Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 124-128)
Tafsir: Lubāb at-taʾwīl fī maʿānī at-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم ، فأبوا عليه وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق ، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بيوم الجمعة . فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة فقبلوها ، فبورك لهم فيها ق عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه ، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى " وفي رواية لمسلم " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أو من يدخل الجنة " وفي رواية أخرى له قال " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا ، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق " قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم : قال العلماء في معنى الحديث : نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم . وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم . وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال : القاضي عياض الظاهر أنهم فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه ، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبيناً ، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال : يعني القاضي عياضاً وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة ، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل . فقيل له دعهم . قال القاضي : ولو كان منصوصاً عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول : خالفوه فيه . قال الشيخ محيي الدين النووي : ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحاً ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه ، وغلطوا في إبداله . قال الإمام فخرالدين الرازي في قوله تعالى { على الذين اختلفوا فيه } يعني على نبيهم موسى ، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافاً على نبيهم في ذلك اليوم ، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا ، فمنهم من قال بالسبت ، ومنهم من لم يقل به ، لأن اليهود اتفقوا على ذلك . وزاد الواحدي على هذا فقال : وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم : معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال : هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء ، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى ، ابتدأ فيه بخلق الأشياء ، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت ، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل . فان قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت ، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد ، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم ، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى : إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيداً لنا ، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيداً ؟ قلت : يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيداً بهذا الوجه وهو أولى . ووجه آخر وهو أن الله عز وجل خلق فيه أشرف خلقه ، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب ، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم ولم يختاروا لأنفسهم شيئاً ، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم ، وقال بعض العلماء : بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت ، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء . وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة : الذي اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم ، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه ، وهم اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلُعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام ، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه ، فلم يصطد فيه شيئاً وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة . وقوله تعالى { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحققين بالثواب والمبطلين بالعقاب . قوله عز وجل { ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } يعني ادع إلى دين ربك يا محمد ، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة ، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم { وجادلهم بالتي هي أحسن } يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف . وقيل : إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام : القسم الأول هم العلماء والكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها ، فهؤلاء المشار إليهم بقوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } يعني ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم . القسم الثاني : هم أصحاب الفطرة السليمة ، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال ، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام ، وهم المشار إليهم بقوله : والموعظة الحسنة أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة . القسم الثالث : هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة ، وهؤلاء المشار إليهم بقوله : وجادلهم بالتي هي أحسن حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه . وقيل : المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، وقيل : المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة ، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير : هذا منسوخ بآية السيف { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله قوله سبحانه وتعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسليمن لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون ، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب ، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم ، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد . " ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره ، وبقروا بطنه وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار " فلما نظر رسول الله إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالاً للخيرات ، وصولاً للرحم ولو كان حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " فأنزل الله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه " " عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقال الأنصار : لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم . قال : فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } فقال رجل : لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفوا عن القوم إلا أربعة " " أخرجه الترمذي . وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية فقوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام ، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها ، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورىٰ : 40 ] أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق . يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل ، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته ، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض ، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } يعني ولئن عفوتم ، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو ، والصبر خيراً من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين . فصل اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا ، على قولين : أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك ، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال ، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، ونسخ هذا بقوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية ، القول الثاني : أنها أحكمت ، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري . قال بعضهم : الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة ، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم . قوله عز وجل { واصبر وما صبرك إلا بالله } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر ، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته { ولا تحزن عليهم } يعني على الكافرين ، وإعراضهم عنك وقيل : معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه { ولا تك في ضيق مما يمكرون } يعني : ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم . قرىء في ضيق بفتح الضاد وكسرها ، فقيل لغتان . وقال أبو عمر : والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة ، وقال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكين وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح ، وقال القتيبي : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى : ولا تك في أمر ضيق من مكرهم . قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا الكلام من المقلوب ، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى لا يكن الضيق حاصلاً فيك إلا أن الفائدة في قوله : ولا تك في ضيق ، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب ، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى { إن الله مع الذين اتقوا } أي اتقوا المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي { والذين هم محسنون } يعني بالعفو عن الجاني ، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة ، فكن من المتقين المحسنين ، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله . قال بعض المشايخ : كمال الطريق صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به ، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت : أوص . فقال : إنما الوصية في المال ولا مال لي ، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل . والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .