Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 123-123)
Tafsir: Maʿālim at-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } , روي عن عبد الله بن مسعود قال : إلياس هو إدريس . وفي مصحفه : وإن إدريس لمن المرسلين . وهذا قول عكرمة . وقال الآخرون : هو نبي من أنبياء بني إسرائيل . قال ابن عباس : هو ابن عم اليسع . قال محمد بن إسحاق : هو إلياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران . وقال أيضاً محمد بن إسحاق ، والعلماء من أصحاب الأخبار : لما قبض الله عزّ وجلّ حزقيل النبي صلى الله عليه وسلم ، عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله ، فبعث الله عزّ وجلّ إليهم إلياس نبياً وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة ، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام ، وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح الشام بوأها بني إسرائيل وقسمها بينهم ، فأحل سبطاً منهم ببعلبك ونواحيها ، وهم السبط الذين كان منهم إلياس فبعثه الله تعالى إليهم نبياً ، وعليهم يومئذ ملك يقال له : آجب قد أضل قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام ، وكان يعبد هو وقومه صنماً يقال له : بعل ، وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة وجوه ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ وهم لا يسمعون منه شيئاً إلا ما كان من أمر الملك ، فإنه صدقه وآمن به فكان إلياس يُقَوِّمُ أمره ويسدده ويرشده ، وكان لآجب الملك هذا امرأة يقال لها : أزبيل وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها ، وكانت تَبرُزُ للناس وتقضي بين الناس ، وكانت قتالة للأنبياء ، يقال : هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ، وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه ، وكان قد خلّص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم ، وكانت في نفسها غير محصنة ، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل ، وقتلت كلهم بالاغتيال ، وكانت معمرة يقال أنها ولدت سبعين ولداً . وكان لآجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكي ، وكانت له جنينة يعيش منها ، ويقبل على عمارتها ومرمتها ، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته ، وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها ، وكان آجب الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ، ويحسن إليه ، وامرأته أزبيل تحسده لأجل تلك الجنينة ، وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها ، وتحتال أن تقتله والملك ينهاها عن ذلك ولا تجد عليه سبيلاً ، ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك فجمعت جمعاً من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سب زوجها آجب فأجابوها إليه ، وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سبّ الملك إذا قامت عليه البينة ، فأحضرت مزدكي وقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر مزدكي ، فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور ، فأمرت بقتله وأخذت جنينته ، فغضب الله عليهم للعبد الصالح . فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر ، فقال لها : ما أصبتِ ولا أرانا نفلح بعده ، فقد جاورنا منذ زمان فأحسنّا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا ، فختمتِ أمره بأسوأ الجوار ، فقالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك ، فقال لها : أو ما كان يسعه حلمك فتحفظين له جواره ؟ قالت : قد كان ما كان ، فبعث الله تعالى إلياس إلى آجب الملك وقومه ، وأمره أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب لوليّه حين قتلوه ظلماً ، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردّا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما ، يعني آجب وامرأته ، في جوف الجنينة ، ثم يدعهما جيفتين مُلقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ، ولا يتمتعان بها إلا قليلاً ، قال : فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته ورد والجنينة ، فلما سمع الملك ذلك اشتدَّ غضبه عليه ثم قال له : يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً وما أرى فلاناً وفلاناً - سمى مُلوكاً منهم قد عبدوا الأوثان - إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويتمتعون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرُهم الذي تزعم أنه باطل ، وما ترى لنا عليهم من فضل ، قال : وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله ، فلما أحس إلياس بالشر والمكر به رفضه وخرج عنه ، فلحق بشواهق الجبال ، وعاد الملك إلى عبادة بعل ، وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه . ويقال : إنه بقي سبع سنين شريداً خائفاً يأوي إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون والله يستره ، فلما مضى سبع سنين أذن الله في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم ، فأمرض الله عزّ وجلّ ابناً لآجب وكان أحب ولد إليه وأشبههم به ، فأدنف حتى يئس منه ، فدعا صنمه بعلاً - وكانوا قد فتنوا ببعل وعظّموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن - فوكلوهم به وجعلوهم أنبياءه ، وكان الشيطان يدخل في جوف الصنم فيتكلم ، والأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبثونها للناس ، فيعملون بها ويسمونهم أنبياء . فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوا إلى بعل ، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم ، ومنع الله الشيطان فلم يمكنه الولوج في جوفه ، وهم مجتهدون في التضرع إليه ، فلما طال عليهم ذلك قالُوا لآجب : إن في ناحية الشام آلهة أخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلَّها تشفع لك إلى إلهك بعل ، فإنه غضبان عليك ، ولولا غضبه عليك لأجابك ، قال آجب : ومن أجل ماذا غضب عليّ وأنا أطيعه ؟ قالوا : من أجل أنك لم تقتل إلياس وفرطت فيه حتى نجا سليماً وهو كافر بإلهك ، قال آجب : وكيف لي أن أقتل إلياس وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني ، وليس لإِلياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد ، فلو عُوفي ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فأقتله فأرضي إلهي ، ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة إلى الآلهة التي بالشام يسألونها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس أوحى الله تعالى إلى إلياس عليه السلام أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم . وقال له : لا تخف فإني سأصرف عنك شرهم وألقي الرعب في قلوبهم ، فنزل إلياس من الجبل ، فلما لقيهم استوقفهم ، فلما وقفوا قال لهم : إن الله تعالى أرسلني إليكم وإلى من وراءكم فاسمعوا أيها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا إليه ، وقولوا له : إنّ الله تعالى يقول لك : ألستَ تعلم يا آجب أَني أنا الله لا إله إلا أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ، ورزقهم وأحياهم وأماتهم ، فجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي ، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئاً إلا ما شئت ، إني حلفت باسمي لأغيظنَّك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أن أحداً لا يملك له شيئاً دوني . فلما قال لهم هذا رجعوا وقد مُلِئوا منه رعباً ، فلما صاروا إلى الملك أخبروه بأن إلياس قد انحط عليهم ، وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره وتقشر جلده ، عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال فاستوقفنا ، فلما صار معنا قذف له في قلوبنا الهيبة والرعب ، فانقطعت ألسنتنا ونحن في هذا العدد الكثير فلم نقدر على أن نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك ، وقصوا عليه كلام إلياس ، فقال آجب : لا ننتفع بالحياة ما كان إلياس حياً وما يطاق إلا بالمكر والخديعة ، فقيض له خمسين رجلاً من قومه ذوي القوة والبأس ، وعهد إليهم عهده ، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به ، هم ومن وراءهم ليستنهم إليهم ويغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم ، فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس ، ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم ، ويقولون : يا نبي الله ابرز إلينا وامنن علينا بنفسك ، فإنا قد آمنَّا بك وصدقناك ، وملكنا آجب وجميع قومنا ، وأنت آمن على نفسك وجميع بني إسرائيل ، يقرؤون عليك السلام ويقولون : قد بَلَغَتنا رسالتك وعرفنا ما قلت ، فآمنّا بك وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلمَّ إلينا وأقم بين أظهرنا وأحكم فينا فإنا ننقاد لما أمرتنا ، وننتهي عما نهيتنا وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا ، فارجعْ إلينا . وكل هذا منهم مُمَاكَرةٌ وخديعة . فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت في قلبه وطمع في إيمانهم ، وخاف الله إنْ هو لم يظهر لهم ، فألهمه الله التوقف والدعاء ، فقال : اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأْذن لي في البروز إليهم ، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم ، فما استتم قوله حتى حُصبوا بالنار من فوقهم ، فاحترقوا أجمعين ، قال : وبلغ آجب الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء ، واحتال ثانياً في أمر إلياس ، وقيض له فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي ، فأقبلوا ، أي : حتى توقَّلوا ، أي : صعدوا قلل تلك الجبال متفرقين ، وجعلوا ينادون يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته ، إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا وإن أولئك فرقة نافقوا فصاروا إليك ليكيدوا بك في غير رأينا ، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم ، فالآن قد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم وانتقم لنا ولك منهم ، فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى فأمطر عليهم النار ، فاحترقوا عن آخرهم ، وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه , فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانياً ازداد غضباً على غضب ، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه ، إلا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه ، فلم يمكنه فوجه نحو إلياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل معه ، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءاً ، وإنما أظهر له لما اطلع عليه من إيمانه ، وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مغضياً عنه لما هو عليه من الكفاية والأمانة وسداد الرأي . فلما وجهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه ، وأوعز إلى الفئة - دون الكاتب - أن يوثقوا إلياس ويأتوا به إن أراد التخلف عنهم ، وإن جاء مع الكاتب واثقاً به لم يروعوه ، ثم أظهر مع الكاتب الإنابة وقال له : قد آن لي أن أتوب وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني ، وقد عرفت أن ذلك بدعوة إلياس ، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته ، فانطلق إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا ، وأنه لا يصلحنا في توبتنا ، وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا إلا أن يكون إلياس بين أظهرنا ، يأمرنا وينهانا ، ويخبرنا بما يرضي ربنا ، وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام ، وقال له : أخبر إلياس أنا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد ، وأرجينا أمرها حتى ينزل إلياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها ، وكان ذلك مكراً من الملك . فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس ثم ناداه ، فعرف إلياس صوته . فتاقت نفسه إليه وكان مشتاقاً إلى لقائه فأوحى الله تعالى إليه أن أبرز إلى أخيك الصالح فالقه ، وجدد العهد به فبرز إليه وسلم عليه وصافحه ، وقال له : ما الخبر ؟ فقال المؤمن : إنه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه ، ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له : وإني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني فمرني بما شئت أفعله ، إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته ، وإن شئتَ جاهدته معك وإن شئت ترسلني إليه بما تحب فأبلغه رسالتك ، وإن شئتَ دعوت ربك يجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً ، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن كل شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك ، وإن آجب إن أخبرته رسلُهُ أنك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك ، فلم يأمن أن يقتله ، فانطلق معه فإني سأشغل عنكما آجب فأضاعف على ابنه البلاء ، حتى لا يكون له همّ غيره ، ثم أميته على شرِّ حال ، فإذا مات فارجع عنه ، قال : فانطلق معهم حتى قدموا على آجب ، فلما قدموا شدّد الله تعالى الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه ، فشغل الله تعالى بذلك آجب وأصحابه عن إلياس ، فرجع إلياس سالماً إلى مكانه ، فلما مات ابن آجب وفرغوا من أمره وقلّ جزعه انتبه لإلياس ، وسأل عنه الكاتب الذي جاء به ، فقال : ليس لي به علم شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ، ولم أكن أحسبك إلا قد استوثقت منه ، فانصرف عنه آجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه . فلما طال الأمر على إلياس ملَّ السكون في الجبال واشتاق إلى الناس نزل من الجبل فانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل ، وهي أم يونس بن متى ذي النون استخفى عندها ستة أشهر ويونُس بن متى يومئذ مولود يرضع ، فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ، ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال ، فأحب اللحوق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه ، فجزعت أم يونس لفراقه فأوحشها فقده ، ثم لم تلبث إلا يسيراً حتى مات ابنها يونس حين فطمته ، فعظمت مصيبتها فخرجت في طلب إلياس ، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ، فوجدته وقالت له : إني قد فجعت بعدك لموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي ، وليس لي ولد غيره ، فارحمني وادع لي ربك جل جلاله ليحيي لي ابني وإني قد تركته مسجَّى لم أدفنه ، وقد أخفيت مكانه ، فقال لها إلياس : ليس هذا مما أُمرتُ به ، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي ، فجزعت المرأة وتضرعت فأعطف الله تعالى قلب إلياس لها . فقال لها : متى مات ابنك ؟ قالت : منذ سبعة أيام فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منزلها ، فوجد ابنها ميتاً له أربعة عشر يوماً ، فتوضأ وصلى ودعا ، فأحيا الله تعالى يونس بن متى . فلما عاش وجلس وثب إلياس وتركه وعاد إلى موضعه . فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعاً فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود : يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه ؟ ألستَ أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي ؟ فسلني أعطك ، فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم ، قال : تميتني وتلحقني بآبائي فإني مللتُ بني إسرائيل وملوني ، فأوحى الله تعالى إليه : يا إلياس ما هذا باليوم الذي أُعري عنك الأرض وأهلها ، وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك ، وإن كنتم قليلاً ولكن سلني فأعطك ، فقال إلياس : إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل . قال الله تعالى : فأيّ شيء تريد أن أعطيك ؟ قال تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة إلا بدعوتي ، ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي ، فإنه لا يذلهم إلا ذلك ، قال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك ، وإن كانوا ظالمين ، قال : فست سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ، قال : فخمس سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ولكني أعطيك ثأرك ثلاث سنين ، أجعل خزائن المطر بيدك ، قال إلياس فبأي شيء أعيش ؟ قال : أسخر لك جيشاً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط ، قال إلياس : قد رضيت ، قال : فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهداً شديداً ، وإلياس على حالته مستخفٍ من قومه ، يوضع له الرزق حيث ما كان ، وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في بيت قالوا : لقد دخل إلياس هذا المكان ، وطلبوه ولقي من أهل ذلك المنزل شراً . قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط ، فمرّ إلياس بعجوز فقال لها : هل عندك طعام ؟ قالت : نعم شيء من دقيق وزيت قليل . قال : فدعا ربه ودعا فيه بالبركة ومسّه حتى ملأ جرابها دقيقاً ، وملأ خوابيها زيتاً ، فلما رأوا ذلك عندها قالوا : من أين لك هذا ؟ قالت : مرّ بي رجل حاله كذا وكذا فوصفته بوصفه فعرفوه ، فقالوا ذلك إلياس ، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ، ثم إنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب ، به ضَرٌّ فآوته وأخفت أمره ، فدعا لولدها فعوفي من الضر الذي كان به ، واتبع اليسعُ إلياس فآمن به وصدقه ولزمه . وكان يذهب حيث ما ذهب ، وكان إلياس قد أسنَّ فكبر واليسع شابٌ ، ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس : أنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر ، فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال : يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء ، لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك ، فقيل له : نعم ، جاء إلياس إلى بني إسرائيل ، فقال : إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً ، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم ، وإنكم على باطل فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم ، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل ، فنزعتم ودعوت الله تعالى ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء ، قالوا : أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها ، فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ، ثم قالوا لإِلياس : إنا قد هلكنا فادع الله تعالى لنا ، فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج ، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون ، فأقبلت نحوهم وطبّقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم ، وأحييت بلادهم ، فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد ، ولم ينزعوا عن كفرهم ، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه ، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عزّ وجلّ أن يريحه منهم ، فقيل له فيما يزعمون : انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه ، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أُمر أقبل فرس من نار ، وقيل : لونه كلون النار ، حتى وقف بين يديه ، فوثب عليه إلياس ، فانطلق به الفرس فناداه اليسع : يا إلياس ، ما تأمرني ؟ فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى ، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، فكان ذلك آخر العهد به ، فرفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً ، وسلّط الله تعالى على آجب الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم ، فقتل آجب وامرأته أزبيل في بستان مزدكي ، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما ، ونبّأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ، وأوحى الله تعالى إليه وأيده ، فآمنت به بنو إسرائيل فكانوا يعظّمونه ، وحُكْمُ الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع . وروى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، قال : الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ، ويوافيان الموسم في كل عام . وقيل : إن إلياس موكل بالفيافي ، والخضر موكل بالبحار ، فذلك قوله تعالى : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } .