Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 15-21)

Tafsir: Zād al-masīr fī ʿilm at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { لقد كان لِسَبَأٍ في مساكنهم آيةٌ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : { في مَسَاكِنِهم } . وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم { مَسْكَنِهم } بفتح الكاف من غير ألف . وقرأ الكسائي ، وخلف : { مَسْكِنِهم } بكسر الكاف ، وهي لغة . قال المفسرون : المراد بسبأٍ هاهنا : القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يَشْجُب ابن يَعْرُب بن قحطان ؛ وقد ذكرنا في سورة [ النمل : 22 ] الخلاف في هذا ، وأن قوماً يقولون : هو اسم بلد ، وليس باسم رجل . وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ : { لِسَبأَ } بالفتح وترك الصَّرْف ، جعله اسماً للقبيلة ، ومن صرف وكسر ونوَّن ، جعله اسماً للحيِّ واسماً لرجل ؛ وكلٌّ جائزٌ حسن . و { آيةٌ } رفعٌ ، اسم « كان » ، و { جَنَّتان } رفع على نوعين ، أحدهما : أنه بدل من « آية » . والثاني : على إِضمار ، كأنَّه لمَّا قيل : « آيةٌ » ، قيل : الآية جنَتَّان . الإِشارة إِلى قصتهم . ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت [ قومَها ] جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم ، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها ، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه ، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا ، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها ، فأبت ، فقالوا : لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ ، فقالت : إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول ، فقالوا : فانَّا نُطيعك ، فجاءت إِلى واديهم - وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام - فأمرتْ به ، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة ، وحبستْ الماء من وراء السد ، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم ، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة ، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذِكره [ النمل : 29ـ 44 ] ، وبقُوا بعدها على حالهم . وقيل : إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها ، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون ، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه ، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله ، فأخصبت أرضُهم ، وكَثُرت فواكههم ، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها ، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه ، ولم يكن [ يُرى ] في بلدهم حيَّة ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل ، فيموت القمل لطيب هوائها . وقيل لهم : { كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربِّكم واشكُروا له بلدةٌ طيِّبةٌ } أي : هذه بلدة طيِّبة ، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة ، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي { وربٌّ غفورٌ } أي : واللّهُ ربٌّ غفور ، وكانت ثلاث عشرة قرية ، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً ، فكذَّبوا الرُّسل ، ولم يُقِرُّوا بنِعم الله ، فذلك قوله : { فأَعْرضْوا } أي : عن الحقّ ، وكذَّبوا أنبياءهم { فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ } وفيه أربعة أقوال . أحدها : أن العَرِم : الشديد ، رواه عليّ بن أبي طالب عن ابن عباس . وقال ابن الأعرابي : العَرِم : السَّيل الذي لا يُطاق . والثاني : [ أنه ] اسم الوادي ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والضحاك ، ومقاتل . والثالث : أنه المُسَنَّاة ، قاله مجاهد ، وأبو ميسرة ، والفراء ، وابن قتيبة . وقال أبو عبيدة : العَرِم : جمع عَرِمَة ، وهي : السِّكْر والمُسَنَّاة . والرابع : أن العَرِم : الجُرَذ الذي نقب عليهم السِّكْر ، حكاه الزجاج . وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان . أحدهما : أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً ، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقال قتادة والضحاك في آخرين : بعث اللّهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد - والخُلْد : الفأر الأعمى - فنقبه من أسفله ، فأغرق اللّهُ [ به ] جنَّاتهم ، وخرَّب به أرضهم . والثاني : أنه أرسل عليهم ماءً أحمر ، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي ، ولم يكن الماء أحمر من السد ، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم ، قاله مجاهد . قوله تعالى : { وبدَّلْناهم بجنَّتيهم } يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه { جنَّتين ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { أُكُلٍ } بالتنوين . وقرأ أبو عمرو : { أُكُلِ } بالإِضافة . وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع ، وثقَّلها الباقون . أمَّا الأُكُل ، فهو الثمر . وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الأراك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور ؛ فعلى هذا ، أُكُلُه : ثمره ؛ ويسمَّى ثمر الأراك : البَرِير . والثاني : أنه كل شجرة ذات شوك ، قاله أبو عبيدة . والثالث : أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله ، قاله المبرِّد والزجّاج . فعلى هذا القول ، الخَمْط : اسم للمأكول ، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل ؛ وعلى ما قبله ، هو اسم شجرة ، والأُكُل ثمرها ، فيحسُن قراءة من أضاف . فأمَّا الأَثْل ، ففيه ثلاثة أقوال . أحدها : أنه الطَّرْفاء ، قاله ابن عباس . والثاني : أنه السَّمُر ، حكاه ابن جرير . والثالث : أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه . قوله تعالى : { وشيءٍ من سِدْرٍ قليلٍ } فيه تقديم ، وتقديره : وشيء قليل من سِدْر ، وهو شجر النّبق . والمعنى أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر . قال قتادة : بينا شجرُهم من خير الشجر ، إِذ صيَّره اللّهُ من شرِّ الشجر . قوله تعالى : { ذلكَ جَزَيناهم } أي : ذلك التبديل جزيناهم { بما كفروا وهل نُجازي إِلا الكَفُورَ } . فان قيل : قد يُجازى المؤمنُ والكافر ، فما معنى هذا التخصيص ؟ فعنه جوابان . أحدهما : أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى ، فيقال في أفصح اللغة : جزى اللّهُ المؤمن ، ولا يقال : جازاه ، لأن « جازاه » بمعنى كافأه ، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها ، مكافأة له ، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه ، هذا قول الفراء . والثاني : أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه ، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب ، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته ، هذا قول الزجاج . وقال طاووس : الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له ، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ . قوله تعالى : { وجَعَلْنا بينهم } هذا معطوف على قوله تعالى : { لقد كان لسَبَأٍ } ؛ والمعنى : كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم { وبين القرى التي باركنا فيها } وهي : قرى الشام ؛ وقد سبق بيان معنى البَرَكَة فيها [ الانبياء : 71 ] ، هذا قول الجمهور . وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل : قد عرفنا نعمة الله علينا ، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة ، فردَّ عليهم النِّعمة ، وجعل لهم قُرىً ظاهرة ، فعادوا إِلى الفساد وقالوا : باعد بين أسفارنا ، فَمُزِّقوا . قوله تعالى : { قُرىً ظاهرةً } أي : متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض { وقدَّرْنا فيها السَّير } فيه قولان . أحدهما : أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية ، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية ، قاله الحسن ، وقتادة . والثاني : أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً ، قاله ابن قتيبة . قوله تعالى : { سِيروا فيها } والمعنى : وقلنا لهم : سيروا فيها { لياليَ وأيَّاماً } أي : ليلاً ونهاراً { آمنين } من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب ، وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان ، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى { فقالوا ربَّنا بَعِّدْ بين أسفارنا } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { بَعِّد } بتشديد العين وكسرها . وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة : { باعِدْ } بألف وكسر العين . وعن ابن عباس كالقراءتين . قال ابن عباس : إِنهم قالوا : لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي ، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها . قال أبو سليمان الدمشقي : لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله ، أنكروا أن يكون ماهم فيه نعمة ، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم . وقرأ يعقوب : [ { ربُّنا } برفع الباء ] { باعَدَ } بفتح العين والدال ، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإِخبار للناس بما أنزله الله عز وجل بهم . وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو عبد الرحمن [ السلمي ] ، وأبو رجاء ، وابن السميفع ، وابن أبي عبلة : { بَعُدَ } برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف ، على طريق الشِّكاية إِلى الله عز وجل . وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو عمران الجوني : { بُوعِدَ } برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين . قوله تعالى : { وظَلَمُوا أنفُسَهم } فيه قولان . أحدهما : بالكفر وتكذيب الرُّسل . والثاني : بقولهم { بَعِّدْ بين أسفارنا } . { فجعلْناهم أحاديث } لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم { ومزَّقْناهم كلَّ مُمَزَّق } أي : فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق ، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد ، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ { إِنَّ في ذلك } أي : فيما فُعِل بهم { لآياتٍ } أي : لَعِبَراً { لكلِّ صبَّار } عن معاصي الله { شَكورٍ } لِنِعَمه . قوله تعالى : { ولقد صدَّق عليهم إِبليسُ ظنَّه } { عليهم } بمعنى « فيهم » ، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم ، فوجدهم كذلك . وإِنما قال : { ولأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم } [ النساء : 119 ] بالظنِّ ، لا بالعِلْم ، فمن قرأ : { صَدَّق } بتشديد الدال ، فالمعنى : حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم ؛ ومن قرأ بالتخفيف ، فالمعنى : صَدَق عليهم في ظنِّه بهم . وفي المشار إِليهم قولان . أحدهما : أنهم أهل سبأ . والثاني : سائر المطيعين لإِبليس . قوله تعالى : { وما كان له عليهم من سُلطان } قد شرحناه في قوله : { ليس لكَ عليهم سُلطان } [ الحجر : 42 ] . قال الحسن : واللّهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء ، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور . قوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي : ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين . وقرأ الزهري : { إِلاَّ لِيُعْلَمَ } بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله . وقرأ ابن يعمر : { لِيَعْلَمَ } بفتح الياء . وفي المراد بعِلْمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناها في أول [ العنكبوت : 3 ] . { وربُّكَ على كل شيء } من الشكِّ والإِيمان { حفيظ } ، وقال ابن قتيبة : والحفيظ بمعنى الحافظ . قال الخطّابي : وهو فَعِيل بمعنى فاعل ، كالقدير ، والعليم ، فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها ، ويحفظ عباده من المَهالك ، ويحفظ عليهم أعمالهم ، ويعلم نيَّاتِهم ، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب ، ويحرسُهم من مكايد الشيطان .