد فسأله ، فقال : يا مولاي حفظت ما علمتني حفظاً جيداً ، وفهمت فهماً كاملاً ، بفضل السيد المسيح : إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ، فمات الكل لأجل الإتحاد ، ولا إله الآن ، وإلا يلزم نفي الاتحاد . أقول : لا تقصير للمسؤولين ، فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ويتحير علماؤهم ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم ، ويعجزون عن تصويرها وبيانها . اهـ . { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وإن لم ينتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه ، ويعتصموا بعروة التوحيد الوثقى ويعتقدوه ، فوالله ليصيبنهم بكفرهم عذاب شديد الألم في الآخرة . فوضع { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } موضع الضمير ليثبت أن ذلك القول كفر بالله ، وإن الكفر سبب العذاب الذي توعّدهم به ، ويبيّن إن هذا العذاب لا يمسّ إلاّ الذين كفروا منهم خاصة بالتثليث أو غيره . دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ، إذ ليس عذاب الآخرة كعذاب الأمم في الدنيا يشترك فيه المذنبون وغيرهم . وقيل : إن " من " بيانية . { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؟ الاستفهام هنا للتعجيب من شأن هؤلاء الناس في تثليثهم وإصرارهم عليه ، بعدما جاءتهم البيّنات المبطلة له ، والنذر بالعذاب المرتّب عليه . والهمزة داخلة على فعل محذوف عطف عليه فعل التوبة المنفي . والتقدير : أيسمعون ما ذكر من التفنيد والوعيد ، فلا يحملهم على التوبة والرجوع إلى التوحيد ، واستغفار الله تعالى مما فرط منهم ، والحال إن الله تعالى عظيم المغفرة واسع الرحمة ، يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما سلف ، إذا هم آمنوا وأحسنوا فيما بقي ؟ إن هذا لشيء عجاب . أو : أيصرون على ما ذكر بعد إقامة الحجة ، ودحض الشبهة ، فلا يتوبون ؟ إلخ . { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } قد يقول قائلهم إذا سمع ما تقدم : إذا كان التثليث أمراً باطلا لا حقية له ، وكان الإِله الحق واحدا لا تعدد فيه ولا تركيب من أصول ولا أقانيم ، ولا يشبه الأجسام بذات ولا صفة ، فما بال المسيح ، وما شأنه ؟ هل يعدّ فردا من أفراد المخلوقات ، لا يمتاز عليها بالذات ولا بالصفات ؟ وهل تعدّ أمه كسائر النساء ؟ أجاب الله تعالى عن هذه الأسئلة التي يوردها من أكبروا المسيح أن يكون بشرا ، فبدأ بذكر خصوصيته التي امتاز بها على أكثر الناس ، ثم ثنى ببيان حقيقته التي يشارك بها كل فرد من أفرادهم . أما الخصوصية ، فهو إنه ليس إلاّ رسولا من رسل الله تعالى الذين بعثهم لهداية عباده ، قد خلت ومضت من قبله الرسل الذين اختصهم الله تعالى مثله بالرسالة وأيّدهم بالآيات ، فبهذه الخصوصية امتاز هو وإخوته الرسل على جماهير الناس . وأما أمّه ، فهي صدّيقة من فضليات النساء ، فمرتبتها في الفضل والكمال تلي مرتبة الأنبياء وأما حقيقتهما الشخصية والنوعية ، فهي مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما . بدليل أنهما كانا يأكلان الطعام ، وكل من يأكل الطعام فهو مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمدّ حياته ، لئلا ينحل بدنه وتضعف قواه فيهلك - دع ما يستلزمه أكل الطعام ، من الحاجة إلى دفع الفضلات - وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن مساو لسائر الممكنات المخلوقة في حاجتها إلى غيرها ، فلا يمكن أن يكون ربّا خالقاً ، ولا ينبغي أن يكون ربّاً معبودا . وإن من سفه الإنسان لنفسه ، واحتقاره لجنسه ، أن يرفع بعض المخلوقات المساوية له في ماهيته ومشخّصاته بمزية عرضية لها ، فيجعل نفسه لها عبدا ، ويسمّي ما يفتتن بخصوصيته منها إلها أو ربّا . { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي أنظر أيها الرسول أو أيها السامع نظر عقل وفكر . كيف نبيّن لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين على بطلان دعواهم في المسيح ، ثم أنظر بعد ذلك كيف يصرفون عن استبانة الحق بها ، والانتقال من مقدّماتها إلى نتائجها ؟ كأن عقولهم قد فقدت بالتقليد وظيفتها ؟