Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 36-39)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء ، الإيفاء بالعهد ، والإيفاء بالكيل ، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه : { ولا تقف } { ولا تمش } { ولا تجعل } . ومعنى { ولا تقف } لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل ، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم ، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته . وقال ابن عباس : معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم . وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه . وقال محمد بن الحنيفة : لا تشهد بالزور . وقال ابن عطية : ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى . وفي الحديث : " من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج " وقال في الحديث أيضاً : " نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا " ومنه قول النابغة الجعدي : @ ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا @@ وقال الكميت @ فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواضن إن قفينا @@ وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع . فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع . قال الزمخشري : وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم ، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى . وقرأ الجمهور : { ولا تقف } بحذف الواو للجزم مضارع قفا . وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو . كما قال الشاعر : @ هجوت زبان ثم جئت معتذراً من هجو زبان لم تهجو ولم تدع @@ وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم . وقرأ معاذ القارىء : { ولا تقف } مثل تقل ، من قاف يقوف تقول العرب : قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب ، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها ، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح . وقرأ الجرّاح العقيلي : { والفؤاد } بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في { الفؤاد } وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه . قال الحوفي : يتعلق بما تعلق به { لك } وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد } دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول ، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ، ثم يليه البصر ، ثم يليه الفؤاد . و { أولئك } إشارة إلى { السمع والبصر والفؤاد } وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره . وتخيل ابن عطية أنه يختص بالعاقل . فقال : وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل ، ولذلك عبر عنها بأولئك . وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى : { رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه إنما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل . وحكى الزجّاج أن العرب تعبر عمن يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري : @ ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام @@ وأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام انتهى . وليس ما تخيله صحيحاً ، والنحاة ينشدونه بعد أولئك الأيام ولم يكونوا لينشدوا إلاّ ما روي ، وإطلاق أولاء وأولاك وأولئك وأولالك على ما لا يعقل لا نعلم خلافاً فيه ، و { كل } مبتدأ والجملة خبره ، واسم { كان } عائد على { كل } وكذا الضمير في { مسؤولاً } . والضمير في { عنه } عائد على ما من قوله { ما ليس لك به علم } فيكون المعنى أن كل واحد من { السمع والبصر والفؤاد } يسأل عما لا علم له به أي عن انتفاء ما لا علم له به . وهذا الظاهر . وقال الزجاج : يستشهد بها كما قال { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } [ النور : 24 ] . وقال القرطبي في أحكامه : يسأل الفؤاد عما اعتقده ، والسمع عما سمع ، والبصر عما رأى . وقال ابن عطية : إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي . وقيل : الضمير في { كان } و { مسؤولاً } عائدان على القائل ما ليس له به علم ، والضمير في { عنه } عائد على { كل } فيكون ذلك من الالتفات إذ لو كان على الخطاب لكان التركيب كل أولئك كنت عنه مسؤولاً . وقال الزمخشري : و { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية ، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله { غير المغضوب عليهم } [ الفاتحة : 7 ] يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه ؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه ؟ انتهى . وهذا الذي ذهب إليه من أن { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية ، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل ، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه ، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت . وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه ، فليس { عنه مسؤولاً } كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في { عنه مسؤولاً } وتأخيره في { المغضوب عليهم } وقول الزمخشري : ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى ، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى . وانتصب { مرَحاً } على الحال أي { مرَحاً } كما تقول : جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح ، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي { ولا تمش في الأرض } للمرح ولا يظهر ذلك ، وتقدم أن المرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ، ولذلك بقوله علل { إنك لن تخرق الأرض } . وقرأت فرقة فيما حكى يعقوب : { مرحاً } بكسر الراء وهو حال أي لا تمش متكبراً مختالاً . قال مجاهد : لن تخرق بمشيك على عقبيك كبراً وتنعماً ، { ولن تبلغ الجبال } بالمشي على صدور قدميك تفاخراً و { طولاً } والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال . وقال الزجاج : { لا تمش في الأرض } مختالاً فخوراً ، ونظيره : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً } [ الفرقان : 63 ] و { اقصد في مشيك } [ لقمان : 19 ] { ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور } [ لقمان : 18 ] . وقال الزمخشري : { لن تخرق الأرض } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك ، { ولن تبلغ الجبال طولاً } بتطاولك وهو تهكُّم بالمختال . وقرأ الجراح الأعرابي : { لن تخرق } بضم الراء . قال أبو حاتم : لا تعرف هذه اللغة . وقيل : أشير بذلك إلى أن الإنسان محصور بين جمادين ضعيف عن التأثير فيهما بالخرق وبلوغ الطول ومن كان بهذه المثابة لا يليق به التكبر . وقال الشاعر : @ ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم هم منك أرفع @@ والأجود انتصاب قوله { طولاً } على التمييز ، أي لن يبلغ طولك الجبال . وقال الحوفي : { طولاً } نصب على الحال ، والعامل في الحال { تبلغ } ويجوز أن يكون العامل تخرق ، و { طولاً } بمعنى متطاول انتهى . وقال أبو البقاء : { طولاً } مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج سيئة بالنصب والتأنيث . وقرأ باقي السبعة والحسن ومسروق { سيئة } بضم الهمزة مضافاً لهاء المذكر الغائب . وقرأ عبد الله سيئاته بالجمع مضافاً للهاء ، وعنه أيضاً سيئات بغيرها ، وعنه أيضاً كان خبيثه . فأما القراءة الأولى فالظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدري النهيين السابقين ، وهما قفو ما ليس له به علم ، والمشي في الأرض مرحاً . وقيل : إشارة إلى جميع المناهي المذكورة فيما تقدم في هذه السورة ، وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروهاً فذكر . قال الزمخشري : السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب ، والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئاً ، ألا تراك تقول : الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث انتهى . وهو تخريج حسن . وقيل : ذكر { مكروهاً } على لفظ { كل } وجوزوا في { مكروهاً } أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان ، وأن يكون بدلاً من سيئة والبدل بالمشتق ضعيف ، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة . قيل : ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر ، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم ، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح ، تقول : أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح ، وأما من قرأ { سيئة } بالتذكير والإضافة فسيئة اسم { كان } و { مكروهاً } الخبر ، ولما تقدم من الخصال ما هو سيء وما هو حسن أشير بذلك إلى المجموع وأفرد سيئة وهو المنهي عنه ، فالحكم عليه بالكراهة من قوله لا تجعل إلى آخر المنهيات . وأما قراءة عبد الله فتخرج على أن يكون مما أخبر فيه عن الجمع إخبار الواحد المذكر وهو قليل نحو قوله : @ فإن الحوادث أودى بها @@ لصلاحية الحدثان مكان الحوادث وكذلك هذا أيضاً كان ما يسوء مكان سيئاته ذلك إشارة إلى جميع أنواع التكاليف من قوله { لا تجعل مع الله إلها آخر } [ الإسراء : 22 ] إِلَى قَوله { ولا تمش في الأرض مرحاً } [ الإسراء : 37 ] وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله { لا تجعل } . واختتم الآيات بقوله { ولا تجعل } وقال : مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذا أوحى إليه بتكاليف أخر ، و { مما أوحى } خبر عن ذلك ، و { من الحكمة } يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً من ما ، وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الأديان لا تقبل النسخ . وعن ابن عباس : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام ، أولها { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } قال تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء } [ الأعراف : 145 ] وكرر تعالى النهي عن الشرك ، ففي النهي الأول . { فتقعد مذموماً مخذولاً } [ الإسراء : 22 ] وفي الثاني { فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر ، وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمّه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفذت منه إلاّ إلحاق الضرر بنفسك ، فأول الأمر الذم وآخره اللوم ، والفرق بين مخذول ومدحور أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه ، والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به ، فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً . وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ، ولذلك جاء { فتلقى في جهنم } والخطاب بالنهي في هذه الآيات للسامع غير الرسول . وقال الزمخشري : ولقد جعل الله عز وعلا فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدِمَه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذَّ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم .