Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 160-160)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا سياق آخر من أخبار قوم موسى عليه السلام عُطف على ما قبله لمشاركته إيّاه في كلّ ما يقصد به من العظات والعبر . قال تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } أي وفرّقنا قوم موسى الذين كان منهم أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون ، ومنهم الظالمون والفاسقون - كما سيأتي بعد بضع آيات - قطعناهم فجعلناهم اثنتي عشرة قطعة أي فرقة تسمّى أسباطاً أي أمماً وجماعات يمتاز كلّ منها بنظام خاص في معيشته وبعض شؤونه ، كما يأتي قريباً في مشارب مائهم . والمشهور من معنى السبط بكسر السين أنّه ولد الولد مطلقاً ، وقد يخصّ بولد البنت ، وأسباط بني إسرائيل سلائل أولاده العشرة - أي ما عدا لاوي - وسلائل ولدي إبنه يوسف وهما ( افرايم ومنسي ) ، وأمّا سلالة لاوي فنيطت بها خدمة الدين في جميع الأسباط ولم تجعل سبطاً مستقلاً . وقد تقدّم تفصيل ذلك فالأسباط بيان للفرق والقطع التي هي أقسام بني إسرائيل ليعلم أنّها سُمّيت بذلك ، كما سُمّيت الفرق في العرب بالقبائل ، والأمم بيان للمراد من معنى الأسباط الإصطلاحي . والأمّة الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد ، وتقدّم بيان ذلك أيضاً . { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } تقدّم في سورة البقرة مثل هذا مع تفسيره وهو : { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } [ البقرة : 60 ] فأفاد ما هنا أن قومه استسقوه ، وما هنالك أنّه إستسقى ربّه لقومه . وكلاهما قد حصل . والإستسقاء طلب الماء للسقيا ، وتعريف الحجر في هاتين السورتين المكيّة ( الأعراف ) والمدنيّة ( البقرة ) لتعظيم جرمه ، وقد عبّر عنه في التوراة بالصخر - أو تعظيم شأنه ، أو كليهما ، وكلاهما عظيم ، وقد يكون للعهد كما تدلّ عليه عبارة التوراة إذ عيّنت مكانه من جبل حوريب . والإنبجاس والإنفجار واحد ، يقال : بجسه أي فتحه فانبجس وبجّسه ( بالتشديد ) فتبجس ، كما يقال : فجّره ( كنصره ) إذا شقّه فانفجر وفجره ( بالتشديد ) فتفجر - وزعم الطبرسي أن الإنبجاس خروج الماء بقلّة ، والإنفجار خروجه بكثرة ، وأنّه عبّر بهما لإفادة أنّه خرج أوّلاً قليلاً ثمّ كثر . وأدق منه قول الراغب : الإنبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيّق ، والإنفجار يُستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع ، فاستعمل حيث ضاق المخرج اللفظان - أي وهو حجر موسى - وقال : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } [ الكهف : 33 ] { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } [ القمر : 12 ] ولم يقل بجسنا اهـ . أقول : ولكن رواة اللغة فسّروا أحدهما بالآخر ، وذكروا من الشواهد عليه ما يدلّ على الكثرة . قال في اللسان : البجس إنشقاق في قربة أو حجر أو أرض ينبع منه الماء ، فإنّ لم ينبع فليس بإنبجاس وأنشد : @ وكيف غرْبَيْ دالج تبجساً @@ والسحاب يتبجّس بالمطر ، والإنبجاس عام ، والنبوع للعين خاصة ، وبجست الماء فانبجس أي فجرته فانفجر ، وبجس بنفسه يبجس ، يتعدّى ولا يتعدّى ، وسحاب بُجْس ، وتبجّس أي تفجّر اهـ . وفي الأساس : إنبجس الماء من السحاب والعين : إنفجر ، وتبجّس : تفجّر إلخ … وسحائب بُجس وبجسها الله . قال ابن مقبل : @ له قائد دُهمْ الرباب وخلفه روايا يبجسن الغمام الكنهورا @@ وحاصل المعنى : وأوحينا إلى موسى حين إستسقاه قومه فإستسقى ربّه لهم ( كما في آية البقرة ) بأن أضرب بعصاك الحجر فضربه فنبعت منه عقب ضربه إيّاه اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد أسباطهم { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } أي قد عرف أُناس كلّ سبط المكان الذي يشربون منه ، إذ خصّ كلّ منهم بعين لا يُأخذ الماء إلاّ منها لما في ذلك من النظام ، وإتقاء ضرر الزحام . وفي أول سفر العدد من التوراة : أن عدد الرجال الصالحين للحرب من بني إسرائيل كان يزيد على ستمائة ألف من ابن عشرين فما فوقه فعلى هذا يكون عدد الجميع رجالاً ونساء وأطفالاً لا يقل عن ألفي ألف ( مليونين ) . وللمؤرخ النقادة الحكيم ابن خلدون تشكيك معروف فيما قاله المؤرّخون تبعاً للتوراة في كثرة هذا العدد من وجوه : كثيرة فصّلها في أوّل مقدّمة تاريخه ، ولكن لا يمكن الشك في أنّهم كانوا ألوفاً كثيرة أو عشرات الألوف ، فإذا لم يكن لهم في سيناء موارد للماء غير تلك العيون التي انفجرت من صخر في جبل ( حوريب ) متّصل به ، فلا بدَّ أن تكون مساحة ذلك الصخر واسعة جداً ، وأن يكون السهل أمامه أفيح ليسع الألوف من الأسباط يردون ويصدرون . وقد إختلف علماء أهل الكتاب في مدلول لفظ ( حوريب ) الذي أمر الله موسى أن يذهب إلى صخر فيه فيجده - أي الرب - عنده أو عليه ، وأن يضربه بعصاه فينفجر منه الماء : هل هو جبل سيناء نفسه أم بين اللفظين عموم وخصوص - ويزعم بعضهم أن الصخر المذكور في الوادي يسمّى ( وادي اللجاء ) ويعيّن بعض الرهبان مكانه . ولا يعنينا شيء ممّا ذُكر إلاّ أنّنا نجزم بأن ما في كتب التفسير عندنا من صفة ذلك الحجر وحجمه وشكله ككونه كرأس الشاة أو أكبر وكونه يوضع في الجوالق أو يحمل على ثور أو حمار - كلّ ذلك من الخرافات الإسرائيلية التي كانوا يتلقونها بالقبول أيّها أغرب . وقد نقل ابن كثير على إحتراسه كثيراً منها . وفي عرائس المجالس عن وهب بن منبه أن موسى كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر منه عيون … فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله إليه بأن يكلّم الحجارة فتطيعه ، فقالوا : كيف بنا إذا مضينا إلى الأرض التي ليس فيها حجارة ؟ فأمر الله موسى أن يحمل معه حجراً فحيثما نزل ألقاه ! إلخ وهذا من الخرافات التي إختلقها وهب ليس لها أصل عند اليهود ولا عند المسلمين . ولولا جنون الرواة بكلّ ما يقال عن بني إسرائيل لمّا قبلوا من مثله أن يشرب مئات الألوف أو الملايين من حجر صغير يُحتمل كما قبلوا من مزاعمه أنّ رأس الرجل من قوم هود ( عليه السلام ) كان كالقبّة العظيمة ! ! وقد عدّوه مع أمثال هذه الخرافات ثقة في الرواية ( ! ) . { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ } الغمام السحاب أو الأبيض أو الرقيق منه أي وسخّرنا لهم الغمام يلقي عليهم ظلّه فيقيهم لفح حرارة الشمس من حيث لا يحرّمون فائدة نورها وحرّها المعتدل ، وتسمّى السحابة ظُلّة بالضم ككلّ ما أظلّك من فوق . ولولا كثرة السحاب في التيه لأحرقتهم الشمس إذ لم يكن هنالك شجر يستظلّون به . { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } المنّ مادة بيضاء تنزل من السماء ( الجوّ ) كالظل حلوة الطعم تشبه العسل ، وإذا جفت تكون كالصمغ ، وقد كثر نزوله على بني إسرائيل في التيه وهو موصوف في التوراة بأنّ طعمه كطعم قطائف بالزيت ومنظره كمنظر المقل ، وعبّر عنه فيها بخبز السماء ، وقد كان يقوم مقام الخبز . ويقول كثير من المفسّرين إنّه هو المعروف عند الأطباء بالترنجبين . وقال : ( الدكتور بوست ) في قاموس الكتاب المقدّس : لا يجوز أن يشتبه بين هذا المنّ والمنّ الطبي الذي هو عصير منعقد من شجرة الدردار ولا هو أيضاً - المنّ الذي يتكوّن من شجرة الطرفاء وعلّل ذلك بقوله : 1 - إن الإسرائيليّين لم يروه قبل رحلتهم . 2 - لا يوجد المنّ العربي إلاّ تحت الطرفاء وفي أوّل الصيف فقط . 3 - يمكن حفظه مدّة طويلة ولا يدوّد . 4 - لا يمكن طحنه أو دقّه . 5 - يتكوّن المنّ كلّ يوم من أيام الأسبوع مدّة الفصل اهـ . وفي قوله نظر لا حاجة إلى شرحه ، وهو يريد به إثبات ما قاله من أن هذا المنّ كان " عجيبة " أي معجزة أو كرامة لموسى عليه السلام . ونحن لا ننكر ما آتى الله كليمه من الآيات البيّنات والحجج على قومه لإصلاحهم ، وقد كان أفسدهم إستعباد المصريّين لهم ويكفي أن تكون المعجزة في نزولها بتلك الكثرة التي كانت تكفي تلك الألوف وتقوم عندهم مقام الخبز كما أعترف به هو في ( السلوى ) فقد وافق غيره في أنّها هي طير السمان المعروف وقال : إنّها كانت تهاجر من أفريقية ( ولا سيّما مصر ) فتصل إلى سيناء تعبة فتقع على الأرض أو تسفّ فتؤخذ باليد . وقيل طير تشبه السمان ولكنّها أكبر منها . { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } هنا قول مقدّر يكثر مثله في التنزيل وكلام العرب أي وقلنا لهم - أو أنزلنا ما ذكر عليهم قائلين : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، فوضع هذا الوصف للمنّ والسلوى موضع الضمير لتعظيم شأن المنّة بهما . وإسناد الرزق إلى ضمير جمع العظمة تأكيد للتنبيه والتذكير بما يجب من شكره تعالى على ذلك . ويقدّر مثل هذا في آية البقرة المدنيّة ، وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل المجاورين للنبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة ولمَنْ بلغه من غيرهم ، فإنّ الخطاب لهم هنالك إنّما كان بما وقع لأجدادهم فهو بمعنى الحكاية في آية الأعراف إلاّ أن الكلام هنا كان موجّهاً أوّلاً إلى المشركين لأنّ السورة مكيّة ، ولذلك إتخذ عجز الآية في السورتين وهو : { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم ولكن كان دأبهم ظلم أنفسهم دون ربّهم الذي لا يناله تأثير أحد بظلم ولا غيره فكانوا يجنون على أنفسهم بكفر النعم والجحود وغيرهما آناً بعد آن وجيلاً بعد جيل ، كما هو مبيّن في القرآن بالإجمال وفي التوراة بالتفصيل . فتقديم أنفسهم على يظلمون المفيد لقصر ظلمهم عليها إنّما هو لبيان أن كفرهم بنعمه تعالى يضرّهم ولا يضرّه تعالى كما في الحديث القدسي الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً " يا عبادي إنّي حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " ( ومنه ) " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " ولا يدخل في معنى القصر أنّهم لا يظلمون الناس فإنّه لم يكن معهم أحد في التيه فينفي عنهم ظلمه ولمّا اتّصلوا بالناس بعد الخروج منه كان منهم العادلون ومنهم الظالمون ومَنْ ظلم نفسه كان لغيره أظلم . وإن كان ظلمه لنفسه ممّا يجهل أنّه ظلم لها لأنّه يتجلّى له في صورة المنفعة . وإنّما تكون عاقبته المضرّة ، وهكذا شأن جميع الظالمين والمجرمين ، ينوون بظلمهم وإجرامهم نفع أنفسهم جهالة منهم . ولا يزال طوائف من بني إسرائيل يقدمون على ضروب من ظلم الناس يقصدون بها نفع أنفسهم وقومهم ، وهي تنذر بخطر كبير ، وشرّ مستطير ، كالفتنة التي أثاروها في بلاد الروسية بتعاليم الإشتراكية المسرفة المعبّر عنها بالبلشفيّة ، ومحاولة إنتزاع فلسطين من الأمّة العربيّة ، وهذا ممّا يدخل في مضمون التمادي والإستمرار على الظلم المعبّر عنه بجملة { كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } إذ هي تفيد أن هذا صار دأباً وعادة لهم .