Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 116-119)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بين تعالى ما حرم ، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة ، والسائبة ، وفيما أحل كالميتة والدم ، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام . وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر ، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله : { أحلت لكم } [ الآية : 1 ] الآية وأجمعوا على أن المراد : { إلاّ ما يتلى عليكم } [ المائدة : 1 ] هو قوله : { حرمت عليكم } [ المائدة : 3 ] الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعاً ثانياً في أول مكة وآخرها ، وأول المدينة وآخرها . فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم ، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه . وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال ، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : للذي تصفه ألسنتكم . وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي : ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة ، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي . وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب ، أو على إضمار فعل أي : فتقولوا هذا حلال وهذا حرام . وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما ، كما تقول : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك . وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني . وقال الكسائي والزجاج : ما مصدرية ، وانتصب الكذب على المفعول به أي : لوصف ألسنتكم الكذب . ومعمول : ولا تقولوا ، الجملة من قوله : هذا حلال وهذا حرام ، والمعنى : ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً ، لا بحجة وبينة . وهذا معنى بديع ، جعل قولهم : كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم : وجهه يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وابن عبيد ، ونعيم بن ميسرة : بكسر الباء ، وخرج على أن يكون بدلاً من ما ، والمعنى الذي : تصفه ألسنتكم الكذب . وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية . قال الزمخشري : كأنه قيل : لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى : { بدم كذب } [ يوسف : 18 ] والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى . وهذا عندي لا يجوز ، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل ، ولا يوجد من كلامهم : يعجبني أنْ قمت السريع ، يريد قيامك السريع ، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي : من خروجك السريع . وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا ، من ما ولا ، من كي ، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت ، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب . وقرأ معاذ ، وابن أبي عبلة ، وبعض أهل الشام : الكذب بضم الثلاثة صفة للألسنة ، جمع كذوب . قال صاحب اللوامح : أو جمع كاذب أو كذاب انتهى . فيكون كشارف وشرف ، أو مثل كتاب وكتب ، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب . وقال ابن عطية : وقرأ مسلمة بن محارب الكذب بفتح الياء على أنه جمع كذاب ، ككتب في جمع كتاب . وقال صاحب اللوامح : وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب ، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر ، ومثله كتاب وكتب . وقال الزمخشري : بالنصب على الشتم ، أو بمعنى الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ذكره ابن جني انتهى . والخطاب على قول الجمهور بقوله : ولا تقولوا ، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية ، وعلى ذلك الزمخشري وابن عطية . وقال العسكري : الخطاب للمكلفين كلهم أي : لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالاً ولا حراماً ، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى . وهذا هو الظاهر ، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو : فكلوا إنما حرم عليكم ، فهو شامل لجميع المكلفين . واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ، قاله الزمخشري ، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة . قيل : ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم ، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا : { وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] والله أمرنا بها ، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب ، لأنّ هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه ، وهو الله تعالى . وقال الواحدي : لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله : لما تصف ألسنتكم الكذب ، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله ، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى . وهو على تقدير ما مصدرية ، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل ، فيبدل منها ما يقتضي التعليل ، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك : لا تقولوا ، لما أحل الله هذا حرام أي : لا تسموا الحلال حراماً ، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم . والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة ، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه ، لأنّ من شرع أمراً فكأنه قال لتابعه : هذا هو الحق ، وهذا مراد الله . ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح . والفلاح : الظفر بما يؤمل ، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر : @ والمسى والصبح لا فلاح معـه @@ وتارة في نجح المساعي كما قال عبيد بن الأبرص : @ أفلح بما شئت فقد يبـ ـلغ بالضعف وقد يخدع الأريب @@ وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم . وقال ابن عطية : عيشهم في الدنيا . وقال العسكري : يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى . وقال أبو البقاء : بقاؤهم متاع قليل . وقال الحوفي : متاع قليل ابتداء وخبر انتهى . ولا يصح إلا بتقدير الإضافة أي : متاعهم قليل . ولما بيّن تعالى ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام ، أتبعه بما كان خص به اليهود محالاً على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام ، وهذا يدل على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة ، إذ لا تصح الحوالة إلا بذلك . ويتعلق من قبل بقصصنا ، وهو الظاهر . وقيل : بحرمنا ، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك . والسوء هنا قال ابن عباس : الشرك قبل المعرفة بالله انتهى . ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره . والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } [ النحل : 110 ] فأغنى عن إعادته . وقال قوم : بجهالة تعمد . وقال ابن عطية : ليست هنا ضد العلم ، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه : أو أجهل أو يُجهل عليّ . وقول الشاعر : @ ألا لا يجهلنَّ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا @@ والتي هي ضد العلم ، تصحب هذه كثيراً ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر . وقلّ ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع انتهى . ملخصاً . وقال الزمخشري : بجهالة في موضع الحال أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم . وقال سفيان : جهالته أن يلتذ بهواه ، ولا يبالي بمعصية مولاه . وقال الضحاك : باغترار الحال عن المآل . وقال العسكري : ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة ، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله ، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة ، لأنّ أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة ، أو عند غلبة شهوة ، أو في جهالة شباب ، فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك . والإشارة بذلك إلى عمل السوء ، وأصلحوا : استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية . وقيل : أصلحوا آمنوا وأطاعوا ، والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي : من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح . وقيل : يعود على الجهالة . وقيل : على السوء على معنى المعصية .