Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 8-9)

Tafsir: Maʿālim at-tanzīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } ، يقول : أخذنا ميثاقهم [ لكي يسأل الصادقين عن صدقهم ، يعني النبيين عن تبليغهم ] الرسالةَ والحكمةُ في سؤالهم ، مع علمه أنهم صادقون ، تبكيتُ من أرسلوا إليهم . وقيل : ليسأل الصادقين عن عملهم لله عزّ وجلّ . وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم . { وَأَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } . قوله عزّ وجلّ : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } ، وذلك حين حُوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق ، { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } ، يعني الأحزاب وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة ، والنضير ، { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } ، وهي الصَّبَا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل ، وكانت الريح التي أرسلت عليهم الصَّبا . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم ، أخبرنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نُصِرْتُ بالصَّبا ، وأُهلكتْ عادٌ بالدَّبُور " . قوله تعالى : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } ، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردةً فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيِّدُ كلِّ حي يقول : يا بني فلان هلم إليّ ، فإذا اجتمعوا عنده قال : النجاءَ النجاءَ ، لِما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال . { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلونَ بَصِيراً } . قال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ، ومن لاَ أَتَّهم عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا ، دخل حديث بعضهم في بعض : أن نفراً من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحقيق ، وَحُيَي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وهودة بن قيس وأبي عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خيرٌ أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منهم ، قالوا : فهم الذين أنزل الله فيهم : فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعدَ صدقٍ ، وُعِدْنَا النصر بعد الحصر ، فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يعدكم ويمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق لا تستطيعون أن تبرزوا ؟ قال فنزل القرآن : { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } وأنزل الله في هذه القصة : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] الآية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا معاوية بن عمرو ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن حميد قال : سمعت أنساً يقول : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غَدَاةٍ باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك عنهم ، فلما رأى ما بهم من النَّصَبِ والجوع ، قال : " اللهمَّ إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة ، فاغفِرْ للأنصار والمهاجِرَةْ " فقالوا : مجيبين له : @ نحنُ الذين بايَعُوا محمدا على الجهادِ ما بَقَيْنَا أبدا @@ وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغَْمَرَ بطنَه - أو اغبرَّ - وهو يقول : @ والله لولا الله ما اهتدَيْنا ولا تَصَدَّقْنَا ولا صلَّيْنَا فأَنْزِلَنْ سكينةً علينا وثَبِّتِ الأقدامَ إِنْ لاقَيْنَا إنَّ الأُلَى قد بَغَوا علينا إذا أرادوا فِتْنَةً أَبَيْنَا @@ ويرفع بها صوته : أبينا أبينا . رجعنا إلى حديث ابن إسحاق ، قال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُوْمَة من الجُرْفِ والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد ، حتى نزلنا بذنب نَقْمَى إلى جانب أُحد ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء والذراري فرْفعوا في الآطام . وخرج عدو الله حيي بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القُرَظِيّ ، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب بِحُيَي بن أخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه حيي فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : يا كعب افتح لي ، فقال : وَيْحَكَ يا حُيَي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمداً ، فلست بناقضٍ ما بيني وبينه ، ولم أرَ منه إلا وفاءً وصدقاً . قال : ويحك افتح لي أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : والله إنْ أغلقت دوني إلا على حشيشتك أن آكل معك منها ، فأحْفَظَ الرجلَ ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رُوْمة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أُحد ، وقد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه . قال له كعب بن أسد : جئتني والله بذل الدهر وبجام قد هراق ماؤه برعد وبرق ، ليس فيه شيء ، فدعني ومحمداً وما أنا عليه ، فإني لم أرَ من محمد إلاّ صدقاً ووفاءً ، فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له ، على أن أعطاه من الله عهداً وميثاقاً . لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وتبرأ مما كان عليه فيما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ وإلى المسلمين ، بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ ، أحدَ بني عبد الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعدَ بن عبادة أحد بني ساعدة ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج ، وخَوَّات بن جبير ، أخو بني عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا ، أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ، ولا تفتُّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به جهراً للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم منهم ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدة ، فقال له سعد بن معاذ : دعْ عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا : عَضَلٌ والقارة ، لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين . وعظم عند ذلك البلاءُ واشتدَّ الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كلَّ ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال مُعَتِّبُ بن قَشَيْرٍ ، أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً ، وحتى قال أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن قيظي : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو ، وذلك على ملأ من رجال قومه ، فائذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى . فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عمر ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فجرى بينه وبينهم الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لسعد ابن معاذ ، وسعد بن عبادة ، واستشارهما فيه ، فقالا : يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به أم أمر تحبه فنصنعه ، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال : لا بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكْسِر عنكم شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منّها ثمرةً واحدة ، إلاّ قِرَىً أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإِسلام وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا ! ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك . فتناول سعد الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتابة ، ثم قال : ليجهدوا علينا . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، وعدوُّهم محاصروهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلاّ أن فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ود ، أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس أخو بني محارب بن فهر ، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا : تهيئوا للحرب يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم مَنِ الفرسانُ ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسَلْع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تُعْنِقُ نحوهم ، وكان عمرو بن عبد وٌَِّ قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد أحداً فلما كان يوم الخندق خرج مُعْلَماً ليُرَى مكانه ، فلما وقف هو وخيله ، قال له علي : يا عمرو إنك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خَلَّتين إلا أخذت منه إحداهما ، قال : أجل ، فقال له علي بن أبي طالب : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإِسلام ، قال : لا حاجة لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى البراز ، قال : ولِمَ يا ابن أخي فوالله ما أُحبُّ أن أقتلك ، قال علي : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه ، فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي فتناولا وتجاولا ، فقتله عليٌّ ، فخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم ، فمات منه بمكة ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة ، فقال : يا معشر العرب قتله أحسن من هذه ، فنزل إليه علي فقتله ، فغلب المسلمون على جسده ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لنا في جسد وثمنه ، فشأنكم به ، فخلّى بينهم وبينه . قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة ، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلَّصَة ، قد خرجت منها ذراعه كلها ، وفي يده حربة وهو يقول : @ لَبِّثَ قليلاً يدركِ الهيجا حَمَلْ لا بأسَ بالموتِ إذا حانَ الأَجَلْ @@ فقالت له أمه : الحق يا بني فقدْ والله أجزت ، قالت عائشة فقلت لها : يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي ، قالت : وخفتُ عليه حيث أصاب السهم منه ، قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم ، وقُُطع منه الأَكْحَلُ ، رماه خباب بن قيس العَرِقَة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال : خذها وأنا ابن العرقة ، فقال سعد : عرّق الله وجهك في النار ، ثم قال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إليّ من أن أجاهدهم من قومٍ هم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، وإن كنت قد وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تُمِتْنِي حتى تُقِرّ عيني من بني قريظة وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية . وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبَّاد قال : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع ، حصن حسان بن ثابت ، قالت : وكان حسان معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، قالت صفية : فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، فقطعت ما بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم ، إذا أتانا آت . قالت : فقلت : يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى ، يطيف بالحصن وإني والله لم آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود ، وقد شُغل عنّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأنزلْ إليه فاقتله ، فقال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، قالت : فلما قال لي ذلك ولم أرَ عنده شيئاً اعتجرت ، ثم أخذت عموداً ، ثم نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن ، فقلت : يا حسان انزلْ إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بِسَلَبِهِ من حاجة يا بنت عبد المطلب . قالوا : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهرِ عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم . ثم إن نُعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذِّلْ عنّا إنِ استطعتَ ، فإن الحرب خُدْعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديماً في الجاهلية ، فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم وُدي إيّاكم وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم ، فقال لهم : إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم ، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان ، أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بعيدة ، إن رأوا نُهْزَةً وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ، يكنون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً ، حتى تناجزوه . قالوا : لقد أشرت برأي ونصح . ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم وُدي إيّاكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمرٌ رأيت أن حقاً عليّ أن أبلغكم نصحاً لكم ، فاكتموا عليّ قالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود قد نَدِمُوا على ما صنعوا بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه : أنْ قد نَدِمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم ، فأرسلَ إليهم : أَنْ نَعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رُهُناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً . ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا عليّ ، قالوا : نفعل ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم ، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان مما صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمةَ بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه ، فقال بنو قريظة لهم : إن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُناً من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً ، فإنا نخشى إن ضَرَسَتْكم الحربُ واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل الذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمُنَّ والله أن الذي حدَّثكم نعيم بن مسعود لَحَقٌّ ، فأرسلوا إلى بني قريظة : إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لَحَقٌّ ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلَّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُناً ، فأبوا عليهم ، وخذَّل الله بينهم ، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً . روى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، وروى غيره عن إبراهيم التميمي ، عن أبيه قالا : قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ، قال نعم يا ابن أخي ، قال : كيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نجهَد ، فقال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه ، وفعلنا وفعلنا ، فقال حذيفة : يا ابن أخي والله لقد رأيتُني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة ؟ فما قام منّا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيَّاً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم ، وما قام منّا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيَّاً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : مَنْ رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا حذيفة ، فلم يكن لي بدُّ من القيام إليه حين دعاني ، فقلت : لبيك يا رسول الله ، وقمت حتى أتيه ، وإن جنبيّ ليضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ، ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتى ترجع إليّ ، ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ، فأخذتُ سهمي ، وشددت عليَّ سلاحي ، ثم انطلقتُ أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لله تفعل بهم ما تفعل ، لا تُقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميَه ولو رميتُه لأصبتُه ، فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لاتحدثنّ حدثاً حتى ترجع إليّ فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم ، لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء ، قام فقال : يا معشر قريش ليأخذْ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت ، فقال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان ابن فلان ، فإذا هو رجل من هوازن . فقال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ولقد هلك الكراع والخف ، وأخلفَتْنَا بنو قريظة ، وبلغَنا منهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلاّ وهم قائم . وسمعتْ غطفان بما فعلتْ قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم . قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي ، فلما سلم أخبرته الخبر ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء ، فأدناني النبي صلى الله عليه وسلم منه ، وأنامني عند رجليه ، وألقى عليّ طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال : قمْ يا نومان .