Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 17-19)

Tafsir: Madārik at-tanzīl wa-ḥaqāʾiq at-taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ مّثْلُهُمْ كَمِثْلِِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال . والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير . يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير . وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً ، وكذلك قوله { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع « الذي » موضع الذين كقوله { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد . ومعنى استوقد أوقد ، ووقود ووقود النار سطوعها ، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً . { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء . وجواب فلما { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل « إذا » . و « ما » موصولة و « حوله » نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير : فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله . وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى . والنور ضوء النار وضوء كل نير ، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به . والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب . ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله « فلما أضاءت » لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً ، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ } والظلمة عرض ينافي النور . وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه « وتركهم في ظلمات » أصله « هم في ظلمات » ثم دخل « ترك » فنصب الجزأين والمفعول الساقط من « لا يبصرون » من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً . وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة ، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي . وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } أي هم صم ، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أنفت مشارعهم . وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم : هم ليوث للشجعان وبحور للأَسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء ، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون ، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء . وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون . { أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح . وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق . والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف « مثل » لدلالة العطف عليه « وذوي » لدلالة « يجعلون » عليه . والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا ، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَلاَ ٱلْمُسِيء } [ غافر : 58 ] ، وقول امرىء القيس : @ كأن قلوب الطير رطباً ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي @@ بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة . والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به . بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [ الجمعة : 5 ] الآية . فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب . وكقوله : { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاء } [ الكهف : 45 ] ، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة ، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا . فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر ، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ . وعطف أحد التمثيلين على الآخر بـ « أو » لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض ، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك « جالس الحسن أو ابن سيرين » تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الدهر : 24 ] ، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك . والصيب : المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً . وتنكير « صيب » لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول ، والسماء هذه المظلة . وعن الحسن أنها موج مكفوف . والفائدة في ذكر السماء . والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأن كل أفق من آفاقها سماء ، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه ، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، وقيل : إنه يأخذ من البحر ويرتفع . « ظلمات » مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء « فيه ظلمات » ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه . والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه ، أو ملك يسوق السحاب . والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع ، والضمير في « فيه » يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات ، فإن أريد به السحاب فظلماته إذا كان أسحم مطبقاً ، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل . وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل . وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر ، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة . ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل ، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما . ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف . { يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِم } الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله : { أو هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه . ولا محل لـ « يجعلون » لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد ؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم . ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقال : يكاد البرق يخطف أبصارهم . وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله : { فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل . وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسدّ به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة . { مّنَ ٱلصَّوٰعِقِ } متعلق بـ « يجعلون » أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم . والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار . قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلاَّ أتت عليه ، إلاَّ أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي : مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } مفعول له ، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة { وَٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكـٰفِرِينَ } يعني : أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها .