Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 210-227)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان مشركو قريش يقولون : إن لمحمد تابعاً من الجن يخبره كما يخبر الكهنة ، فنزلت ، والضمير في { به } يعود على القرآن ، بل { نزل به الروح الأمين } . وقرأ الحسن : الشياطون ، وتقدمت في البقرة ، وقد ردها أبو حاتم والقراء ؛ قال أبو حاتم : هي غلط منه أو عليه . وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين . وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية . وقال الفراء : غلط الشيخ ، ظن أنها النون التي على هجائن . فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة ، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه ، يريد محمد بن السميفع ، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه ؟ وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من ورائها بساتون ، فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن . انتهى . ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين ، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا : يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون ؛ أجرى ذلك في الشياطين تشبيهاً به فقالوا : الشياطين والشياطون . وقال أبو فيد مؤرج السدوسي : إن كان اشتقاقه من شاط ، أي احترق ، يشيط شوطة ، كان لقراءتهما وجه . قيل : ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط ، وجمعه الشياطون ، فخففا الياء ، وقد روي عنهما التشديد ، وقرأ به غيرهما . انتهى . وقرأ الأعمش : الشياطون ، كما قرأه الحسن وابن السميفع . فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن ، قرأوا ذلك ، ولا يمكن أن يقال غلطوا ، لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان . وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل ؛ نفى أولاً تنزيل الشياطين به ، والنفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن ، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية ، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له ، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به ، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة ، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به ، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب . ثم قال تعالى : { فلا تدع مع الله إلهاً آخر } : والخطاب في الحقيقة للسامع ، لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال المفسرون : المعنى قل يا محمد لمن كفر : لا تدع مع الله إلهاً آخر . ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته ، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، ونبه على العشيرة ، وإن كان مأموراً بإنذار الناس كافة . كما قال : { أن أنذر الناس } [ يونس : 2 ] لأن في إندارهم ، وهم عشيرته ، عدم محاباة ولطف بهم ، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار . فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة ، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل ، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده ، كما قال : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } [ التوبة : 123 ] . وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة : " كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين ، فأول ما أضعه ربا العباس ، إذ العشيرة مظنة الطواعية ، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم ، وهم له أشد احتمالاً " وامتثل صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربه من إنذار عشيرته ، فنادى الأقرب فالأقرب فخذاً . وروي عنه في ذلك أحاديث . { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } : تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر ، وهو كناية عن التواضع . وقال بعض الشعراء : @ وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك في رفعه أجدلا @@ نهاه عن التكبر بعد التواضع . والأجدل : الصقر ، ومن المؤمنين عام في عشيرته وغيرهم . ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان ، جاء التقسيم عليهما ، فكان المعنى : أن من اتبعك مؤمناً ، فتواضع له ؛ فلذلك جاء قسيمه : { فإن عصوك } فتبرأ منهم ومن أعمالهم . وفي هذا موادعة نسختها آية السيف . والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك ، على أن من أمر بإنذارهم ، وهم العشيرة ، والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلهاً آخر . وقيل : الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين ، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك والإيمان بك ، { فقل إني بريء مما تعملون } ، لا منكم ، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم . ولو أمره بالبراءة منهم ، ما بقي بعد هذا شفيعاً للعصاة ، ثم أمره تعالى بالتوكل . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وشيبة : فتوكل بالفاء ، وباقي السبعة : بالواو . وناسب الوصف بالعزيز ، وهو الذي لا يغالب ، وبالرحيم ، وهو الذي يرحمك . وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة . فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بغضه من هؤلاء وغيرهم ، فهو يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته . والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه . ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى ، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته ، وما تفعله من تهجدك . وأكثر المفسرين منهم ابن عباس ، على أن المعنى حين تقوم إلى الصلاة . وقرأ الجمهور : { وتقلبك } مصدر تقلب ، وعطف على الكاف في { يراك } . وقرأ جناح بن حبيش : { وتقلبك } مضارع قلب مشدداً ، عطفاً على { يراك } . وقال مجاهد وقتادة : { في الساجدين } : في المصلين . وقال ابن عباس : في أصلاب آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت . وقال عكرمة : يراك قائماً وساجداً . وقيل : معنى { تقوم } : تخلو بنفسك . وعن مجاهد أيضاً : المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه ، كما قال : " أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي " وفي الوجيز لابن عطية : ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات ، وهو تأويل مجاهد وقتادة . وفي الساجدين : أي صلاتك مع المصلين ، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما . وقال ابن عباس أيضاً ، وقتادة : أراد وتقلبك في المؤمنين ، فعبر عنهم بالساجدين . وقال ابن جبير : أراد الأنبياء ، أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء . وقال الزمخشري : ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم . كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل ، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون ، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة . والمراد بالساجدين : المصلون . وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلبه في الساجدين : تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم . وعن مقاتل ، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن ؟ فتلا هذه الآية . ويحتمل أن لا يخفى على حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين . انتهى . { إنه هو السميع } لما تقوله ، { العليم } بما تنويه وتعمله ، وذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين ، واستدلوا بقوله تعالى : { وتقلبك في الساجدين } قالوا : فاحتمل الوجوه التي ذكرت ، واحتمل أن يكون المراد أنه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، كما نقوله نحن . فإذا احتمل كل هذه الوجوه ، وجب حمل الآية على الكل ضرورة ، لأنه لا منافاة ولا رجحان . وبقوله عليه الصلاة والسلام : " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى : { إنما المشركون نجس } " فأما قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } [ الأنعام : 74 ] فلفظ الأب قد يطلق على العم ، كما قالوا أبناء يعقوب له : { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] . سموا إسماعيل أباً مع أنه كان عماً له . { قل : هل أنبئكم } : أي قل يا محمد : هل أخبركم ؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير . وعلى من متعلق بتنزل ، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم ، لأنه معلق ، لأنه بمعنى أعلمكم ، فإن قدرتها متعدية لاثنين ، كانت سادة مسد المفعول الثاني ؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة ، كانت سادة مسد الاثنين . والاستفهام إذا علق عنه العامل ، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام ، بل يؤول معناه إلى الخبر . ألا ترى أن قولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، كان المعنى : علمت أحدهما في الدار ؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم ، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو ، فالمعنى هنا : هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه ؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه . ولما كان المعنى هذا ، جاء الإخبار بعده بقوله : { تنزل على كل أفاك أثيم } ، كأنه لما قال : هل أخبركم بكذا ؟ قيل له : أخبر ، فقال : { تنزل على كل أفاك } ، وهو الكثير الإفك ، وهو الكذب ، أثيم : كثير الإثم . فأفاك أثيم : صيغتا مبالغة ، والمراد الكهنة . والضمير في { يلقون } يحتمل أن يعود إلى الشياطين ، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ، ليسترقوا شيئاً مما يتكلم به الملائكة ، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة ، أو : { يلقون السمع } : أي المسموع إلى من يتنزلون عليه . { وأكثرهم } : أي وأكثر الشياطين الملقين { كاذبون } . فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف ، واحتمل أن يكون حالاً من الشياطين ، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا . ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم ، وجمع الضمير ، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد . واحتمل أن يكون المعنى : يلقون سمعهم إلى الشياطين ، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم ، وأن يكون يلقون السمع ، أي المسموع من الشياطين إلى الناس ؛ وأكثرهم ، أي أكثر الكهنة كاذبون . كما جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء ، فيخلطون معها مائة كذبة . فإذا صدقت تلك الكلمة ، كانت سبب ضلالة لمن سمعها . وعلى كون الضمير عائداً على كل أفاك ، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين ، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك ، ولا تعارض بين قوله : { كل أفاك } ، وبين قوله : { وأكثرهم كاذبون } ، لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب ، ولا يدل ذلك على أنه لا ينطق إلا بالإفك ، فالمعنى : أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكى عن الجني ، فأكثرهم مغتر . قال الزمخشري : فإن قلت : { وإنه لتنزيل رب العالمين ، وما تنزلت به الشياطين ، هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } ، لم فرق بينهن وبين إخوان ؟ قلت : أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن ، ليرجع إلى المجيء بهن ، ويطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لها ، ومثاله : أن يحدث الرجل بحديث ، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه . انتهى . ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية ، نفى كلام القرآن ، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن : إنه شعر ، كما قالوا في الرسول : إنه كاهن ، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة ، كما قال تعالى : { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } [ الحاقة : 42 ] وقال : { وما هو بقول شاعر } [ الحاقة : 41 ] . فقال : { والشعراء يتبعهم الغاوون } . قيل : هي في أمية بن أبي الصلت ، وأبي عزة ، ومسافع الجمحي ، وهبيرة بن أبي وهب ، وأبي سفيان بن الحرث ، وابن الزبعري . وقد أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان . والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر ، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة ، ويقذف المحصنات ، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعاً . وقرأ عيسى : والشعراء : نصباً على الاشتغال ؛ والجمهور : رفعاً على الابتداء والخبر . وقرأ السلمي ، والحسن بخلاف عنه ، ونافع يتبعهم مخففاً ؛ وباقي السبعة مشدداً ؛ وسكن العين : الحسن ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو . وروى هارون : نصبها عن بعضهم ، وهو مشكل . { والغاوون } ، قال ابن عباس : الرواة ، وقال أيضاً : المستحسنون لأشعارهم ، المصاحبون لهم . وقال عكرمة : الرعاع الذين يتبعون الشاعر . وقال مجاهد ، وقتادة : الشياطين . وقال عطية : السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم . { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } : تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول ، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم علي حاتم ، ويبهتوا البريء ، ويفسقوا التقي . وقال ابن عباس : هو تقبيحهم الحسن ، وتحسينهم القبيح . { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ، ولهجهم بالفصاحة والمعاني اللطيفة ، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم . وقد درأ الحد في الخمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النعمان بن عدي ، في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية ، وكان قد ولاه بيسان ، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق ، سليمان بن عبد الملك : @ فبتن كأنهن مصرعات وبت أفض أغلاق الختام @@ فقال له سليمان : لقد وجب عليك الحد ، فقال : لقد درأ الله عني الحدّ بقوله : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } . أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة ، إذ أمرهم ، كما ذكر ، من اتباع الغواة لهم ، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه ، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم ، وذلك بخلاف حال النبوة ، فإنها طريقة واحدة ، لا يتبعها إلا الراشدون . ودعوة الأنبياء واحدة ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ، والترغيب في الآخرة والصدق . وهذا مع أن ما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز . ولما كان ما سبق ذماً للشعراء ، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعراً كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم ، وكل ما يسوغ القول فيه شرعاً فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة . والشعر باب من الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح . وقال رجل علوي لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما لا بأس به . وقيل : المراد بالمستثنين : حسان ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير ، ومن كان ينافخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال عليه السلام لكعب بن مالك : " اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " وقال لحسان : " قل وروح القدس معك " ، وهذا معنى قوله : { وانتصروا } : أي بالقول فيمن ظلمهم . وقال عطاء بن يسار وغيره : لما ذم الشعراء بقوله : { والشعراء } الآية ، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك ، وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام ، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص ابن زيد قوله : { وذكروا الله كثيراً } ، فقال : أي في شعرهم . وقال ابن عباس : صار خلقاً لهم وعادة ، كما قال لبيد ، حين طلب منه شعرة : إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيراً منه . ولما ذكر : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } ، توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله : { أي منقلب ينقلبون } . ولما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ، تلا عليه : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها . والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار . وقال الزمخشري : وتفسير الظلم بالكفر تعليل ، وكان ذكر قبل أن الذين ظلموا مطلق ، وهذا منه على طريق الاعتزال . وقرأ ابن عباس ، وابن أرقم ، عن الحسن : أي منفلت ينفلتون ، بفاء وتاءين ، معناه : إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ، وهو النجاة . { وسيعلم } هنا معلقة ، وأي منقلب : استفهام ، والناصب له ينقلبون ، وهو مصدر . والجملة في موضع المفعول لسيعلم . وقال أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف ، والعامل ينقلبون انقلاباً ، أي منقلب ، ولا يعمل فيه يعلم ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . انتهى . وهذا تخليط ، لأن أياً ، إذا وصف بها ، لم تكن استفهاماً ، بل أي الموصوف بها قسم برأسه لأي المستفهم بها ، لا قسم . برأسه فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة ، ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو : مررت بأي معجب لك ، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو : يا أيها الرجل . والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة . ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه ، والصفة تقع حالاً من المعرفة ، فهذه أقسام أي ؛ فإذا قلت : قد علمت أي ضرب تضرب ، فهي استفهامية ، لا صفة لمصدر محذوف .