Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 101-108)
Tafsir: Madārik at-tanzīl wa-ḥaqāʾiq at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { مّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } عطف على خبر المبتدأ الذي هو { مِمَّنْ حَوْلَكُم } والمبتدأ { مُنَـٰفِقُونَ } ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت « ومن أهل المدينة قوم » { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف ، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ ، أو صفة لـ { مُنَـٰفِقُونَ } فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ، ودل على مهارتهم فيه بقوله { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم . ثم قال { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } هما القتل وعذاب القبر ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي عذاب النار . { وَءَاخَرُونَ } أي قوم آخرون سوى المذكورين { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة ، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم ، ففذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم فقال « : " وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم » " فنزلت ، فأطلقهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال : " « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً » " فنزل { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } { خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً } خروجاً إلى الجهاد { وَءاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه ، أو التوبة والإثم وهو من قولهم « بعت الشاء شاة ودرهما » أي شاة بدرهم ، فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان ، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك « خلطت الماء واللبن » تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك « خلطت الماء باللبن » لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به . وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت « خلطت الماء باللبن واللبن بالماء » { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } كفارة لذنوبهم . وقيل : هي الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ } عن الذنوب وهو صفة لـ { صَدَقَة } والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتاء في { وَتُزَكِّيهِمْ } للخطاب لا محالة { بِهَا } بالصدقة والتزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخدها { إِنَّ صَلَوٰتَكَ } { صلاتك } كوفي غير أبي بكر . قيل : الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس { صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم . { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قيل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } إذا صحت { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ } ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليها { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } كثير قبول التوبة { ٱلرَّحِيمُ } يعفو الحوبة . { وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي فإن عملكم لا يخفى خيراً كان أو شراً على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم ، أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد رُوي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت . وقوله تعالى { فَسَيَرَى ٱللَّهُ } . وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ } ما يغيب عن الناس { وَٱلشَّهَـٰدَةِ } ما يشاهدونه { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تنبئة تذكير ومجازاة عليه { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } بغير همز : مدني وكوفي غير أبي بكر . { مرجئون } غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } إن أصروا ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله : { وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ } { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } برجائهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم ، وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجو لهم الرحمة . ورُوي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله . { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا } تقديره : ومنهم الذين اتخذوا . { ٱلَّذِينَ } بغير واو . مدني وشامي ، وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم . رُوي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال : " إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه " فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشي قاتل حمزة ومعن بن عدي وغيرهما : « انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه » ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام { ضِرَارًا } مفعول له وكذا ما بعد أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ } وإعداداً لأجل من { حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهو الراهب أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار { مِن قَبْلُ } متعلق بـ { حَارَبَ } أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق { وَلَيَحْلِفُنَّ } كاذبين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } في حلفهم { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } للصلاة { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } اللام للابتداء و { أُسِّسَ } نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء أو وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أيام وجوده . قيل : القياس فيه مذ ، لأنه لابتداء الغاية في الزمان ، و « من » لابتداء الغاية في المكان ، والجواب إن من عام في الزمان والمكان { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } مصلياً { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهّرِينَ } قيل : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء ، فإذا لأنصار جلوس فقال : " أمؤمنون أنتم ؟ " فسكت القوم . ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه السلام : " أترضون بالقضاء " قالوا : نعم . قال : " أتصبرون على البلاء ؟ " قالوا : نعم . قال : " أتشكرون في الرخاء ؟ " قالوا : نعم . قال عليه السلام : " مؤمنون أنتم ورب الكعبة " فجلس ثم قال : " يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ؟ " فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل : هو عام في التطهر عن النجاسات كلها . وقيل : هو التطهر من الذنوب بالتوبة . ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء ، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه .