Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 26-29)

Tafsir: Maʿālim at-tanzīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَٰهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَـٰهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } ، على دينه ، { رَأْفَةً } ، وهي أشد الرقة ، { وَرَحْمَةً } ، كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ، [ الفتح : 29 ] , { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } ، من قبل أنفسهم وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابُه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قِبَل أنفسهم ، { مَا كَتَبْنَاهَا } ، أي ما فرضناها ، { عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَٰنِ اللهِ } ، يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانيةُ ما حملوا أنفسهم من المشاقِّ في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ، { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } ، أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى , فتهودوا وتنصروا , ودخلوا في دين ملوكهم , وتركوا الترهُّب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أجْرَهُمْ } ، وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونْ } ، وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام . أخبرنا أبو سعيد الشريحي , أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي , أنبأني عبد الله بن حامد , أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني , حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ , حدثنا الصعق بن حَزْن ، عن عقيل الجعدي , عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة , " عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة , نجا منها ثلاث وهلك سائرهن , فرقة آزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم , وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا ، وهم الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَـٰهَا عليهم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " . وروي " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي , فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم , فَهُزِم أهل الإيمان ثلاث مرات , فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له ، فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم , فتفرقوا في غِيرانِ الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } الآية ، { فَـآتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ } يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع " . وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة رهبانية , ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدّلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتهم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا , فقالت طائفة : ابنوا لنا اسطوانة ، ثم ارفعونا إليها , ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نَرِدُ عليكم ولا نمرّ بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غيّر الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله عزّ وجلّ : { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } أي ابتدعها هؤلاء الصالحون { فَمَا رَعُوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } ، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، { فَـآتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } ، يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله , { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون } , هم الذين جاؤوا من بعدهم ، قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل حتى انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره , وآمنوا به فقال الله عزّ وجلّ : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ، الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم { وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ } ، محمد صلى الله عليه وسلم ، { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن } ، نصيبين ، { مِن رَحْمَتِهِ } ، يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله " ورحمة " ثم ابتدأ : ورهبانية ابتدعوها , وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها يعني : الطاعة والملة { حَقَّ رِعَايَتِهَا } كناية عن غير مذكور , { فَـآتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أجْرهُمْ } ، وهم أهل الرأفة والرحمة { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَٰسِقٌون } ، وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد . معنى قوله : { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَٰنِ ٱلله } على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب . قوله عزّ وجلّ : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } بموسى وعيسى { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِن رَحْمَتِهِ } . وروينا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } ، قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أيْدِيهِمْ } [ التحريم : 8 ] , ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله عزّ وجلّ : { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ، وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وزادهم النور والمغفرة . ثم قال : { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } ، قال قتادة : حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم ، فأنزل الله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } . قال مجاهد : قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا به ، فأنزل الله تعالى : { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي ليعلم و " لا " صلة ، { أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله } ، أي ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله ، { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلعَظِيم } , أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف , حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا الليث عن نافع , عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس , وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً , فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين ، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء ؟ قال الله تعالى : " هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ " قالوا : لا قال : " فإنه فضلي أعطيته من شئت " . أخبرنا عبد الواحد المليحي , أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي , أخبرنا محمد بن يوسف , حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثني محمد بن العلاء , حدثنا أبو أسامة عن يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار ، فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا , وما عملناه باطل ، فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم , وخذوا أجركم كاملاً ، فأبوا وتركوا , واستأجر قوماً آخرين بعدهم ، فقال : أكملوا بقية يومكم هذا ، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر , فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جلعت لنا فيه ، فقال : أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير ، فأبوا فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " .