Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 125-128)

Tafsir: an-Nukat wa-l-ʿuyūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَإذْ جَعَلْنَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ } فيه قولان : أحدهما : مجمعاً لاجتماع الناس عليه في الحج والعمرة . والثاني : مرجعاً من قولهم قد ثابت العلة إذا رجعت . وقال الشاعر : @ مثاباً لأفناءِ القبائل كلها تحب إليها اليعملات الذوامل @@ وفي رجوعهم إليه وجهان : أحدهما : أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة . والثاني : أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم ؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق . قال تعالى : { وَأَمْناً } فيه قولان : أحدهما : لأمنه في الجاهلية من مغازي العرب ، لقوله : { وءَامَنَهُم مِنْ خَوفٍ } [ قريش : 4 ] . والثاني : لأمن الجناة فيه من إقامة الحدود عليهم حتى يخرجوا منه . { وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى } روى حماد ، عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : قلت يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى : { وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى } بكسر الخاء من قوله واتخذوا على وجه الأمر ، وقرأ بعض أهل المدينة : { وَاتَّخّذُوا } بفتح الخاء على وجه الخبر . واختلف أهل التفسير في هذا المقام ، الذي أُمِرُوا باتخاذه مصلى ، على أربعة أقاويل : أحدها : الحج كله ، وهذا قول ابن عباس . والثاني : أنه عرفة ومزدلفة والجمار ، وهو قول عطاء والشعبي . والثالث : أنه الحرم كله ، وهو قول مجاهد . والرابع : أنه الحجر الذي في المسجد ، وهو مقامه المعروف ، وهذا أصح . وفي قوله : { مُصَلَّى } تأويلان : أحدهما : مَدْعَى يَدْعِي فيه ، وهو قول مجاهد . والثاني : أنه مصلى يصلي عنده ، وهو قول قتادة ، وهو أظهر التأويلين . قوله تعالى : { وَعَهِدْنآ إِلى إبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ } فيه تأويلان : أحدهما : أي أَمَرْنَا . والثاني : أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل . { أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : من الأصنام . والثاني : من الكفار . والثالث : من الأنجاس . وقوله تعالى : { بَيْتِيَ } يريد البيت الحرام . فإن قيل : فلم يكن على عهد إبراهيم ، قبل بناء البيت بيت يطهر ، قيل : عن هذا جوابان : أحدهما : معناه وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطَهَّراً ، وهذا قول السدي . والثاني : معناه أن طهرا مكان البيت . { لِلطَّائِفِينَ } فيهم تأويلان : أحدهما : أنهم الغرباء الذين يأتون البيت من غربة ، وهذا قول سعيد بن جبير . والثاني : أنهم الذين يطوفون بالبيت ، وهذا قول عطاء . { وَالْعَاكِفِينَ } فيهم أربعة تأويلات : أحدها : أنهم أهل البلد الحرام ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة . والثاني : أنهم المعتكفون وهذا قول مجاهد . والثالث : أنهم المصلون وهذا قول ابن عباس . والرابع : أنهم المجاورون للبيت الحرام بغير طواف ، وغير اعتكاف ، ولا صلاة ، وهذا قول عطاء . { والرُّكَّعِ السُّجُودِ } يريد أهل الصلاة ، لأنها تجمع ركوعاً وسجوداً . قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } يعني مكة { وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } ليجمع لأهله الأمن والخصب ، فيكونوا في رغد من العيش . { مَنْ ءَآمَنَ مِنْهُم بِاللهِ } فيه وجهان : أحدهما : أن هذا من قول إبراهيم متصلاً بسؤاله ، أن يجعله بلداً آمناً ، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات ، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله : { لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أن فيهم ظالماً هو بالعقاب أحق من الثواب ، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات . والوجه الثاني : أنه سؤاله كان عاماً مرسلاً ، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر ، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين ، بأن قال : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } يعني في الدنيا . { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ } يعني بذنوبه إن مات على كفره . واختلفوا في مكة ، هل صارت حراماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت فيه كذلك ؟ على قولين : أحدهما : أنها لم تزل حرماً مِنَ الجَبَابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ ، ومن الخسوف والزلازل ، وإنما سأل إبراهيم ربَّه : أن يجعله آمناً من الجذب والقحط ، وأن يرزق أهله من الثمرات ، لرواية سعيد بن المقبري ، قال : سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة ، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال : " يأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ بِهَا شَجَراً ، وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا ، ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ ، ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ . فَمَنْ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا فَقُولُوا : إنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكْ " والثاني : أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم ، كسائر البلاد ، وأنها بدعوته صارت حرماً آمنا ، وبتحريمه لها ، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراماً ، بعد أن كانت حلالاً ، لرواية أشعب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللهِ وَخَلِيله ، وَإِنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عَضَاهَا وَصَيْدُهَا ، لاَ يُحْمَلُ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ ، وَلاَ يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ لَعَلَفٍ " قوله تعالى : { وَإَذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيمُ ، وهو أول من بناه مع إسماعيل ، وأول من حجه ، وإنما كانوا قَبْلُ يصلون نحوه ، ولا يعرفون مكانه . والقواعد من البيت واحدتها قاعدة ، وهي كالأساس لما فوقها . { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } والمعنى : يقولان ربنا تقبل منا ، كما قال تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيكُم } أي يقولون سلام عليكم ، وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولاَنِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } . وتفسير " إسماعيل " : إسمع يا الله ، لأن إيل بالسريانية هو الله ، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال : اسمع يا إيل ، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد ، سمّى بما دعا . قوله تعالى : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ } على التثنية ، وقرأ عوف الأعرابي : { مُسْلِمِينَ لك } على الجمع . ويقال : أنه لم يدع نَبيُّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له ، وهو في الدين القابل لأوامر الله سراً وجهراً . { وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي عرفنا مناسكنا ، وفيها تأويلان : أحدهما : أنها مناسك الحج ومعالمه ، وهذا قول قتادة والسدي . والثاني : أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله عز وجل ، وهذا قول مجاهد وعطاء . والمناسك جمع منسك ، واختلفوا في تسميته منسكاً على وجهين : أحدهما : لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة ، من قولهم إن لفلان منسكاً ، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر ، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها . والثاني : أن النسك عبادة الله تعالى ، ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربه ، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات .