Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 13, Ayat: 19-24)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن عباس : نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل . وقيل : في عمر بن الخطاب وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل . قرأ زيد بن علي : أو من بالواو بدل الفاء ، إنما أنزل مبنياً للفاعل . ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر ، وذكر ما للمؤمن من الثواب ، وما للكافر من العقاب ، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي : ليسا مشتبهين ، لأنّ العالم بالشيء بصير به ، والجاهل به كالأعمى ، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم . والهمزة للاستفهام المراد به : إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب ، كبعد ما بين الزبد والماء ، والخبث والإبريز . ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة ، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول . والفاء للعطف ، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير : فأمن يعلم ، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل ، كما قدره الزمخشري في قوله : { أفلم يسيروا } [ غافر : 82 ] وقوله : { أفلا يعقلون } [ يس : 68 ] وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أولوا ، أو صفة له ، وصفة لمن من قوله : أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض ، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله : { والذين ينقضون عهد الله } [ الرعد : 25 ] ثم قال : { أولئك لهم اللعنة } [ الرعد : 25 ] والظاهر عموم العهد . وقيل : هو خاص ، فقال السدي : ما عهد إليهم في القرآن . وقال قتادة : في الأزل ، وهو قوله : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] وقال القفال : ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات . وقيل : في الكتب المتقدمة والقرآن . وقيل : المأخوذ على ألسنة الرسل . وقيل : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي : بما عهد الله . والظاهر أن قوله : ولا ينقضون الميثاق ، جملة توكيدية لقوله : يوفون بعهد الله ، لأن العهد هو الميثاق ، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه . وقال الزمخشري : وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . ولا ينقضون الميثاق ، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى ، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى . فأضاف العهد إلى المفعول ، وغاير بين الجملتين بكون الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى . إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين الله وبين العباد . وقال ابن عطية : بعهد الله اسم الجنس أي : بجميع عهود الله ، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده . ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض ، وتجنب جميع المعاصي . وقوله : ولا ينقضون الميثاق . أي : إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه . قال قتادة : وتقدم وعيد الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى . وقال ابن العربي : من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه ، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر ، ومرور الناس عليه ، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه ، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال ، ولم ير من أخرجه ، وهتف به هاتف : كيف رأيت ثمرة التوكل ؟ قال ابن العربي : هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام ، فاقتدوا به . وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه ، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال . وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا : إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار . ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل . وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : المراد به صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان به ، وقال نحوه ابن جبير . وقال قتادة : الرحم . وقيل : صلة الإيمان بالعمل . وقيل : صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، ومراعاة حق الجيران ، والرفقاء ، والأصحاب ، والخدم . وقيل : نصرة المؤمنين . وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به ، والأول محذوف تقديره : ما أمرهم الله به . وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي : بوصله . ويخشون ربهم أي : وعيده كله . ويخافون سوء الحساب أي : استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا . وقيل : يخشون ربهم يعظمونه . وقيل : في قطع الرحم . وقيل : في جميع المعاصي . وقيل : فيما أمرهم بوصله . وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ، وميثاق التكليف . وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي ، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله : الذين يوفون ، والذين يصلون ، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط ، فكذلك فيما أشبهه ، ولذلك قال النحويون : إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي ، وأن يراد به الاستقبال . فمن المراد به المضي في الصلة { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] ومن المراد به الاستقبال { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع ، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً ، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين ، وما عطف عليهما ، لأنّ حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي ، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم . وانتصب ابتغاء قيل : على أنه مصدر في موضع الحال ، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي : إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً ، لا لرجاء أن يقال : ما أصبره ، ولا مخافة أن يعاب بالجزع ، أو تشمت به الأعداء ، كما قال : @ وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع @@ ولأنّ الجزع لا طائل تحته ، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع . والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي : الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، كما تقول : خرج زيد لوجه كذا . ونبه على هاتين الخصلتين : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ هما عمود الدين ، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات ، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال . ونبه على حالتي الإنفاق ، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في « السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها » والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض ، لأنّ الإظهار فيها أفضل . وقال الزمخشري : مما رزقناهم من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ، ولا يسند إلى الله انتهى . وهذا على طريق المعتزلة . وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة . قال ابن عباس : صبروا على أمر الله . وقال أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم . وقال عطاء : صبروا على الرزايا والمصائب . وقال ابن زيد : صبروا على الطاعة وعن المعصية ، ويدرؤون يدفعون . قال ابن زيد : الشر بالخير . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفاً كقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وقال القتبي : إذا سفه عليهم حلموا ، وقال ابن جبير : يدفعون المنكر بالمعروف . وقال ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا ، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب ، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه . وقيل : يدفعون بلا إله إلا الله شركهم . وقيل : بالسلام غوائل الناس . وقيل : من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن . وقيل : بالصالح من العمل السيـىء ، ويؤيده ما روي في الحديث " أن معاذاً قال : أوصني يا رسول الله فقال : إذا عملت سيئة فاعمل إلى جنبها حسنة تمحها السر بالسرّ والعلانية بالعلانية " وقيل العذاب : بالصدقة . وقيل : إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا . وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز . وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر : @ يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحساناً @@ وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال : @ جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم @@ وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار ، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات . وعقبي الدار : عاقبة الدنيا ، وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها . وجنات عدن بدل من عقبى الدار ، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف . وقرأ الجمهور : جنات ، والنخعي : جنة بالإفراد . وروي عن ابن كثير ، وأبي عمرو : يدخلونها مبنياً للمفعول . وقرأ ابن أبي عبلة : ومن صلح بضم اللام ، والجمهور بفتحها ، وهو أفصح . وقرأ عيسى الثقفي : وذريتهم بالتوحيد ، والجمهور بالجمع . وقرأ ابن يعمر : فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل ، كما قال الراجز : @ نعـم الساعون في اليـوم الشطـر @@ وقرأ ابن وثاب : فنعم بفتح النون وسكون العين ، وتخفيف فعل لغة تميميمة ، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين ، وهي أكثر استعمالاً . قال مجاهد وغيره : ومن صلح أي عمل صالحاً وآمن انتهى . وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع ، إنما تنفع الأعمال الصالحة . وقيل : يحتمل قوله : ومن صلح أي : لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه . قال ابن عباس : هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة . والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول . وقيل : يجوز أن يكون مفعولاً معه أي : يدخلونها مع من صلح . ويشتمل قوله : من آبائهم ، أبوي كل واحد والده ووالدته ، وغلب الذكور على الإناث ، فكأنه قيل : ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم . والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي : بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم . قال أبو بكر الورّاق : هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة ، من عملها دخلها من أي باب شاء . قال الأصم : نحو هذا قال : من كل باب باب الصلاة ، وباب الزكاة ، وباب الصبر . ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر : أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ، ومنهم كروبيون ، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص ، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة ، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر ، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى . وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب ، ولا جاءت به الأنبياء ، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون . قال ابن عطية : وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى . وارتفع سلام على الابتداء ، وعليكم الخبر ، والجملة محكية بقول محذوف أي : يقولون سلام عليكم . والظاهر أن قوله تعالى : سلام عليكم تحية الملائكة لهم ، ويكون قوله تعالى : بما صبرتم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق ، أو تكون الباء بمعنى بدل أي : بدل صبركم أي : بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ، هذه الملاذ والنعم . وقيل : سلام جمع سلامة أي : إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا . وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق بسلام أي : يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم ، والدار : تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة . وقالت فرقة : المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم . قال ابن عطية : وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو : " أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له : هذا مكان مقعدك ، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك " انتهى . ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة ، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر ، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد ، ولا بغير ذلك .