Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 40-42)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما تقدّم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم ، ورد عليهم تعالى بقوله : { بلى } وذكر حقية وعده بذلك ، أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شيء أوجده . وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائة وأرضه ، وأن إيجاده ذلك لم يوقف على سبق مادّة ولا آلة ، فكما قدر على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادراً على الإعادة . وتقدم تفسير قوله تعالى : كن فيكون في البقرة ، فأغنى عن إعادته . والظاهر أن اللام في لشيء وفي له للتبليغ ، كقولك : قلت لزيد قم . وقال الزجاج : هي لام السبب أي : لأجل إيجاد شيء ، وكذلك له أي لأجله . قال ابن عطية : وما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد ، لا إلى الإرادة . وذلك أنّ الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال ، لا في إرادة ذلك ، ولا في الأمر به ، لأن ذينك قديمان . فمن أجل المراد عبر بإذا ، ونقول : وأما قوله لشيء فيحتمل وجهين : أحدهما : أنه لما كان وجوده حتماً جاز أن يسمى شيئاً وهو في حالة عدم . والثاني : أن قوله لشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها ، وأنّ ما كان منها موجوداً كان مراداً ، وقيل له : كن فكان ، فصار مثالاً لما يتأخر من الأمور بما تقدّم ، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئاً انتهى . وفيه بعض تلخيص . وقال : إذا أردناه منزل منزلة مراد ، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أنّ الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء ، فكأنه قال : إذا ظهر المراد فيه . وعلى هذا الوجه يخرج قوله : { فسيرى الله عملكم } [ التوبة : 105 ] وقوله : { ليعلم الذين آمنو منكم } ونحو هذا معناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه ، وقوله : أن نقول ، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا ، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في الصدر في أغلب أمرها ، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية . وكقوله تعالى : { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } [ الروم : 25 ] وغير ذلك انتهى . وقوله : ولكنْ أنّ مع الفعل يعني المضارع ، وقوله : في أغلب أمرها ليس بجيد ، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها . وأما قوله : وقد تجيء إلى آخره ، فلم يفهم ذلك من دلالة أنْ ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله ، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى . ونظيره { كان على كل شيء قديراً } [ الأحزاب : 27 ] فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي ، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً ، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن . والذين هاجروا قال قتادة : نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال داود بن أبي هند : في أبي جندل بن سهيل بن عمرو . وعن ابن عباس : في صهيب ، وبلال ، وخباب بن الأرت ، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة ، فبوأهم الله المدينة . وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله : والذين هاجروا . قال ابن عطية : لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية ، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى . والذين هاجروا ، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا ، فيشمل أولهم وآخرهم . وقرأ الجمهور : لنبوأنهم ، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي : تبوئة حسنة . وقيل : انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر ، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم ، فحسنة في معنى إحساناً . وقال أبو البقاء : حسنة مفعول ثان لنبوأنهم ، لأنّ معناه لنعطينهم ، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي : دار حسنة انتهى . وقال الحسن ، والشعبي ، وقتادة : داراً حسنة وهي المدينة . وقيل : التقدير منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب . وقال مجاهد : الرزق الحسن . وقال الضحاك : النصر على عدوهم . وقيل : ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات . وقيل : ما بقي لهم فيها من الثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف . وقيل : الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون . وقرأ عليّ ، وعبد الله ، ونعيم بن ميسرة ، والربيع بن خيثم : لنثوينهم بالثاء المثلثة ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه ، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة ، أو على نزع الخافض أي : في حسنة ، أي : دار حسنة ، أو منزلة حسنة . ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة ، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته . وفي الله دليل على إخلاص العمل لله ، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه . وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ ، خلافاً لثعلب . وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم ، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل . ولا يجوز زيداً لأضربن ، فلا يجوز زيداً لأضربنه . وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر ، ولأجر الآخرة أي : ولأجر الدار الآخرة أكبر ، أي : أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال : وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً . والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي : لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم . وقيل : يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم ، والذين صبروا على تقديرهم الذين ، أو أعني الذين صبروا على العذاب ، وعلى مفارقة الوطن ، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن ، فكيف لمن كان مسقط رأسه ؟ وعلى بذل الروح في ذات الله ، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها ، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب .