Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 123-126)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد ما كان من إيمان السحرة كان أوّل ما يخطر في البال ، ويتوجّه إليه السؤال ، ما فعل فرعون وما قال ؟ وهاك البيان : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } قرأ حفص آمنتم بصيغة الخبر ويحتمل فيه تقدير همزة الإستفهام فهو قياسي يعتمد في فهمه على صفة الأداء وجرس الصوت فيه . وبذلك يوافق سائر القراء في المعنى فهو عندهم إستفهام إنكاري توبيخي أثبت همزته حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب ، وروي في إثباتها تحقيق الهمزتين بالنطق بهما وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين ، وقرئ بذلك في أمثالها . والمعنى أآمنتم . بموسى أو برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم وآمركم بذلك ؟ وفي سورة طه { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] والضمير فيه لموسى قطعاً لأن تعدية الإيمان باللام تضمين يفيد معنى الإتباع والخضوع المعنى : وأآمنتم به متبعين له إذعاناً لرسالته قبل أن آذن لكم ؟ ولذلك يتعين إستعمال هذا التضمين في الإيمان بالرسل والإتباع لهم كقوله تعالى حكاية عن فرعون : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] وقد اقتبس المعري هذا الإستدلال في قوله : @ أعبّاد المسيح يخاف صحبي ونحن عبيد من خلق المسيحا @@ ومثله قوله تعالى في سورة الشعراء حكاية عن قوم نوح عليه السلام { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] وقوله حكاية عن كفار قريش : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] وليس منه قوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] بل هذه لام التقوية أي وما أنت بمصدّق لنا . وقد بيّن فرعون علّة إيمانهم بما ظنّه أو أراد أن يعتقده قومه فيهم فقال مواصلاً تهديده . { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أي أن هذا الصنيع الذي صنعتموه أنتم وموسى وهارون بالتواطؤ والإتفاق ليس إلاّ مكراً مكرتموه في المدينة بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه مع إسرار اتباعه بعد إدعاء ظهور حجّته ، زاد في سورة طه { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } [ طه : 71 ] فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة لأجل أن تخرجوا منها أهلها المصريين بسحركم - وهو ما كان إتهم به موسى وحده - ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والكبرياء كما حكاه تعالى عن فرعون وملئه في سورة يونس - { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما يحل بكم من العذاب ، جزاء على هذا المكر والخداع ، وبين ذلك بقوله : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أي أقسم لأفعلن كذا وكذا في عقابكم والتنكيل بكم وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف كأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس ، ثمّ لأصلبن كلّ واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوهة لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا ، أو بالخروج عن سلطاننا ، والترفع عن الخضوع لعظمتنا . وقد تقدّم الكلام على هذه الألفاظ في العقاب الذي هدد به البغاة من سورة المائدة . ومن المعقول ما قاله بعض المفسّرين من كون إتهام فرعون للسحرة بالمكر والكيد له وللمصريين ، وبتواطئهم مع موسى للأدالة منهم لبنيّ إسرائيل - إنّما كان تمويهاً على قومه المصريين لئلاّ يتبعوا السحرة في الإيمان ، ويقع ما خافه وقدره واتهم به موسى عليه السلام ، فهو على عتوه على الخلق ، وعلوه في الأرض ، قد خاف عاقبة إيمان الشعب ، وافتقر على إدعائه الربوبية إلى إيهامهم بأنّه لا ينتقم من السحرة إلاّ حبّاً فيهم ، ودفاعاً عنهم ، واستبقاء لاستقلالهم في وطنهم ، ومحافظتهم على دينهم وكذلك يفعل كلّ ملك وكلّ رئيس مستبد في شعب يخاف أن ينتقض عليه باجتماع كلمته على زعيم آخر بدعوة دينية أو سياسية ، وما من شعب عرف نفسه وحقوقه وتعارف بعض أفراده وتعاونوا على صون هذه الحقوق ، إلاّ وتعذر استبداد الأفراد فيهم وإن كانوا ملوكاً جبارين . مباحث لغوية بيانية فيما أختلف فيه التعبير من قصّة موسى في السور المتعدّدة ومن مباحث المقابلة والتنظير بين سياق هذه السورة في القصة وسياق غيرها أنّه زاد في سورة الشعراء اللام في حرف التسويف فقال : { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الشعراء : 49 ] ولم يذكر هذا التسويف في سورة طه . قال الإسكافي في هذه اللام إنّها تدل على تقريب ما خوفهم به حتى كأنّه حاضر موجود ، ( قال ) : " واللام للحال والجمع بينها وبين سوف التي للإستقبال إنما هو تحقيق الفعل وإدناؤه من الوقوع كما قال تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ النحل : 124 ] فجمع بين اللام وبين يوم القيامة على ما قاله تعالى : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] وقد بينا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصاً لأحوال موسى عليه السلام في بعثه وابتداء أمره وإنّهاء حاله مع عدوه فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرب له المحقق وقوعه - إلى اللفظ المفصح بمعناه ، ثمّ وقع الإقتصار في السورة التي لم يقصد بها من اقتصاص الحال ما ذكر في سورة الشعراء على نقص ما في موضع البسط والشرح وهو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به . ( قال ) " فأما في سورة طه فإنّه اقتصر فيها على التصريح بما أوعدهم به وترك " فسوف تعلمون " وقال { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ … } [ طه : 71 ] إلاّ أنّه جاء بدل هذه الكلمة ما يعادلها ، ويقارب ما جاء في سورة الشعراء التي هي مثلها في اقتصاص أحواله من إبتدائها إلى حين إنتهائها ، وهو قوله بعده { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } [ طه : 71 ] فاللام والنون في " لتعلمن " لإدناء الفعل وتوكيده كما أتى باللام في قوله { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الشعراء : 49 ] لإدناء الفعل وتقريبه ، فقد تجاوز ما في السورتين المقصود فيهما إلى اقتصاص الحالين من إعلاء الحق وإزهاق الباطل " اهـ . أقول من المعلوم أن هذه اللام لام الإبتداء ، وأن فائدتها الأولى المتّفق عليها توكيد مضمون الجملة وقد سكت الإسكافي عن التعليل بها على ظهورها وعدم خفاء شيء من شواهدها واقتصر على توجيه ما ذكروا لهذه اللام من معنى الحال إذ قالوا إن الفائدة الثانية لها تخليص معنى المضارع للحال ، نقله ابن هشام في المعني وقال إن ابن مالك اعترضه بقوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ النحل : 124 ] وبقول يعقوب عليه السلام فيما حكاه الله عنه : { إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 13 ] فإن الذهاب كان مستقبلاً فلو كان الحزن حالاً لزم تقدّم الفعل في الوجود على فاعله مع أنّه أثره ( قال ) والجواب عن الأوّل إن الحكم في ذلك اليوم واقع لا محالة فنزل منزلة الحاضر المشاهد - وأن التقدير في الثاني قصد أن تذهبوا به والقصد حال اهـ . وأنت ترى أن تعبير الإسكافي في هذه الفائدة أوسع من التعبير الذي ذكره ابن هشام وغيره وأبعد عن الإشكال فقد قال هو إن معنى الحال فيها عبارة من تحقيق الفعل وإدنائه من الوقوع . وهو يصدّق بجعل المضارع للحال حقيقة أو بجعل معنى الإستقبال فيه قريباً جداً حتى كأنّه حال ، ولا يرد على هذا ما يرد على قولهم : تخليص معنى المضارع للحال . وجوابهم عن الآيتين لا يظهر في تعبيرهم كما يظهر في تعبيره هو بغير تكلّف ما . ثمّ أنّه لابدّ في صدّق التعبير بقوله : { فَلَسَوْفَ } [ الشعراء : 49 ] من كون فرعون ذكر في وعيدهم المستقبل أنّه قريب وأنّه قطعي لا مردّ له ، سواء قاله على سبيل الإيضاح أو على سبيل الإستدراك . وربّ جملة أو جمل طويلة تؤدي في القرآن بجملة قصيرة أو كلمة أو حرف في كلمة كاللام هنا ، وهذا من دقائق إيجاز القرآن وهو ضرب من ضروب إعجازه اللفظية في غير الأسلوب والنظم ، وكلّها دون إعجازه في بيان حقائق الشرع والعلم ، فكيف يمكن لبشر أن يؤدي هذه الدقائق بالترجمة ؟ ومثله في هذا ما سبق وما يأتي من تتمة هذه المباحث . ( ومنها ) - أي مباحث المقابلة والتنظير بين السور - أنّه قال هنا { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ } وقال في طه والشعراء { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ } [ طه : 71 ، الشعراء : 49 ] ولا تعارض بين العاطفين فإن العطف بالواو مطلق يصدّق بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء وبالترخي الذي تدل عليه ثمّ وليس مقيداً بأحدهما ، وغايته أنّه أفاد بثم معنى خاصاً وهو ما تدل عليه من التراخي في الزمن أو الرتبة وكلاهما جائز هنا فإنّه بعد أن أفاد بقوله : { فَلَسَوْفَ } [ الشعراء : 49 ] وقوله : { فَلأُقَطِّعَنَّ } [ طه : 71 ] إن الوعيد سينفذ حالاً في المجلس بقطع الأيدي والأرجل من خلاف - أفاد بقوله : { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ } [ الأعراف : 124 ] إن التصليب نوح آخر ومرتبة ثانية من التنكيل بهم ، أو سيتأخر عن التقطيع في الزمن بأن يظلوا بعده مطروحين على الأرض إهانة لهم ثمّ يعلقون على جذوع النخل ، ويجوز الجمع بينهما . وكون التصليب في جذوع النخل فائدة أخرى زادها في سورة طه وتخصيصها بها مناسب لنظمها ولعلك تدرك ذلك بالذوق كما تدرك به التفرقة بين بحور الشعر . أوردنا هذا البحث الفني وأمثاله من هذه القصة على اجتنابنا للإصطلاحات الفنية والعلمية في الغالب لثلاثة أسباب . 1 - إن هذه المسائل ممّا يقع فيه الإشتباه ولم نر لها بياناً في التفاسير المتداولة حتى التي تمتاز بالعناية بمثلها . 2 - بيان ما فيها من الدقة في تحديد المعاني ، وغرائب الإيجاز ، والإتفاق في مظنة الإختلاف ، وهو المعهود في كلّ موضوع طويل يعبر عنه بعبارات مختلفة : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] إذا ليس في استطاعة بشر أن يحكي قصّة كقصة موسى بعبارات مختلفة بمثل هذا التحديد للمعاني مع سلامتها كلها من التعارض والتناقض وغيرهما من أنواع الإختلاف وإن كتب ذلك كتابة وقابل بعضه ببعض منقحاً له ومصححاً ، فكيف إذا كان يرتجل الكلام إرتجالاً في أوقات مختلفة كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كالمرتجل له ، وإنّما كان يلقاه فيؤديه كما تلقاه فيعجل به خائفاً أن ينسى منه شيئاً حتى لقن فيه نبأ عصمته من نسيان شيء منه ، وأنّه تعالى كفل حفظه { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 16 - 17 ] { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] وتلك ضروب من إعجازه اللفظي ، ولضروب إعجازه المعنوي أكبر . 3 - إثبات عجز البشر عن ترجمة القرآن بلغة أخرى تؤدي معانيه كلّها ، وإذا كان من المتعذر أداؤها بمثلها من لغتها فترجمتها بلغة أخرى أولى . وقد تصدى بعض المغرورين في هذه الأيام لترجمته باللغة التركية الفقيرة الملفقة من عدة لغات لأجل أن يستعين بهذه الترجمة الملاحدة من زعماء الترك على ما يبتغون من سل الشعب التركي من الإسلام بأن يحمله على الإستغناء بهذه الترجمة عن كتاب الله المنزل من عند الله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] كما ثبت في عدة آيات . فإن انخدع هذا الشعب المسلم بهذا سهل على هؤلاء الملاحدة أن يحولوا بينه وبين السنة النبوية العربيّة أيضاً لأنها في المرتبة الثانية ، ثمّ أن يحولوا بينه وبين آثار الصحابة والتابعين فإنها في المرتبة الثالثة - ثمّ أن يحولوا بينه وبين ما كتبه أئمة العلماء في التفسير وشرح الحديث وما استنبط منهما في أمور الدين من العقائد والآداب وأحكام العبادات والمعاملات ، وبعد هذا يتحكمون في تفسير هذه الترجمة له بما شاؤا ، ويوردون الشبهات على الإسلام المشوّه المأخوذ من ترجمتهم القابلة لذلك - وحينئذ يتم لهم ما يريدون من جعل الترك أمّة لا دينية . ولكن لن يتم لهم ذلك إن شاء الله تعالى ، فالشعب التركي راسخ في الإسلام ، ومتى عرف كيد هؤلاء الملاحدة المضلين فإنّه ينبذهم نبذ النواة . تتمّة تفسير الآيات وهاهنا يرد سؤال : ماذا كان من أمر السحرة عندما سمعوا هذا التهديد والوعيد ؟ وبم أجابوا ذلك الجبار العتيد ؟ وجوابه هنا : { قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } يجوز أن يكونوا قد عنوا بقولهم هذا أنفسهم وحدها وأرادوا أنهم لا يبالون ما يكون من قضائه فيهم وقتله لهم لأنهم راجعون إلى ربّهم ، راجون مغفرته ورحمته بهم ، وحينئذ يكون تعجيل قتلهم سبباً لقرب لقائه ، والتمتع بحسن جزائه . ويجوز أن يكونوا قد عنوا أنفسهم وفرعون جميعاً وأرادوا أننا وإياك سننقلب إلى ربّنا ، فلئن قتلتنا فما أنت بخالد بعدنا ، وسيحكم عزَّ وجلّ بعدله بينك وبيننا ، وفيه تعريض بكذبه في دعوى الربوبية ، وتصريح بإيثار ما عند الله تعالى على ما عنده من الشهوات الدنيوية ، وفي سورة الشعراء { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 50 - 51 ] وهو يؤيد المعنى الأوّل ولا ينافي الثاني لأنّه يشمل الأوّل . { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } قال الراغب : نقمت الشيء ونقمته ( أي من بابي فرح وضرب ) إذا أنكرته أما باللسان وأما بالعقوبة قال تعالى : { وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ } [ التوبة : 74 ] { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } [ البروج : 8 ] { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ } [ المائدة : 59 ] الآية والنقمة العقوبة قال : { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ } [ الأعراف : 136 ] إلخ وتفسيره هذا لنقم أدقّ وأشمل من قول الزمخشري في الأساس : ونقمت كذا - أنكرته وعبته . فإنه لم يذكر إلاّ القولي منه وقد استشهد له بقوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } [ البروج : 8 ] وهو في أصحاب الأخدود وكان النقم منهم بالفعل لا بالقول ، فسبحان من لا ينسى ولا يغفل . وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول وهو الإستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه . والظاهر أنّه نفذ الوعيد بالإنتقام بالفعل واستنبط بعض المفسّرين من قوله تعالى لموسى وهارون : { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ } [ القصص : 35 ] أن فرعون لم يقدر على تنفيذ الوعيد فيهم . وأجيب عن هذا بأن المراد الغلبة بالحجة والبرهان وفي عاقبة الأمر ونهايته وإلاّ لم يقتل أحد من اتباع الرسل عليهم السلام ، وهو صريح قوله تعالى في أوّل هذه القصة الذي ذكرنا أنّه بيان لنتيجتها ووجه العبرة فيها { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 103 ] يعني فرعون وملأه ، ويؤيده ما ورد في معناه من الآيات الكثيرة كقوله تعالى حكاية عن شعيب في قصّته التي مرت في هذه السورة أيضاً { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 103 ] وقوله قبله في قصّة لوط منها : { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [ الأعراف : 84 ] وقوله تعالى في مكذبي الرسل عامة بعد ذكر تكذيب قوم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم : { كَذَلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } [ يونس : 39 ] ويجوز أن إيراد بمن اتبع موسى وهارون قومهما خاصة وهم الذين بشرهم موسى بأن العاقبة لهم بعد وعيد فرعون لهم عقب خبر السحرة وهو ما تراه في الآية الثانية بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها . وهذه العاقبة قد بينها الله تعالى بقوله في سورة القصص { فَأَخَذْنَاهُ } [ القصص : 40 ] - يعني فرعون - { وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } [ القصص : 40 ] . وقد ختم تعالى ما قصّة هنا من كلام السحرة بهذا الدعاء فنذكره تالين داعين : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي ربّنا هب لنا صبراً واسعاً تفيضه وتفرغه علينا إفراغاً بتثبيتك إيانا على الإيمان وتأييدنا بروحك كما يفرغ الماء من القرب ، حتى لا يبقى في قلوبنا شيئاً من خوف غيرك ، ولا من الرجاء فيما سوى فضلك ونوالك . وتوفنا إليك حال كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك ، غير مفتونين بتهديد فرعون ، وغير مطيعين له في قول ولا فعل . جمعوا بدعائهم هذا بين كمال الإيمان والإسلام . يدل على ما قررناه من المبالغة في طلب كمال الصبر - تنكيره والتعبير عن إيتائه بالإفراغ وهو صب الماء الكثير من الدلو ونحوه وأمّا تصويرنا لحصول ذلك بقوّة الإيمان فمأخذه من العقل والتجارب أن الصبر من صفات النفس وهو عبارة عن قوّة فيها على إحتمال الآلام والمكاره بغير تبرم ولا حرج يحملها على ما لا ينبغي من ترك الحقّ أو اجتراح الباطل ، ولا شيء كالإيمان بالله والخوف منه والرجاء فيه يقوي هذه الصفة في النفس ، ومأخذه من النقل آيات كقوله تعالى في بيان المؤمنين الذين عملوا الصالحات فوجبت لهم الجنة : { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ العنكبوت : 59 ، النحل : 42 ] وقوله فيهم : { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 3 ] وممّا يناسب المقام قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] . ولدينا من نقول التاريخ القديم والحديث ما يؤيد ذلك وقد صرّح الذين كتبوا أخبار الحروب الأخيرة بعللها وفلسفتها أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الملل أعظم شجاعة وأشدّ صبراً على مشاق الحرب من غيرهم ، ولذلك يحرص أوسع الناس علماً بسنن الخلق ، وأشدهم عناية بفنون الحرب ، - كالشعب الألماني - بالمحافظة على الدين في جيشهم . وللبرنس بسمارك مؤسس وحدتهم ووزيرهم الأعظم بل أكبر ساسة أوربة في عصره كلمة في هذا المعنى أثبتناها في المجلد الأوّل من المنار من ترجمة الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن كتاب ( وقائع بسمارك ومذكراته ) التي نشرها كاتم سره مسيو بوش بعد موته نكتفي منه هنا بقوله . " جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء المائدة فقال لأصحابه : كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئاً فشيئاً كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب . ولو لم يكن هنالك أمل في الجزاء والمكافأة ، أي في الدنيا ) ذلك لما استكنّ في الضمائر من بقايا الإيمان - ذلك لما يشعر به كلّ أحد من أن واحداً مهيمناً يراه وهو يجالد ويموت وإن لم يكن قائده يراه . فقال بعض المرتابين أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس : ليس هذا من قبيل الملاحظات ، وإنّما هو شعور ووجدان ، هو بوادر تسبق الفكر ، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنّه غريزة لها ، ولو لاحظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان ، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات ، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه - إن يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي ، واعتقاد بإله يحب الخير ، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟ " . ثمّ أطال في ذلك بأسلوب آخر صرح فيه بأنّه لولا عقيدته الدينية لما خدم سلطانه وعاهله ( الإمبراطور ) ساعة من الزمان إلخ ما قاله فيراجع في محله .