Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 192-209)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الضمير في : { وإنه } عائد على القرآن ، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر ، بل هو من عند الله ، وكأنه عاد أيضاً إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وحفص : { نزل } مخففاً ، و { الروح الأمين } : مرفوعان ؛ وباقي السبعة : بالتشديد ونصبهما . والروح هنا : جبريل عليه السلام ، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح ، وبه قال ابن عطية : في موضع الحال كقوله : { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } [ المائدة : 61 ] . انتهى . والظاهر تعلق { على قلبك } و { لتكون } بنزل ، وخص القلب والمعنى عليك ، لأنه محل الوعي والتثبيت ، وليعلم أن المنزل على قلبه عليه السلام محفوظ ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير ، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها ، لأن ذلك أزجر للسامع ، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير . والظاهر تعلق { بلسان } بنزل ، فكان يسمع من جبريل حروفاً عربية . قال ابن عطية ، وهو القول الصحيح : وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه . ويمكن أن يتعلق بقوله : { لتكون } ، وتمسك بهذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يسمع أحياناً مثل صلصلة الجرس ، يتفهم له منه القرآن ، وهو مردود . انتهى . وقال الزمخشري : { بلسان } ، إما أن يتعلق بالمنذرين ، فيكون المعنى : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان ، وهم خمسة : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم ؛ وإما أن يتعلق بنزل ، فيكون المعنى : نزله باللسان العربي المبين لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ، لتجافوا عنه أصلاً وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار به . وفي هذا الوجه ، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك ، تنزيل له على قلبك ، لأنك تفهمه ويفهمه قومك . ولو كان أعجمياً ، لكان نازلاً على سمعك دون قلبك ، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات ، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها ، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها بقلبه ، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت . وإن كلم بغير تلك اللغة ، وإن كان ماهراً بمعرفتها ، كان نظره أولاً في ألفاظها ، ثم في معانيها . فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين . انتهى . وفيه تطويل . { وإنه } ، أي القرآن ، { لفي زبر الأولين } : أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة ، منبه عليه مشار إليه . وقيل : إن معانيه فيها ، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة ، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية ، حيث قيل : { وإنه لفي زبر الأولين } ، لكون معانيه فيها . وقيل : الضمير عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة يكون التفاتاً ، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله : { على قلبك لتكون } إلى ضمير الغيبة ، وكذلك قيل في أن يعلمه ، أي أن يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم ، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح . وقرأ الأعمش : لفي زبر ، بسكون الباء ، والأصل الضم ، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره ، كون علماء بني إسرائيل يعلمونه ، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل به ؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى بني إسرائيل ، ويسألونهم عنها ويقولون : هم أصحاب الكتب الإلهية . وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير ، لاعتقادهم في صحة دينهم . وذكر الثعلبي ، عن ابن عباس ، أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا زمانه ، ووصفوا نعته ، وخلطوا في أمر محمد عليه السلام ، فنزلت الآية في ذلك ، ويؤيد هذا كون الآية مكية . وقال مقاتل : هي مدنية . { وعلماء بني إسرائيل } : عبد الله بن سلام ونحوه ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه السلام ، قال تعالى : { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا } [ القصص : 53 ] الآية . وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم . وقيل : أنبياؤهم ، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانة . وقرأ الجمهور : { أو لم يكن } [ الشعراء : 197 ] بالياء من تحت ، { آية } : بالنصب ، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن ، و { أن يعلمه } : هو الاسم . وقرأ ابن عامر ، والجحدري : تكن بالتاء من فوق ، آية : بالرفع . قال الزمخشري : جعلت آية اسماً ، وأن يعلمه خبراً ، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل : في تكن ضمير القصة ، وآية أن يعلمه جملة واقعة موقع الخبر ، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن ، وأن يعلمه بدلاً من آية . انتهى . وقرأ ابن عباس : تكن بالتاء من فوق ، آية بالنصب ، كقراءة من قرأ : { ثم لم تكن } ، بتاء التأنيث ، { فتنتهم } [ الأنعام : 23 ] بالنصب ، { إلا أن قالوا } [ الأنعام : 23 ] وكقول لبيد : @ فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت أقدامها @@ ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل أن يعلمه بالمعرفة ، وتأويل { إلا أن قالوا } [ الأنعام : 23 ] بالمقالة ، وتأويل الإقدام بالإقدامة . وقرأ الجحدري : أن تعلمه بتاء التأنيث ، كما قال الشاعر : @ قالت بنو عامر خالوا بني أسد يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام @@ وكتب في المصحف : علموا بواو بين الميم والألف . قيل : على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو ، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلك اللغة . قال الزمخشري : الأعجمي الذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء بالنسبة زيادة توكيد . وقال ابن عطية : الأعجمون جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح ، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم ، وذلك يقال للحيوانات والجمادات ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " جرح العجماء جبار " وأسند الطبري ، عن عبد الله بن مطيع أنه قال ، حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة : " جملي هذا أعجم ، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون " والعجمي هو الذي نسبته في العجم ، وإن كان أفصح الناس . انتهى . وفي التحرير : { الأعجمين } : جمع أعجم على التخفيف ، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة . قيل : والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على العرب ، لم يؤمنوا به ، حيث لم يفهموه ، واستنكفوا من اتباعه . وقيل : ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم ، لم يؤمنوا ، لعنادهم لقوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية ، وجمع جمع السلامة ، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة ، وهو فعل العقلاء . وقيل : ولو نزل على بعض البهائم ، فقرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، لم تؤمن البهائم ، كذلك هؤلاء لأنهم : { كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } [ الفرقان : 44 ] انتهى . ولما بين بما تقدم ، من أن هذا القرآن في كتب الأولين ، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك ، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل . ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي ، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له ، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعراً وتارة سحراً ؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، لكفروا به وتمحلوا بجحوده . وقال الفراء : الأعجمين جمع أعجم وأعجمي ، على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين ، وواحدهم أشعري . وقال ابن الجهم : قال الكميت : @ ولو جهزت قافية شروداً لقد دخلت بيوت الأشعرينا @@ انتهى . وقرأ الحسن ، وابن مقسم : الأعجمين ، بياء النسب : جمع أعجمي . والضمير في { سلكناه } ، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر . قيل : وهو القرآن ، وقاله الرماني . والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه . { سلكناه } : أدخلناه ومكناه في { قلوب المجرمين } . والمعنى : ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه ، ولم يزدهم ذلك إلا عناداً وجحوداً وكفراً به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له ، كما وضعناه فيها . فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغيروا ؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } [ الأنعام : 7 ] الآية . وقال الكرماني : أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ، وعجزهم عن الأتيان بمثله ، ولم يؤمنوا به . وقال يحيـى بن سلام : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي منعهم من الإيمان . انتهى . ويقويه قوله : { فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } . وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : { ما كانوا به مؤمنين } . انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال عكرمة : سلكناه ، أي القسوة ، وأسند السلك تعالى إليه ، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو الهادي وخالق الضلال . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه . ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه ، وهو قوله : { لا يؤمنون به } . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين ، يقتضي تغاير من حل به . والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب قريش ، سلكناه في قلوب من أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإجرام . قال ابن عطية : أراد بهم مجرمي كل أمّة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر . قال الزمخشري : فإن قلت : ما موقع { لا يؤمنون به } من قوله : { سلكناه في قلوب المجرمين } ؟ قلت : موقعه منه موقع الموضح والملخص ، لأنه مسوق لثباته مكذباً مجحوداً في قلوبهم ، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي سلكناه فيها غير مؤمن به . انتهى . ورؤيتهم العذاب ، قيل : في الدنيا ، وقيل : يوم القيامة . وقرأ الجمهور : { فيأتيهم } ، بياء ، أي العذاب . وقرأ الحسن ، وعيسى : بتاء التأنيث ، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة ، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة ، كما قال : أتته كتابي ، فلما سئل قال : أو ليس بصحيفة ؟ قال الزمخشري : فتأتيهم بالتاء ، يعني الساعة . وقال أبو الفضل الرازي : أنث العذاب لاشتماله على الساعة ، فاكتسى منها التأنيث ، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيباً بها ، فلذلك أنث . ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثاً إلا إن كان مضافاً إليه نحو : اجتمعت أهل اليمامة ، وقطعت بعض أصابعه ، وشرقت صدر القناة ، وليس كذلك . وقرأ الحسن : بغتة ، بفتح الغين ، فتأتيهم بالتاء من فوق ، يعني الساعة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : { فتأتيهم بغتة } قلت : ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود ، وإنما المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها ، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه ، وهو سؤالهم النظرة . ومثل ذلك أن تقول : إن أسأت مقتك الصالحون ، فمتقك الله ، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين . فما هو أشد من مقتهم ؟ وهو مقت الله . ويرى ، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب ، فيحل موقعه . انتهى . { فيقولوا } ، أي كل أمّة معذبة : { هل نحن منظرون } : أي مؤخرون ، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة . ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفاً وغير ذلك ، وقولهم للرسول : أين ما تعدنا به ؟ وقال الزمخشري : { أفبعذابنا يستعجلون } ، تبكيت لهم بإنكاره وتهكم ، ومعناه : كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ، ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال ؟ طرفة عين فلا يجاب إليها . ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ ، يوبخون به عند استنظارهم يومئذ ، ويستعجلون هذا على الوجه ، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده ، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم ، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن . فقال عز وعلا : { أفبعذابنا يستعجلون } ؟ أشراً وبطراً واستهزاء واتكالاً على الأمل الطويل ؟ ثم قال : وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم ، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم ؟ انتهى . وقيل : اتبع قوله : فتأتيهم بغتة بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة . { فيقولوا هل نحن منظرون } ، كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجاً ، لكنهم يقولون ذلك استرواحاً . وقيل : يطلبون الرجعة حين يبغتهم عذاب الساعة ، فلا يجابون إليها . { أفرأيت إن متعناهم سنين } : خطاب للرسول عليه السلام بإقامة الحجة عليهم ، في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني إذا نزل العذاب بعدها . وقال عكرمة : سنين ، عمر الدنيا . انتهى . وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني ، تعدت إلى مفعولين ، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية . في الغالب تقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في أوائل سورة الأنعام . وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف ، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم ، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم . ويجوز أن يكون منصوباً بأرأيت على إعمال الأول ، وأضمر الفاعل في جاءهم . والمفعول الثاني هو قوله : { ما أغنى عنهم } ، وما استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها ؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل ، أي الموعود به ، وهو العذاب ؟ وظاهر ما فسر به المفسرون ما أغنى : أن تكون ما نافية ، والاستفهام قد يأتي مضمناً معنى النفي كقوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } [ الأحقاف : 35 ] بعد قوله : { أرأيتكم } [ الآية : 40 ] في سورة الأنعام ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون . وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاماً ونافية . وقرىء : يمتعون ، بإسكان الميم وتخفيف التاء . ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله ، إن هي عصت ولم تؤمن ، كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] . وجمع منذرون ، لأن { من قرية } عام في القرى الظالمة ، كأنه قيل : وما أهلكنا القرى الظالمة . والجملة من قوله : { لها منذرون } ، في موضع الحال { من قرية } ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال ، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون ، فيكون من مجيء الحال مفرداً لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقولك : ما مررت بأحد إلا قائماً ، فصيح . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنها في قوله : { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] قلت : الأصل عزل الواو ، لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : { سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] . انتهى . ولو قدرنا لها منذرون جملة ، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا . ومذهب الجمهور ، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو : ما جاءني أحد إلا راكب . وإذا سمع مثل هذا ، خرجوه على البدل ، أي : إلا رجل راكب . ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائماً ، ولا يحفظ من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم . فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة ، لورد المفرد بعد إلا صفة لها . فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة ، جاءت الصفة بعد إلا نحو : ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو ، التقدير : ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد . وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، فغير معهود في كلام النحويين . لو قلت : جاءني رجل وعاقل ، على أن يكون وعاقل صفة لرجل ، لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض ، وتغاير مدلولها نحو : مررت بزيد الكريم والشجاع والشاعر . وأما { وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] فتقدم الكلام عليه في موضعه . { وذكرى } : منصوب على الحال عند الكسائي ، وعلى المصدر عند الزجاج . فعلى الحال ، إما أن يقدر ذوي ذكرى ، أو مذكرين . وعلى المصدر ، فالعامل منذرون ، لأنه في معنى مذكرون ذكرى ، أي تذكرة . وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولاً له ، قال : على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة ، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها . وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية . قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له ، والمعنى : وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصوا مثل عصيانهم . { وما كنا ظالمين } ، فنهلك قوماً غير ظالمين ، وهذا الوجه عليه المعول . انتهى . وهذا لا معوّل عليه ، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابعاً له غير معتمد على الأداة نحو : ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو . والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة ، فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا . ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش ، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته .