Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 18-33)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون ، ولم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه . فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى فقال له : { ألم نر بك فينا وليداً } وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون ، فقالا له ذلك . ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين ، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده ، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية . والوليد الصبي ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة . وقرأ أبو عمرو في رواية : من عمرك ، بإسكان الميم ، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه . وقرأ الجمهور : فعلتك ، بفتح الفاء ، إذ كانت وكزة واحدة ، والشعبي : بكسر الفاء ، يريد الهيئة ، لأن الوكزة نوع من القتل . عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال ، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل ، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي ، وعظم ذلك بقوله : { وفعلت فعلتك التي فعلت } ، لأن هذا الإبهام ، بكونه لم يصرح أنها القتل ، تهويل للواقعة وتعظيم شأن . { وأنت من الكافرين } : يجوز أن يكون حالاً ، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين ، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك ، والأنبياء عليهم السلام معصومون . ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون ، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان ، قاله ابن زيد ؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك ، قاله الحسن ؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن ، قاله السدي . { قال فعلتها إذاً } : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل ، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية ، لأنه فيه إزهاق النفس . قال ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ . انتهى . وليس بصلة ، بل هي حرف معنى . وقوله وكأنها بمعنى حينئذ ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى ، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ . وقال الزمخشري : فإن قلت : إذاً جواب وجزاء معاً ، والكلام وقع جواباً لفرعون ، فكيف وقع جزاء ؟ قلت : قول فرعون : { وفعلت فعلتك } فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت ؛ فقال له موسى : نعم فعلتها ، مجازياً لك تسليماً لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء . انتهى . وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً ، هو قول سيبويه ، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً ، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء . فالمعنى اللازم لها هو الجواب ، وقد يكون مع ذلك جزاء . وحملوا قوله : { فعلتها إذاً } من المواضع التي جاءت فيها جواباً لآخر ، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً ، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل ، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح ، ولا قول الأكثرين . { وأنا من الضالين } ، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين ، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه . وقال أبو عبيدة : من الناسين ، ونزع لقوله : { أن تضل إحداهما } [ البقرة : 282 ] . وفي قراءة عبد الله ، وابن عباس : وأنا من الجاهلين ، ويظهر أنه تفسير للضالين ، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل ، كما قال يوسف لإخوته : { إذ أنتم جاهلون } [ يوسف : 89 ] أو المخلصين ، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو الذاهبين عن تلك الصفة . انتهى . وقيل : من الضالين ، يعني عن النبوة ، ولم يأتني عن الله فيه شيء ، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ . ومن غريب ما شرح به أن معنى { وأنا من الضالين } ، أي من المحبين لله ، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله . قيل : والضلال يطلق ويراد به المحبة ، كما في قوله : { إنك لفي ضلالك القديم } [ يوسف : 95 ] أي في محبتك القديمة . وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في : تمنها وعبدت ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل { أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون } ، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله . ألا ترى إلى قوله : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج } [ القصص : 20 ] . وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب ، على قول سيبويه ، وظرفاً بمعنى حين ، على مذهب الفارسي . وقرأ حمزة في رواية : لما بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي يخوفكم . وقرأ عيسى : حكماً بضم الكاف ؛ والجمهور : بالإسكان . والحكم : النبوة . { وجعلني من المرسلين } : درجة ثانية للنبوة ، فرب نبي ليس برسول . وقيل : الحكم : العلم والفهم . { وتلك نعمة تمنها عليّ } : وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : { ألم نر بك فينا وليداً } ؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله : { ألم نر بك } . والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي . وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري . وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه يقول : أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك . وقرأ الضحاك : وتلك نعمة ما لك أن تمنها ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله . والقول الأول فيه إنصاف واعتراف . وقال الأخفش : والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت لدلالة المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً ، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك ، وحكى : ترى زيداً منطلقاً ، بمعنى : ألا ترى ؟ وكان الأخفش الأصغر يقول : أخذه من ألفاظ العامة . وقال الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به . وقيل : اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها . وقال الزمخشري : وأبي ، يعني موسى عليه السلام ، أن يسمي نعمته أن لا نعمة ، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت . وتعبيدهم : تذليلهم واتخاذهم عبيداً ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبداً ، قال الشاعر : @ علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان @@ فإن قلت : وتلك إشارة إلى ماذا ؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب ؟ قلت : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة ، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ؛ ومحل أن عبدت الرفع ، عطف بيان لتلك ، ونظيره قوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } [ الحجر : 66 ] والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ . وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة عليّ ، لأن عبدت بني إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم . انتهى . وقال الحوفي : { أن عبدت بني إسرائيل } في موضع نصب مفعول من أجله . وقال أبو البقاء : بدل ، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم يسأل إذ ذاك فيقول : { وما رب العالمين } ؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي . فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل ، وكان في قوله : { رسول رب العالمين } دعاء إلى الإقرار بربوبية الله ، وإلى طاعة رب العالم ، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده . والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة ، وكان عالماً بالله . ويدل عليه : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } [ الإسراء : 102 ] ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية ، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء . قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس ، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن . انتهى . والموضع الآخر قوله : { فمن ربكما يا موسى } [ طه : 49 ] ولما سأله فرعون ، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما . وقال الزمخشري : وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ، { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] . وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك ؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق . والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه ، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم ؟ وأنه محل للحوادث ؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر ؟ وأنه لم يكن ملك الأرض ؟ بل كان فيها ملوك غيره ، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام ؟ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره ؟ وجاء قوله : { وما بينهما } على التثنية ، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين : جنس السماء ، وجنس الأرض ؛ كما ثنى المظهر في قوله : @ بيـن رمـاحي مـالك ونهشـل @@ اعتباراً للجنسين : وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة . وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله ، وهو قوله : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء } الآية . ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم . ويحتمل أن يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً . انتهى . ومعنى : { إن كنتم موقنين } : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ، نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفعكم ؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله . وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد . { قال لمن حوله } : هم أشراف قومه . قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور ، وكانت للملوك خاصة . { ألا تستمعون } : أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً ، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم . قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية . انتهى . يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية ، وأقاموا ملوكاً بمصر ، من زمان المعز إلى زمان العاضد ، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه ، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم . { قال ربكم ورب آبائكم الأولين } : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم ، وجاء في قوله : الأولين ، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم . وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية ، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم . { قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } . قال أبو عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم ، وعدمهم بعد وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة . والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى عليه السلام : { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } : فعدل إلى طريق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق : طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار . وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : { ربكم ورب آبائكم الأولين } ، فأجابه نمروذ بقوله : { أنا أحيي وأميت } [ البقرة : 258 ] فقال : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } [ البقرة : 258 ] وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله : { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } : أي إن كنتم من العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال ابن عطية : زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية . وقرأ مجاهد ، وحميد ، والأعرج : أرسل إليكم ، على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم . وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، والأعمش : رب المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما . ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج ، رجع إلى الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه : { قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين } . وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ، عجب قومه من جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى قومه وظنن به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : { لئن اتخذت إلهاً غيري } . فإن قلت : كيف قال : أولاً : { إن كنتم موقنين } ، وآخراً : { إن كنتم تعقلون } ؟ قلت : لأين أولاً ، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله : { إن كنتم تعقلون } . فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من { لأجعلنك من المسجونين } ومؤدّياً مؤدّاه ؟ قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني . وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً ، لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل . انتهى . ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : { أو لو جئتك بشيء مبين } ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني ؟ قال الزمخشري : أو لو جئتك ، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين ؟ انتهى . وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [ البقرة : 170 ] فأغنى عن إعادته . وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى : أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها ؟ . ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : { فأت به إن كنت من الصادقين } ، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا . قال الزمخشري : وفي قوله : { إن كنت من الصادقين } دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا يصدق الكاذب . ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل القبلة ، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات . انتهى . وتقديره : إن كنت من الصادقين فأت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه . وقدره الزمخشري : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به . جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً ، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم . وقال الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً . ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به . وقول الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها . والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة ، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي ، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي ، أو على سبيل الإرهاص لنبي . { فألقى عصاه } : رماها من يده ، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام . والثعبان : أعظم ما يكون من الحيات . ومعنى { مبين } : ظاهر الثعبانية ، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر . { ونزع يده } من جيبه ، { فإذا هي } تلألأ كأنها قطعة من الشمس . ومعنى { للناظرين } : أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضاً نورانياً . روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : فهل غيرها ؟ فأخرج يده ، فقال : ما هذه ؟ قال : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق .