Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 191-192)
Tafsir: al-Muḥarrar al-waǧīz fī tafsīr al-kitāb al-ʿazīz
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ الذين } في موضع خفض صفة { لأولي الألباب } [ آل عمران : 190 ] ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله ، وأن يحصر القلب اللسان ، وذلك من أعظم وجوه العبادات ، والأحاديث في ذلك كثيرة ، وابن آدم منتقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه ، وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك ، وذهبت جماعة من المفسرين إلى أن قوله : { الذين يذكرون الله } ، إنما هو عبارة عن الصلاة ، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، قال بعضهم وهي كقوله تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله } [ النساء : 103 ] ، هذا تأويل من تأول هنالك قضيتم بمعنى أديتم ، لأن بعض الناس يقول قضيتم هنالك بمعنى فرغتم منها ، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائماً ، فإن لم يستطيع فقاعداً ، ظاهر المدونة متربعاً ، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين السجدتين ، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير ، هذا مذهب المدونة ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره ، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ، ثم على الأيسر ، وفي كتاب ابن المواز ، يصلي على جنبه الأيمن ، وإلا فعلى الأيسر ، وإلا فعلى الظهر ، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده ، وإلا فعلى ظهره ، وإلا فعلى الأيسر ، وحسن عطف قوله { وعلى جنوبهم } ، على قوله : { قياماً وقعوداً } لأنه في معنى مضطجعين ، ثم عطف على هذه العبادة التي ذكر الله باللسان أو الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى عظيمة ، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته ، والعبر التي بث : [ المتقارب ] @ وفي كل شيءٍ له آيةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ واحدُ @@ ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره ، وهذا هو قصد الآية : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } ، وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله تعالى كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، وإنما التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات ، وفي مخاوف الآخرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كتفكر " ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الفكرة مرآة المؤمن ، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته ، وقال ابن عباس وأبو الدرداء : فكرة ساعة خير من قيام ليلة ، وقال سري السقطي : فكرة ساعة خير من عبادة سنة ، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة ، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف ، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكراً حتى طلع الفجر ، فقال له ما هذا يا أبا سليمان ؟ فقال : إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله جل وتعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] ، ففكرت في حالي ، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبحت . قال القاضي : فهذه نهاية الخوف ، وخير الأمور أوسطها ، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج ، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا ، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال : كنت بائتاً في مسجد الأقدام بمصر ، فصليت العشاء فرأيت رجلاً قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح ، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا ، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس ، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء ، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دونت منه سمعته ينشد : [ المنسرح ] @ مُنْسَحِقُ الجسْمِ غائِبٌ حاضِرْ مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ مُنْقَبِضٌ في الغُيوبِ مُنْبَسِطٌ كذاكَ مَنْ كَانَ عارفاً ذَاكِرا يَبيتُ في لَيْلهِ أَخَا فِكَرٍ فهوَ مَدَى اللَّيلِ نَائِمٌ سَاهِرْ @@ قال فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة وانصرفت عنه ، وقوله تعالى : { ربنا } معناه يقولون ربنا على النداء ، ما خلقت هذا باطلاً ، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد ، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك ، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم : { سبحانك } : أي تنزيهاً لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم : { فقنا عذاب النار } إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون . وقولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } ، استجارة واستعاذة ، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها ، والخزي : الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء ، خزي الرجل يخزى خزياً إذا افتضح ، وخزاية إذا استحيى ، الفعل واحد والمصدر مختلف ، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم : هذه إشارة إلى من يخلد في النار ، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي ، وقال جابر بن عبد الله وغيره : كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها ، وإن في دون ذلك لخزياً . قال القاضي : أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره ، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى : { وما للظالمين من أنصار } هو من قول الداعين ، وبذلك يتسق وصف الآية .