Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 127-129)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

خاف ملأ فرعون عاقبة تركه لموسى حرّاً مطلقاً في مصر فكلموه في ذلك وقد أخبرنا الله تعالى بما قالوه له وما أجابهم به وما كان من تأثير جوابه في موسى وقومه من نصحه لهم وما دار بين موسى وبينهم في ذلك فقال : { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } أي قالوا له أتترك موسى وقومه أحراراً آمنين لتكون عاقبتهم أن يفسدوا قومك عليك في أرض مصر بإدخالهم في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم ورياستهم ، ويتركك مع آلهتك كالشيء اللقا ، فيظهر للمصريين عجزك وعجزها ، وقد رأيت ما كان من أمر إيمان السحرة - إذ الظاهر من السياق أن هذا القول كان بعد قصّة السحرة - وسيأتي ما فيه . وجمهور المفسّرين على المراد بتركه وآلهته عدم عبادته وعبادتها ، وقرأ ابن عباس ( والإهتك ) أي عبادتك . ومن المعلوم من التاريخ المستمد من العاديات المستخرجة من أرض مصر أنّه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس واسمها في لغتهم ( رع ) وهو متضمن في لقب فرعون فهو عندهم سليل الشمس وابنها ، وسننقل بعد جوابه لهم أثراً يدل على ذلك ويذكر فيه بعض هذه الآلهة . { قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ } أي قال مجيباً للملأ سنقتل أبناء قومه تقتيلاً ما تناسلوا - فتعبيره بالتقتيل يدل على التكثير والتدريج - ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ولادته حتى ينقرضوا . { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم كما كنا من قبل فلا يستطيعون إفساداً في أرضنا ، ولا خروجاً من حظيرة تعبيدنا . وفي سورة المؤمن : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] وهو يدل على أنّه كان لديه من يدافع عن موسى ممن آمن به سراً وممن كان يحبه وإن لم يؤمن به فقد قال تعالى له : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] وفيه تصريح بما كان له في أنفس المصريين من المحبة والإحترام . وقد حكى الله تعالى لنا دفاع واحد ممن آمن به فقال : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [ غافر : 28 ] . والمرجح عند المتأخرين من المؤرخين الواقفين على العاديات المصريّة أن فرعون موسى هو الملك ( منفتاح ) وكان يلقب بسليل الآله ( رع ) وقد جاء في آخر الأثر المصري الوحيد الذي ذكر فيه بنو إسرائيل ( وهو المعروف برقم 25 ، 34 المحفوظ في متحف مصر ) أن مصر هي السليلة الوحيدة للمعبود ( رع ) منذ وجود الآلهة وإن " منفتاح " سليلة أيضاً وهو الجالس على سدة المعبود " شو " وإن الآله " رع " التفت إلى مصر فولد " منفتاح " ملك مصر وشيء له أن يكون مناضلاً عنها فتخنع له الولاة ولا يرفع أحد من البدو رأسه فخضع له القبروانيون والحيثيون والكنعانيون وعسقلان وجزال وينعمام . وفيه . وانفك الإسرائيليون فلا بزر لهم وأصبحت فلسطين خلية لمصر . والأراضي كلّها مضمومة في حفظه ، وكلّ اسم وعفه " أضعفه وأذله " الصيدن القبّ ( منفتاح ) سليل الشمس معطي المعيشة كلّ نهار مثل الشمس اهـ وما ذكر لا ينافي إدعاءه الإنفراد بالألوهية والربوبية العليا بعد . وقوله : فلا بزر لهم هو بمعنى قولنا انقطع دابرهم يستعمل في الحقيقة وفي المجاز من باب المبالغة أو بالنظر إلى المآل . ومن البديهي أن يخاف بنو إسرائيل هذا الوعيد وأن يطمئنهم موسى عليه السلام وهو ما بينه تعالى بقوله : { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي اطلبوا معونة الله تعالى وتأييده لكم على ما سمعتم من الوعيد واصبروا ولا تجزعوا ، فإن سألتم لماذا وإلى متى ؟ أقل لكم إن الأرض - جنسها أو الأرض التي وعدكم ربّكم إياها وهي فلسطين - لله تعالى الذي بيده ملكوت كلّ شيء يورثها من يشاء من عباده لا لفرعون فهي بحسب سنته تعالى دول والعاقبة الحسنة التي ينتهي إليها التنازع بين الأمم للمتقين أي الذين يتقون الله بمراعاة سننه في أسباب إرث الأرض كالإتحاد وجمع الكلمة ، والإعتصام بالحق ، وإقامة العدل ، والصبر على المكاره ، والإستعانة بالله ولا سيّما عند الشدائد ؛ ونحو ذلك ما هدى إليه وحيه وأيدته التجارب . ومراده عليه السلام أنّ العاقبة ستكون لكم بإرث الأرض لكن بشرط أن تكونوا من المتّقين له تعالى بإقامة شرعه ، والسير على سننه في نظام خلقه ، وليس الأمر كما تتوهمون ويتوهم فرعون وقومه من بقاء القويّ على قوّته والضعيف على ضعفه ، أو أن الآلهة الباطلة ضمنت لفرعون بقاء ملكه ، على عظمته وجبروته وظلمه . ماذا كان من تأثير وصية موسى عليه السلام لقومه ؟ وهل فهموها وقدروها قدرها ؟ وبم أجابوه ؟ { قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } يعنون أنهم لم يستفيدوا من إرساله لإنقاذهم من ظلم فرعون شيئاً فهو يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبله أو أشد - وهذا الإيذاء مبين في الفصل الخامس من سفر الخروج من التوراة ففيه أن موسى وهارون لما طلبا من فرعون إطلاق بني إسرائيل لكي يعبدوا ربهم ويعيدوا له في البرية ويذبحوا له ، قال لهما لماذا تعطلان الشعب عن أعماله - وأمر فرعون في ذلك اليوم مسخري الشعب ومدبريه أن يمتنعوا من إعطائه التبن الذي كانوا يعطونه إياه ليعمل به اللبن ( الطوب النيّ ) الذي كان مفروضاً عليهم كلّ يوم وأن يكلّفوه جمع التبن من البلاد ولا ينقصوا من عدد اللبن المفروض عليهم شيئاً ، فتفرّق الشعب في جميع أرض مصر ليجمعوا جُذامة عوض التبن فعجزوا عن تمام المقدار المفروض عليهم من اللبن والمسخرون يلحّون عليهم : أكملوا فريضة كلّ يوم كما كانت عندما كنتم تعطون التبن ، فجاء مدبرو بني إسرائيل الذين ولاهم عليهم المسخرون لهم من قبل فرعون واستغاثوا فرعون نفسه قائلين ( 15 ) لماذا تصنع بعبيدك هكذا ؟ ( 16 ) أنّه لا يعطى لعبيدك تبن وهم يقولون لنا اعملوا لبنا ، وها أن عبيدك يُضربون وشعبك يعاملون كمذنبين ( 17 ) قال إنّما أنتم مترفهون ولذلك تقولون نمضي ونذبح للرّب ( 18 ) والآن فامضوا اعملوا ، وتبن لا يعطى لكم ، ومقدار اللبن تقدمونه ( 19 ) فرأى مدبرو بني إسرائيل نفوسهم في شقاء إذ قيل لا تنقصوا من لبنكم شيئاً بل فريضة كلّ يوم في يومها ( 20 ) وصادفوا موسى وهارون وهما واقفان للقائهم عند خروجهم من عند فرعون ( 21 ) فقالوا لهما ينظر الرب ويحكم عليكما كما أفسدتما أمرنا عند فرعون وعند عبيده وجعلتما في أيديهم سيفاً ليقتلونا " انتهى المراد منه . { قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي قال موسى عليه السلام أن المرجوّ من فضل ربّكم أن يهلك عدوّكم الذي سخركم وآذاكم بظلمه ويجعلكم خلفاء في الأرض التي وعدكم إياها ، ويمنعكم فرعون من الخروج إليها ، فينظر سبحانه كيف تعملون بعد استخلافه إياكم فيها : هل تشكرون النعمة أم تكفرون ؟ وهل تصلحون في الأرض أم تفسدون ؟ ليجازيكم في الدنيا والآخرة بما تعملون . وقد عبر بعسى ولم يقطع بالوعد لئلاّ يتكلوا ويتركوا ما يجب من العمل أو لئلاّ يكذبوه لضعف أنفسهم بما طال عليهم من الذل والإستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لملكه وقوته وفي التوراة ما يؤيد هذا وما قبله . جاء في آخر الفصل الخامس من سفر الخروج بعد ما نقلناه آنفاً ما نصه : ( 22 ) فرجع موسى إلى الرب ، وقال يا رب لماذا ابتليت هؤلاء الشعب لماذا بعثتني ( 23 ) فأني منذ دخلت على فرعون لأتكلّم بإسمك أساء إلى هؤلاء الشعب وأنت لم تنقذ شعبك " . وفي أوّل الفصل السادس منه ( 1 ) فقال الرب لموسى : الآن ترى ما أصنع بفرعون أنّه بيد قديرة سيطلقهم وبيد قديرة سيطردهم من أرضه " - وأعلمه بأنّه أعطى إبراهيم وإسحاق عهداً بأن يعطيهم أرض كنعان وأنّه سمع أنين إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكر عهده - ثم قال ( 6 ) لذلك قل لبنيّ إسرائيل أنا الرب لأخرجنكم من تحت أثقال المصريين وأخلصكم من عبوديتهم وأفديكم بذراع مبسوطة وأحكام عظيمة ( 7 ) واتخذكم لي شعباً وأكون لكم آلهاً وتعلمون إنني إنّا الرب آلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين ( 8 ) وسأدخلكم الأرض التي رفعت يدي مقسماً أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثاً أنا الرب ( 9 ) فكلّم موسى بذلك بني إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة " اهـ المراد منه ، وهو من ترجمة اليسوعيين كالذي قبله . ويليه عودة موسى إلى فرعون ومطالبته بإخراج بني إسرائيل وامتناعه وإظهار الرب الآيات له واحدة بعد أخرى كما يأتي مجملاً في الآيات التالية . فإن قيل : ظاهر ترتيب الآيات هنا يفيد إن هذه المراجعة بين فرعون وملئه من جهة وبين موسى وبني إسرائيل من جهة أخرى وقعت بعد قصّة السحرة ، وسياق التوراة صريح في وقوعها قبلها وبعد تبليغ أصل الدعوة - فهل يجب أن نقول إن ظاهر السياق هنا غير مراد وهو معطوف بالواو التي لا تدل على الترتيب - أعني قوله : { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ } إلخ ليوافق التوراة وتتم به الحجة على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه وهو أنّه كان أمياً لا إطلاع له على التوراة ولا غيرها من كتب أهل الكتاب ولا غيرهم وأنّه لم يعلمه إلاّ بوحي الله إليه ؟ كما قال له تعالى عقب قصّة نوح { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] وما في معناه من قصّة موسى في سورة القصص ؟ قلنا : أنّه لا مانع من هذا الجمع ولا تتوقف الحجة عليه ، فإن القرآن مشتمل على حجج كثيرة من هذا النوع ومن غيره تدلّ على كونه وحياً من الله تعالى لا يقدر على مثله محمد الأمي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من القارئين الكاتبين أيضاً وهو على كونه كما قال مصدّقاً لكون تلك الكتب من عند الله تعالى أي في الأصل قد قال أيضاً إن أهل التوراة أوتوا نصيباً منها ونسوا حظاً ونصيباً آخر وأنهم حرفوا بعض ما عندهم منها ، وإنه هو أي القرآن مهيمن عليها ، فما أقرّه منها فهو الذي لا شك فيه ، وما صححه بإيراده مخالفاً لما عندهم فهو الصحيح سواء كان بإيراد إياه مخالفاً لما فيها من بعض الوجوه : ككون موسى هو الذي ألقى العصا فإذا هي حية وإذا هي تلقف ما يأفكون لا هارون كما في التوراة ، أو دلت قواعده أو نصوصه على امتناعه كما جاء في أوّل الفصل الثامن من سفر الخروج من أن الرب جعل موسى إلهاً لفرعون ويكون أخوه هارون نبيه ! ! فأصول القرآن وكذا التوراة - تمنع أن يكون إله غير الله عزّ وجلّ . وقد ثبت في تواريخ أهل الكتاب وغيرهم أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت وأن عزرا الكاتب هو الذي كتب الأسفار المقدّسة بعد السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد وهو الذي استبدل الحروف الكلدانية بالعبرانية ، على أن ما كتبه عزرا قد فقد أيضاً ولكن جميع نسخ التوراة الموجودة في العالم مستمدة ممّا كتبه وفيها تحريف كثير لا يمكن أن يكون من الأصل ويسمونه مشكلات يتكلّفون الأجوبة عنها وقد بينا نموذجاً منها من قبل ومنها أن الفصل الأخير من سفر التثنية وهو الأخير من التوراة قد ذكر فيه وفاة موسى عليه السلام وأنّه لم يقم بعده نبي مثله والمرجح عندهم أن يشوع هو الذي كتبه على أن فيه ذكر يشوع . … وممّا يوضح معجزة القرآن فيما أخبر به عن التوراة ويؤكّدها خطأ المفسّرين الكثيرين من المتقدّمين والمتأخرين في تفسير بعضه وتعيين المراد منه لعدم إطلاعهم على ما عند أهل الكتاب منها ومن سائر كتبهم المقدّسة وغيرها من التواريخ والعاديات المستخرجة من آثار قدماء المصريين والبابليين وإنّما كان جل ما يعرفون عن بني إسرائيل ما سمعوه ممن أسلم منهم وما كل من أسلم منهم بحفيظ عليهم ، ولا بصادق أمين . ثمّ ما أخذوه عن كتب تاريخية غير موثوق بها ، فكان أكثر ما كتبوه في التفسير منها مشوّهاً له وحجّة لأهل الكتاب علينا - فإذا كان هذا حال علمائنا في أخبار أهل الكتاب بعد انتشار العلوم في الإسلام فكيف حال أهل مكّة عند ظهوره ولم يكن فيها كتاب يقرأ ولا أحد يقرأ ويكتب قيل إلاّ ستة نفر من التجار كانوا ممّن يُقال فيهم اليوم " يفكون الخط " فإني لمن كان أبعدهم عن ذلك وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف هذه الدقائق المفصلة السالمة من الشوائب التي لا يصدّقها العقل . أو لا تتفق مع توحيد الأنبياء وفضائلهم لولا ما أنزل عليه من الوحي الإلهي ؟