Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 111-115)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يوم منصوب على الظرف ، وناصبه رحيم ، أو على المفعول به ، وناصبه اذكر . والظاهر عموم كل نفس ، فيجادل المؤمن والكافر ، وجداله بالكذب والجحد ، فيشهد عليهم الرسل والجوارح ، فحينئذ لا ينطقون . وقالت فرقة : الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي . قال ابن عطية : وهذا ليس بجدال ولا احتجاج ، إنما هو مجرد رغبة . واختار الزمخشري هذا القول ، وركب معه ما قبله فقال : كأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم : { هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] { ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] { ما كنا مشركين } ونحو ذلك . وقال : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها . وقال ابن عطية : أي كل ذي نفس ، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأثبت العلامة . ونفس الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول : نفس الشيء وعينه أي ذاته . وقال العسكري : الإنسان يسمي نفساً تقول العرب : ما جاءني إلا نفس واحدة أي : إنسان واحد . والنفس في الحقيقة لا تأتي ، لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى . ( فإن قلت ) : لِمَ لم يتعد الفعل إلى الضمير ، لا إلى لفظ النفس ؟ ( قلت ) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن ، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله ، ولا مضمره إلى مضمره المتصل ، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها ، ولذلك لا يجوز : ضربتها هند ولا هند ضربتها ، وإنما تقول : ضربت نفسها هند ، وضربت هند نفسها ، ما عملت أي : جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة ، وأنث الفعل في تأتي ، والضمير في تجادل وفي عن نفسها ، وفي توفي ، وفي عملت ، حملاً على معنى كل ، ولو روعي اللفظ لذكر . وقال الشاعر : @ جادت عليها كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم @@ فأنث على المعنى . وما ذكر عن ابن عباس : أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح ، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ، فتقول الرّوح : أنت كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله عز وجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما . وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزي ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكفرت ، فأصابها السنون والخوف . وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها . وهذا وإن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب . ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين . وعن حفصة : أنها المدينة . وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة . وقال الزمخشري : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى . ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، بل لا بد من وجودها لقوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون . كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن ، لأنه لا يقيم لخائف . والاطمئنان زيادة في الأمن ، فلا يزعجها خوف . يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها ، لا يتعذر منها جهة . وأنعم جمع نعمة ، كشدّة وأشد . وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم ، يقال : هذه أيام طعم ونعم انتهى . فيكون كبؤس وأبؤس . وقال الزمخشري : جمع نعمة على ترك التاء ، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع . وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن ، والصحة والكفاية . قال أبو عبد الله الرازي : أمنة إشارة إلى الأمن ، مطمئنة إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لأمزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا ، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } و [ إبراهيم : 37 ] قال : الأنعم جمع نعمة وجمع قلة ، ولم يأت بنعم الله وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب ، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه . قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى : @ إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت فكانت عليه لباسا @@ ونحو قوله تعالى : { هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] ومنه قول الشاعر : @ وقد لبست بعد الزبير مجاشع ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما @@ كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه . وقوله : فأذاقها الله ، نظير قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ونظير قول الشاعر : @ دونك مـا جنيتـه فـاحس وذق @@ وقال الزمخشري : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها ؟ ( قلت ) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا ، ونحوه قول كثير : @ غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً غلقت لضحكته رقاب المال @@ استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه ، صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله : @ ينازعني ردائي عبد عمرو رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ودونك فاعتجر منه بشطر @@ أراد بردائه سيفه ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لبس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى . وهو كلام حسن . ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف . وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله : { يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم } [ آل عمران : 106 ] وأما قوله : { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان . وقرأ الجمهور : والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع . وروي العباس عن أبي عمرو : والخوف بالنصب عطفاً على لباس . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله ولباس الخوف . وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع ، ولا يذكر لباس . والذي أقوله : إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة ، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف . وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع ، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة ، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً ، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله ، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم . والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلاً قرية ، أي : قصة أهل قرية ، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية ، ثم على المضاف المحذوف كقوله : { فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون } [ الأعراف : 4 ] والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم ، عائد على ما عاد عليه في قوله : بما كانوا يصنعون . وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الضمير في جاءهم لأهل تلك المدينة ، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره ، ويحتمل أن يكون لأهل مكة . وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر المثل قال : ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه ، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء ، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله . ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا : واشكروا نعمة الله . وفي البقرة جاء : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات رزقناكم } [ البقرة : 172 ] لم يذكر من كفر نعمته فقال : { واشكروا الله } [ البقرة : 172 ] ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم ، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه . وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله : كلوا مما رزقناكم . وقوله : إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة .