Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 70-72)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تعالى ما امتّن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق ، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم ، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى ، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة ، كما تقول : ثوب كريم وفرس كريم أي جامع للمحاسن . وليس من كرم المال . وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن ابن عباس أن التفضيل بالعقل وعن الضحاك بالنطق . وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن محمد بن كعب بجعل محمد عليه الصلاة والسلام منهم . وعن ابن جرير بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له . وقيل : بالخط . وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة . وعن ابن عباس : بأكله بيده وغيره بفمه . وقيل : بتدبير المعاش والمعاد . وقيل : بخلق الله آدم بيده . قال ابن عطية : وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد ، وكرم الديك . قال : وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه انتهى . { وحملناهم في البر والبحر } وهذا أيضاً من تكريمهم . قال ابن عباس : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن . وقال غيره : على أكباد رطبة وأعواد يابسة . { والطيبات } كما تقدم الحلال أو المستلذ ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان ، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالباً إلا لحماً نيئاً وطعاماً غير مركب ، والظاهر أن كثيراً باق على حقيقته ، فقالت طائفة : فضلوا على الخلائق كلهم غير جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن ابن عباس . وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار الزجّاج . وقال ابن عطية : والحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول . وقالت فرقة : الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى { ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي ، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع انتهى . وقال الزمخشري : { على كثير ممن خلقنا } هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وحسب بني آدم { تفضيلاً } أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم ، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، ثم ذكر تشنيعاً أقذع فيه يوقف عليه من كتابه . وقيل : { وفضلناهم على كثير } بالغلبة والاستيلاء . وقيل : بالثواب والجزاء يوم القيامة ، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة . وقيل : المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع ، والعرب تفعل ذلك وهذا القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعاً كان بكثير ، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائياً عن الفصاحة ، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه ، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها . ولما ذكر تعالى أنواعاً من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئاً من أحوال الآخرة فقال : { يوم ندعو كل إناس بإمامهم } واختلفوا في العامل في { يوم } . فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو . وقيل : فتستجيبون . وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهو في هذه الأقوال ظرف . وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول . وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله { ولا يظلمون } ، وحكاه أبو البقاء وقدره { ولا يظلمون } يوم ندعو . وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يعمل فيه { وفضلناهم } وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً . وقال ابن عطية أيضاً : ويصح أن يكون { يوم } منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله { فمن أوتي كتابه } إلى قوله { ومن كان } انتهى . وقوله منصوباً على البناء كان ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين . وأما قوله : والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً ، فقد يمكن أي ممن { أوتي كتابه } فيه { بيمينه } وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف . وقال بعض النحاة : العامل فيه { وفضلناهم } على تقدير { وفضلناهم } بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل . وقال الزجاج : هو ظرف لقوله ثم لا تجد . وقال الفراء : هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم { يوم ندعو } والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة . وقرأ الجمهور : { ندعو } بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله ، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول { كل } مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله : @ أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الزكي @@ أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير . { وأناس } اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في { بإمامهم } الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي باسم إمامهم . وقيل : هي باء الحال أي مصحوبين { بإمامهم } . والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم . وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم . وقال مجاهد وقتادة : نبيهم . قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به . وقال الزمخشري : إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر . وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين . وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى . وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها { فأولئك } جاء جمعاً على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولاً فأفرد في قوله { أوتي كتابه بيمينه } وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] ولم يأت هنا قسيم من { أوتي كتابه بيمينه } وهو من يؤتى كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله . { ومن كان في هذه أعمى } وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من { أوتي كتابه بيمينه } هم أهل السعادة { ومن كان في هذه أعمى } هم أهل الشقاوة { ولا يظلمون فتيلاً } أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء . والظاهر أن الإشارة بقوله : { في هذه } إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح . وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه . وقال ابن عباس أيضاً : { ومن كان في هذه } النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين { أعمى } . وقيل : ومن كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى { وأضل سبيلاً } لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة . وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة . وقيل : أعمى البصر كما قال { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } [ الإسراء : 97 ] وقوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً } [ طه : 124 - 125 ] . وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار . وقال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا { أي من كان } في دنياه { هذه } وقت إدراكه وفهمه { أعمى } عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه . وإذا جعلنا قوله { في الآخرة } بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين . وقال الزمخشري : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل . ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالا والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله { أعمالكم } [ البقرة : 139 ] وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى . وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أعمى } ليس كذلك لأن تقديره { أعمى } من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف { وأضل سبيلاً } لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو { أضل سبيلاً } وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب ، و { أعمى } هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا .