Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 29-31)
Tafsir: Maʿālim at-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عزّ وجل : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءَانَ } ، الآية ، قال المفسرون : لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه . فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف ، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ومسعود ، وحَبيب بنو عمرو بن عمير ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإِسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة : إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر : ما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله ما أكلمك كلمة أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله فيما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليَّ سري ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائطٍ لعتبةَ وشيبة ابني ربيعة ، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف ، ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح ، فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك ؟ . فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري ؟ ، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك ، لك العُتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " . فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له : عدَّاس ، فقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل ذلك عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ قال : أنا نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَمِنْ قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ، فأكبَّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ، فلما جاءهم عداس قالا له : ويلك يا عداس مالك تُقبّل هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي ، فقالا : ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمرّ به نفر من جن أهل نصيبين اليمن ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا ، فقص الله خبرهم عليه ، فقال : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدينَ إلى سوق عكاظ ، وقد حِيلَ بين الشياطين وبين خبر السماء ، فأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة ، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَاناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } [ الجن : 2 ] ، فأنزل الله على نبيه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } [ الجن : 1 ] وإنما أوحي إليه قول الجن . ورُوي أنهم لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر ، وكان أول بعثٍ بعثَ ركباً من أهل نصيبين ، وهم أشراف الجن وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة . وقال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً ، وهم عامة جنود إبليس ، فلما رجعوا قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً } . وقال جماعة : بل أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف إليه نفراً من الجن من نينوي ، وجمعهم له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أُمرتُ أن أقرأ على الجن الليلة ، فأيّكم يتبعني ؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فاتّبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنّا على مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له : شعب الحجون ، وخطّ لي خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ، وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال النسور تهوي ، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق إليّ وقال : أنمتَ ؟ فقلت : لا والله يا رسول الله ، وقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : اجلسوا ، قال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قلت : نعم يا رسول الله رأيتُ رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، قال : أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة . قال : فقالوا : يا رسول الله تقذرها الناس ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بالعظم والروث . قال فقلت : يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أُكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، قال فقلت : يا رسول الله سمعتُ لغطاً شديداً ؟ فقال : إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق ، قال : ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني ، فقال : هل معك ماء ؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببتُ على يده فتوضأ وقال : « تمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهورٌ » " . قال قتادة : ذُكر لنا أن ابن مسعود لمّا قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزُّطِّ فأفزعوه حين رآهم ، فقال : أظهروا ، فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذي صُرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد الجن . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، حدثنا محمد ابن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله ليلة الجن ؟ قال فقال علقمة : أنا سألتُ ابن مسعود فقلتُ : هل شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل ، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأتُ عليهم القرآن . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . قال : وسألوه الزاد ، فقال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن » " . ورواه مسلم عن علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بهذا الإِسناد إلى قوله : " وأثار نيرانهم " . قال الشعبي : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله . قوله عزّ وجلّ : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءَانَ } ، اختلفوا في عدد ذلك النفر ، فقال ابن عباس : كانوا سبعة من جن نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم . وقال آخرون : كانوا تسعة . وروى عاصم عن زر بن حبيش : كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن . { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } ، قالوا : صه . وروي في الحديث : " أن الجن ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء ، وصنف حيّات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون " فلما حضروه قال بعضُهم لبعض : أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته ، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء ، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم . { فلمّا قُضى } ، فرغ من تلاوته ، { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قََوْمِهِم } ، انصرفوا إليهم ، { مُّنذِرِينَ } ، مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِىۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، قال عطاء : كان دينهم اليهودية ، لذلك قالوا : إنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى . { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } " من " صلة ، أي ذنوبكم ، { وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلاً من الجن ، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن والإنس جميعاً . قال مقاتل : لم يبعث قبله نبي إلى الإنس والجن جميعاً . واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن ، فقال قوم : ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار ، وتأوّلوا قوله : { يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه . وحكى سفيان عن ليث قال : الجن ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا تراباً ، وهذا مثل البهائم . وعن أبي الزناد قال : إذا قضي بين الناس قيل لمؤمني الجن عودوا تراباً ، فيعودون تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر : { يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] . وقال الآخرون : يكون لهم الثواب في الإِحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس ، وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى . وقال جرير عن الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . وذكر النقاش في " تفسيره " حديث أنهم يدخلون الجنة . فقيل : هل يصيبون من نعيمها ؟ قال : يلهمهم الله تسبيحه وذكره ، فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة . وقال أرطأة بن المنذر : سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن ثواب ؟ قال : نعم ، وقرأ : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 74 ] ، قال فالإنسيات للإنس والجنيات للجن . وقال عمر بن عبد العزيز : إن مؤمني الجن حول الجنة ، في ربض ورحاب ، وليسوا فيها .