Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 1-3)
Tafsir: Baḥr al-ʿulūm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } فهذا نداء المدح ، والنداء في القرآن على سبع مراتب : نداء المدح : مثل قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } [ الأنفال : 64 وغيرها ] { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ } [ المؤمنون : 51 ] . ونداء الذم مثل قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ التحريم : 7 ] { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ } [ الجمعة : 6 ] . ونداء التنبيه ، مثل قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ } [ الانفطار : 6 وغيرها ] . ونداء الإضافة ، مثل قوله { يَا عِبَادِي } [ الزمر : 53 ] . ونداء النسبة : مثل قوله : { يَابَنِيۤ ءَادَمَ } [ الأعراف : 26 ] { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 40 وغيرها ] . ونداء الاسم : مثل قوله : { يَٰإِبْرَٰهِيمُ } [ هود : 76 وغيرها ] { يٰدَاوُودُ } [ ص : 26 ] . ونداء التعبير ، مثل قوله : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [ المائدة : 19 ] . فها هنا نداء المدح : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } وهو من جوامع الكلم لأنه قال : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } يعني صدقوا ، ولم يقل بأي شيء صدقوا ، معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وصدقوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن وصدقوا بجميع الرسل ، وبالبعث والحساب والجنة والنار . وقال عبد الله بن مسعود كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه ، وإن أدب الله القرآن ، فإذا سمعت الله يقول : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } فارعها سمعك ، فإنه خير مأمور به ، أو شر منهي عنه . ويقال : جميع ما في القرآن : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } نزل بالمدينة وكل ما يقال في القرآن : { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } نزل أكثره بمكة ، وقد قيل نزل بالمدينة أيضاً ويقال : كل ما في القرآن { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } ذكر في مقابله في الإنجيل : ( يا أيها المساكين ) . ثم قال : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن ، وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم ، أن يوفوا بها . وقال مقاتل : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين ، ويقال : جميع العقود التي بينه وبين الناس ، والتي بينه وبين الله تعالى ، وهذا من جوامع الكلم ، لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود : أحدها : العقود التي عقد الله تعالى على عباده ، من الأوامر والنواهي . والنوع الثاني : العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان وغير ذلك . والنوع الثالث : العقود التي بينه وبين الناس : مثل البيوع والإجارات وغير ذلك ، فوجب الوفاء بهذه العقود كلها . ثم قال : { أُحِلَّتْ لَكُمْ } يعني رخصت لكم { بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش ، دليله على قوله تعالى { وَمِنَ ٱلأَنْعَـٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } [ الأنعام : 142 ] ثم قال : { ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } [ الأنعام : 143 وغيرها ] ، وأما البهيمة فهي كل حي لا يتميز ، وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز ، ثم قال : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } يعني رخصت لكم الأنعام كلها ، إلا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير وغير ذلك ، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة ، والبحيرة ، فأخبر الله تعالى : أنهما حلالان { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } يعني إلا ما بين في هذه السورة . ثم قال : { غَيْرَ مُحِلّي ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } يعني أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } يعني يحل ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، لأنه أعرف بصلاح خلقه ، وما يصلحهم ، وما لا يصلحهم وليس لأحد أن يدخل في حكمه ، وهذا كقوله { وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } [ الكهف : 26 ] وقال { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ } [ سورة الأنبياء : 23 ] . قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } الشعائر ما جعل الله علامات الطاعات ، وأحدها شعيرة ، ومعناه لا تستحلوا شيئاً من ترك المناسك كلها ، مما أمر الله تعالى من أمر الحج ، وهو السعي بين الصفا والمروة ، والخروج إلى عرفات ورمي الجمار والطواف واستلام الحجر وغير ذلك . وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة ، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات ، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات ، فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئاً من أمور المناسك ، ثم قال : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام { وَلاَ ٱلْهَدْي ، َ وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ } يقول : لا تتعرضوا له ولا تستحلوا ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة ، وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك ، ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة ، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة من شَعر أو وبر ، فيأمن بذلك فإذا رجع من مكة جعل شيئاً من لحاء شجر مكة في عنق راحلته فيأمن بذلك ، ليعرف أنه كان حاجاً ، فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك ، يعني : من فعل ذلك لا يتعرض له . ثم قال تعالى : { وَلاَ آمِّيْنَ } يقول : ولا تستحلوا قاصدين { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } نزلت في " شُرَيْح بن ضُبَيْعة بن شُرَحْبِيل اليماني " دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلمه ، فلما خرج من عنده مَرَّ بسرح لأهل المدينة ، فساقها وانتهى إلى اليمامة ، ثم خرج من هناك نحو مكة ، ومعه تجارة عظيمة فهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يخرجوا إليه ، ويغيروا على أمواله ، فنزل { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } ، { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبّهِمْ } يعني الربح في المال ، { وَرِضْوَاناً } يعني يطلبون بحجهم رضوان ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا ، ثم نسخ بقوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ولم ينسخ قوله { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } ، ولكنه محكم فوجب إتمام أمور المناسك . ولهذا قال أصحابنا : ( إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك ثم عليه القضاء في السنة الثانية ، ونسخ قوله : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] وقوله تعالى { وَلاَ ٱلْهَدْيَ ، وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ } فهو محكم أيضاً ، ولم ينسخ فكل من قلد الهدي ( وتوجه إلى مكة ) ونوى الإحرام صار محرماً ، ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية ، فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض ، بعضها منسوخة وبعضها محكمة . فإن قيل : قد قال : يبغون فضلاً من ربهم ، ورضواناً ، فأخبر أنهم يطلبون رضوان ربهم ، ولم يذكر أن طلبهم كان باطلاً ، قيل له : لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار ، وإنما بين النهي عن التعرض للذين يقصدون البيت ، فإن كان الذي قصد كافراً فقد بين في آية أُخرى أنه لم يقبل منه ، وإن لم يذكر ها هنا وهو قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] وقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ } يعني : إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم ، فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الجمعة : 10 ] وكقوله { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ … } [ سورة البقرة : 187 ] الآية وقال الضحاك : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } يعني إذا خرجتم من إحرامكم ، وخرجتم من حرم الله تعالى وأمنه فاصطادوا . ثم قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } يقول : ولا يحملنكم عداوة كفار مكة { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } يعني عام الحديبية { أَن تَعْتَدُواْ } على حجاج اليمامة ( من المشركين ) ، فتستحلوا منهم . وفي الآية دليل : أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به وتكون تلك المكافأة اعتداء ، لأن الله تعالى قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } يعني بغض قوم وعداوتهم { أَن تَعْتَدُواْ } يعني تجاوزوا الحد في المكافأة قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : ( شنآن ) بجزم النون وقرأ الباقون ( شنآن ) بالنصب . وقال القتبي ، لا يقال في المصادر فعلان ، وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان ، وسكران ، وفي المصادر يقال : فعلان ، مثل طيران ولهفان وشنآن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( إن صدوكم ) بكسر الألف على معنى الابتداء ، وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء . ثم قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ } يعني تعانوا على أمر الله واعملوا به . وروى ابن عباس : البرُّ : ما أمر الله تعالى به ، يعني تحاثوا على أمر الله ، واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه ، وامتنعوا عنه ، وهذا موافق لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الدال على الخير كفاعله " وقد قيل : الدال على الشر كصانعه . ثم قال : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } قال القتبي : العدوان على وجهين : عدوان في السبيل كقوله : { فَلاَ عُدْوَٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } [ البقرة : 193 ] وكقوله { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } [ القصص : 28 ] والثاني عدوان في الظلم ، كقوله { فَلاَ تَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [ المجادلة : 9 ] وكقوله { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [ سورة المائدة : 2 ] يعني به حجاج أهل اليمامة وصارت الآية عامة في جميع الناس . ثم قال : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } يقول واخشوا الله وأطيعوه فيما يأمركم به ، { إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } إذا عاقب . قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } يعني حرم عليكم أكل الميتة ، والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة ، فهو حرام ، إلا الجراد والسمك فقد أباحهما على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " أحلت لنا [ دمان وميتتان ] السمك والجراد ، والكبد والطحال " ثم قال : { وَٱلدَّمُ } يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه ، وهو الدم المسفوح ، كما قال في آية أخرى : { إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ، أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] وأما الدم الذي بقي بعد الإنهار فهو مباح ، مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم ، ثم قال : { وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ } يعني أكل لحم الخنزير فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك ، وهذا حرام بإجماع المسلمين ، ثم قال : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير الله ، وأصل الإهلال ، رفع الصوت ، ومنه استهلال الصبي ، وإهلال الحج وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم ، فحرم الله تعالى ذلك ، ثم قال : { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } وهي الشاة التي تختنق فتموت ، وكان بعض أهل الجاهلية ، يستحلون ذلك ويأكلونها ثم قال { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } يعني حرم عليكم أكل الموقوذة ، وهي التي تضرب بالخشب فتموت . وأصله في اللغة : هي الإشراف على الهلاك ، ( فإذا ضرب بالخشب حتى أشرف على الموت ، ثم يتركه ، يقال : وقذه ، ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة ، أي ضعف وأشرف على الهلاك ) . ثم قال : { وَٱلْمُتَرَدّيَةُ } وهي الشاة التي تخر من الجبل أو تتردى في بئر فتموت ، { وَٱلنَّطِيحَةُ } وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها ثم قال : { وَمَا أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } وهي فريسة السبع ، فحرم الله تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يعني إلا ما أدركتم ذكاته ، فذكيتموه قبل أن يموت ، فلا بأس بأكله . قال القتبي : أصل الذكاة من التوقد ، يقال : ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئاً من الحطب ، وإنما سميت الذكية ذكية ، لأنها صارت بحال ينتفع بها . وقال الزجاج : أصل الذكاة تمام الشيء ، وقوله : إلا ما ذكيتم يعني ما أدركتم ذبحه على التمام . ثم قال : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } قال القتبي : النصب هو حجر أو صنم منصوب ، كانوا يذبحون عنده ، وجمعه أنصاب ، ويقال : كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلهتهم ثم قال : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } والأزلام : القداح واحدها زلم ، على ميزان قلم وأقلام ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزوراً ، وجعلوا لحمه على تسعة أجزاء ، وأعطى كل واحد منهم سهماً من سهامه فجمعوا السهام عند واحد منهم ، أو شيء من الأحجار ، ثم يخرج هذا الرجل واحداً واحداً من السهام ، فكل من خرج سهمه يأخذ جزءاً من ذلك اللحم فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم ، ولا يكون للذي بقي اسمه آخراً شيء من اللحم ، وكان ثمن الجزور كله عليه ، وكان نوع آخر : أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح ، وكان لكل واحد منها سهم ، ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم ، وهو السفيح والمنيح والوغد ، وكان للسبعة لكل سهم نصيب ، وهو القذ والتوأم ، والرقيب والمعلى ، والحلس والناقس ، والمسبل . ويقال : كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح في واحد منها مكتوب أمرني ربي ، وفي الآخر نهاني ربي ، فيخرج أحدهما ، فإن خرج باسمه : أمرني ربي ، وجب عليه الخروج ولم يجز له التخلف ، وإن خرج الآخر ، لا يسعه الخروج ، فنهى الله تعالى عن ذلك كله ، بقوله : { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } يعني هذه الأفعال معصية وضلالة ، واستحلالها كفر ثم قال : { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } يعني كفار العرب ، أن تعودوا كفاراً حين حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع وليس معهم مشرك . وقال الضحاك : نزلت هذه الآية حين فتح مكة [ وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] فتح مكة لثمان بقين من رمضان ، سنة سبع ، ويقال : سنة ثمان ودخلها ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، فانقادت قريش لأمر الله ورفعوا أيديهم وأسلموا . قال الله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } يقول : فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم ، وناصركم ، { وَٱخْشَوْنِ } في ترك أمري ثم قال : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني أتممت لكم شرائع دينكم ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها ، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام ، فنزلت هذه الآية { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يعني دينكم ، حلالكم وحرامكم . وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس أنه قرأ : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال له يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة ، ويوم عرفة . قال الفقيه : حدثنا الخليل بن أحمد ، قال : حدثنا ابن صاعد ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق ، أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب إنكم لتقرأون آية ، لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : إني لأعلم حيث نزلت ، وفي أي يوم نزلت ، أنزلت بيوم عرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة ، فإن قيل في ظاهر هذه الآية دليل ، أن الدّين يزيد حيث قال : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، قيل له : ليس فيها دليل ، لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم وليس فيها دليل : أنه لم يكمل قبل ذلك ، ألا ترى أنه قال في سياق الآية : { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً } ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك ، ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر ، كما جاء في الخبر أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه ، فأعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إثنين منهم ، يعني أظهر عتقهما وقرر ، ولم يرد به الابتداء . وقال مجاهد : معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم ، وغلبة دينكم ونصرته وقال قتادة : معناه ، أخلص لكم دينكم . ثم قال : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } يعني منتي ، فلم يحج معكم مشرك ، { وَرَضِيتُ } يعني اخترت { لَكُمُ ٱلإِسْلاَمَ دِيناً } وروي في الخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، ثم مضى لسبيله - صلوات الله عليه - وقال الزجاج : { ٱلْيَوْمَ } صار نصباً للظرف ، ومعناه : اليوم أكملت لكم دينكم . وقال معاذ بن جبل : النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة ، فصار كأنه قال : رضيت لكم الجنة ، لأنه لا تكون النعمة تماماً حتى يضع قدميه فيها . ثم رجع إلى أول الآية فقال : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } وذلك أنه لما بين المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله فأباح لهم أكله عند الضرورة . فقال : فمن اضطر ، يعني اجهد إلى شيء مما حرم الله تعالى عليه ، في مخمصة ، يعني مجاعة ، وأصل الخمص ضمور البطن ودقته ، فإذا جاع فقد خمص بطنه ، ثم قال : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع وأصل الجنف : الميل . وقال الزجاج : يعني غير متجاوز للحد ، وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله . وقال أهل المدينة : المضطر يأكل حتى يشبع . وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله : يأكل مقدار ما يأمن به الموت ، وكذلك قال الشافعي . ثم قال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني : غفور فيما أُكل ، رحيم حين رَخَّص له في أكله عند الاضطرار . قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو : ( فمن اضطر ) بكسر النون لاجتماع الساكنين ، وقرأ الباقون : بالضم .