Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 59-66)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما فرغ من قصص هذه السورة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى والسلام على المصطفين ، وأخذ في مباينة واجب الوجود ، الله تعالى ، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها . وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة ، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة . وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد الله ، والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن . وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر الرسول عليه السلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من كفار الأمم ، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين . وقيل : { قل } ، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ، ويسلم { على عباده الذين اصطفى } . وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من الفراء . وقرأ أبو السماك : { قل الحمد لله } ، وكذا : قل الحمد لله سيريكم ، بفتح اللام ، وعباده المصطفون ، يعم الأنبياء وأتباعهم . وقال ابن عباس : العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اصطفاهم لنبيه ، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار . وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء ، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب ، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول ، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة ، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة . انتهى ، وفيه تلخيص . وقوله : { آلله خير أمّا يشركون } : استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم ، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان ، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم ، وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ مرتكبه . والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خيرية الذوات ، فقيل : جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيراً بوجه مّا ، وقيل : في الكلام حذف في موضعين ، التقدير : أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون ؟ فما في أم ما بمعنى الذي . وقيل : ما مصدرية ، والحذف من الأول ، أي أتوحيد الله خير أم شرككم ؟ وقيل : خير ليست للتفضيل ، فهي كما تقول : الصلاة خير ، يعني خيراً من الخيور . وقيل : التقدير ذو خير . والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل ، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم ، وتنبيهه على خطئه ، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد ، وانتفائه عن الآخر ، وقرأ الجمهور : تشركون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، وقتادة ، وعاصم ، وأبو عمرو : بياء الغيبة . وأم في أم ما متصلة ، لأن المعنى : أيهما خير ؟ وفي { أم من خلق } وما بعده منفصلة . ولما ذكر الله خيراً ، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في غير موضع من كتابه ، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات ، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى . وقرأ الجمهور : { أمّن خلق } ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم من . وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره . قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا من المعنى . وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات . وقال أبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح ) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه . وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق ، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ النمل : 17 ] . انتهى . وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو مضمر من قبيل المفرد . وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال : { لكم } ، أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم . ثم قال : { فأنبتنا } ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى . وقد رشح هذا الاختصاص بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } . ولما كان خلق السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } . ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلاً لها ؟ والبهجة : الجمال والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح . وقرأ الجمهور : { ذات } ، بالإفراد ، { بهجة } ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة ، كقوله : { أزواج مطهرة } [ البقرة : 25 ، النساء : 57 ] ، وهو على معنى جماعة . وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع ، بهجة بتحريك الهاء بالفتح . { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعاً ، أو لنفي الأولوية . والمعنى هنا : أن إنبات ذلك منكم محال ، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى . ولما ذكر منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال : { بل هم قوم يعدلون } ، إما التفاتاً ، وإما إخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً . وقرىء : إلهاً ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون ؟ وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف . ولما ذكر تعالى أنه منشىء السموات والأرض ، ذكر شيئاً مشتركاً بين السماء والأرض ، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ، ذكر شيئاً مختصاً بالأرض ، وهو جعلها قراراً ، أي مستقراً لكم ، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ، ولا يديرها الفلك ، قيل : لأنها مضمحلة في جنب الفلك ، كالنقطة في الرحى . { وجعل خلالها } : أي بين أماكنها ، في شعابها وأوديتها ، { أنهاراً وجعل لها رواسي } : أي جبالاً ثوابت حتى لا تتكففأ بكم وتميد . والبحران : العذب والملح ، والحاجز : الفاصل ، من قدرته تعالى ، قاله الضحاك . وقال مجاهد : بحر السماء والأرض ، والحاجز من الهواء . وقال الحسن : بحر فارس والروم ، وقال السدّي : بحر العراق والشام ، والحاجز من الأرض . قال ابن عطية : مختاراً لهذا القول في الحاجز : هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها ، على رقتها في بعض المواضع ، ولطافتها التي لولا قدرته لبلع الملح العذب . وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين : العذب بجملته ، والماء الأجاج بجملته ؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة ، تكرر فيها العامل في قوله : { وجعل } ، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات . ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة ، والحكماء على زعمه ، خارج عن مذاهب العرب ، يوقف عليه في كتابه . والمضطر : اسم مفعول ، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه ، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه . وقال ابن عباس : هو المجهود . وقال السدّي : هو الذي لا حول ولا قوة له . وقيل : هو المذنب إذا استغفر ، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى ، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به . وقال الزمخشري : الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة ، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطاً فيه المصلحة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى . { ويكشف } : هو كل ما يسوء ، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر ، وهو خاص إليّ أعم ، وهو ما يسوء ، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها . وخلفاء : أي الأمم السالفة ، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من بعده ، أو خلفاء الكفار في أرضهم ، أو الملك والتسلط ، أقوال . وقرأ الحسن في رواية : ونجعلكم بنون المتكلم ، كأنه استئناف إخبار ووعد ، كما قال تعالى : { ليستخلفنهم في الأرض } [ النور : 55 ] . وقوله : { ويجعلكم خلفاء الأرض } : انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار ، وهي حالة الخلافة ، فهما ظرفان . وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكاً متسلطاً . وقرأ الجمهور : تذكرون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، والأعمش ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها . وقرأ أبو حيوة : تتذكرون ، بتاءين . وظلمة البر هي ظلمة الليل ، وهي الحقيقة ، وتنطلق مجازاً على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال : أظلم عليّ الأمر . وقال الشاعر : @ تجلت عمـايـات الرجـال عـن الصبـا @@ أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات ، وهداية البحر بالنجوم . { ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } : تقدم تفسير نظير هذه الجملة . وقرىء : عما تشركون ، بتاء الخطاب . { أمن يبدأ الخلق } : الظاهر أن الخلق هو المخلوق ، وبدؤه : اختراعه وإنشاؤه . ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك ، لا عموم المخلوق . وقال ابن عطية : والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة ، والإعادة البعث من القبور ، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق ، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان ، كما تقول : فلان يبدىء ويعيد في أمر كذا إذا كان يتقنه . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة ؟ قلت : قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار . انتهى . ولما كان إيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإحساناً ، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال : { ومن يرزقكم من السماء } بالمطر ، { والأرض } بالنبات ؟ { قل هاتوا برهانكم } : أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره { إن كنتم صادقين } في أن مع الله إلهاً آخر . فأين دليلكم عليه ؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير ، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه . لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله : { بل هم قوم يعدلون } ، أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع . ولما ذكر جعل الأرض مستقراً ، وتفجير الأنهار ، وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيهاً على تعقل ذلك والفكر فيه ، ختم بقوله : { بل أكثرهم لا يعلمون } ، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك . ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ، وكشف السوء ، واستخلافهم في الأرض ، ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة ، فختم بقوله : { قليلاً ما تذكرون } ، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه ، كما قال : { نسي ما كان يدعوا إليه من قبل } [ الزمر : 8 ] . ولما ذكر الهداية في الظلمات ، وإرسال الرياح نشراً ، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل ، وهم يشركون بها الله ، قال تعالى : { عما يشركون } . واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله : { أإله مع الله } ، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى . قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وألحوا عليه ، فنزل : { قل لا يعلم من في السموات والأرض } ، الآية . والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم ، والغيب مفعول ، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعاً على لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب . وعن عائشة ، رضي الله عنها : من زعم أن محمداً يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : { قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله } ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما ، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها بعلمه ، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز ، وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره هو الصحيح . ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلاً ، وارتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ، والظاهر عموم الغيب . وقيل : المراد غيب الساعة . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي ؟ يعني في كونه استثناء منقطعاً ، إذ ليس مندرجاً تحت من ، ولم أختر الرفع على لغة تميم ، ولم نختر النصب على لغة الحجاز ، قال : قلت : دعت إلى ذلك نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم . كما أن معنى : ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً ، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس . انتهى . وكان الزمخشري قد قدم قوله : فإن قلت : لم أرفع اسم الله ، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض ؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، كان أحداً لم يذكر ، ومنه قوله : @ عشية ما تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم @@ وقوله : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه . انتهى . وملخصه أنه يقول : لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه ، وإذا رفع كان بدلاً ، والمبدل منه في نية الطرح ، فصار العامل كأنه مفرغ له ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه قيل : قل لا يعلم الغيب إلا الله . ولو أعرب من مفعولاً ، والغيب بدل منه ، وإلا الله هو الفاعل ، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهم لا يعلمون بحدوثها ، أي لا يسبق علمهم بذلك ، لكان وجهاً حسناً ، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم . وأيان : تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف ، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى ، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق ، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به . وقرأ السلمي : إيان ، بكسر الهمزة ، وهي لغة قبيلته بني سليم . ولما نفي علم الغيب عنهم على العموم ، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص ، وهو وقت الساعة والبعث ، فصار منتفياً مرتين ، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه . وقرأ الجمهور : { بل ادّارك } ، أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال فسكنت ، فاجتلبت همزة الوصل . وقرأ أبي : أم تدارك ، على الأصل ، وجعل أم بدل . وقرأ سليمان بن يسار أخوه : بل ادّرك ، بنقل حركة الهمزة إلى اللام ، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل ، فأدغم الدال ، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً ، فصار قلب الثاني للأول لقولهم : اثرد ، وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام ، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل . وقرأ أبو رجاء والأعرج ، وشيبة ، وطلحة ، وتوبة العنبري : كذلك ، إلا أنهم كسروا لام بل ؛ وروي ذلك عن ابن عباس ، وعاصم ، والأعمش . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بل أدرك ، على وزن أفعل ، بمعنى تفاعل ، ورويت عن أبي بكر ، عن عاصم . وقرأ عبد الله في رواية ، وابن عباس في رواية ، وابن أبي جمرة ، وغيره عنه ، والحسن ، وقتادة ، وابن محيصن : بل آدرك ، بمدة بعد همزة الاستفهام ، وأصله أأدرك ، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً ، كراهة الجمع بين همزتين ، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها . وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد بل ، لأن بل إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : لم يكن كقوله تعالى : { أشهدوا خلقهم } [ الزخرف : 19 ] ، أي لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار . انتهى . وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل ، وشبهه بقول القائل : أخبزاً الكت بل أماء شربت ؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني . وقرأ مجاهد : أم أدرك ، جعل أم بدل بل ، وأدرك على وزن أفعل . وقرأ ابن عباس أيضاً : بل إدّارك ، بهمزة داخلة على ادارك ، فيسقط همزة الوصل المجتلبة ، لأجل الإدغام والنطق بالساكن . وقرأ ابن مسعود أيضاً : بل أأدرك ، بهمزتين ، همزة الاستفهام وهمزة أفعل . وقرأ الحسن أيضاً ، والأعرج : بل أدرك ، بهمزة وإدغام فاء الكلمة ، وهي الدال في تاء افتعل ، بعد صيرورة التاء دالاً . وقرأ ورش في رواية : بل ادّرك ، بحذف همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام . وقرأ ابن عباس أيضاً : بلى ادرك ، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي . وقرىء : بل آأدرك ، بألف بين الهمزتين . فأما قراءة من قرأ بالاستفهام ، فقال ابن عباس : هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم . وقال الزمخشري : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك قراءة من قرأ : أم ادّرك ، وأم تدارك ، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة . انتهى . وقال ابن عطية : هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم ، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم . وأما قراءة من قرأ على الخبر ، فقال ابن عباس : المعنى : بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا ، أي علموه في الآخرة ، بمعنى : تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق ، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم ، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا ، وكونه بمعنى المضي ، ومعناه الاستقبال ، لأن الإخبار به صدق ، فكأنه قد وقع . وقال ابن عطية : يحتمل معنيين : أحدهما : أنه تناهي علمهم ، كما تقول : أدرك النبات وغيره ، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون كاذبة ؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً ، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم ، وقد تعدّى العلم بالباء ، كما تقول : علمي بزيد كذا ، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف والاستفهام ، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً . والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك ، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها ، وأما في الدنيا فلا . وهذا تأويل ابن عباس ، ونحا إليه الزجاج ، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك . انتهى ، وفيه بعض تلخيص وزيادة . وقال الزمخشري : هو على وجهين : أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : { بل هم في شك منها بل هم منه عمون } ، يريد المشركين ممن في السموات والأرض ، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله ناس منهم . والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك ، على سبيل الهزء به ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك ، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته . وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر ، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني ، من قولهم : أدركت الثمرة ، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم . وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك . انتهى . وقال الكرماني : العلم هنا بمعنى الحكم والقول ، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة ، وكثر منهم الخوض فيها ، فنفاها بعضهم ، وشك فيها بعضهم ، واستبعدها بعضهم . وقال الفراء : بل ادرك ، فيصير بمعنى الجحد ، ولذلك نظائر ؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها ، ودل على ذلك { بل هم في شك منها } ، فصارت { في } في الكلام بمعنى الباء ، أي لم يدرك علمهم بالآخرة . قال الفراء : ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ : أدرك ، بالاستفهام . انتهى . وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل ، فقال أبو حاتم : إن كان بلى جواباً لكلام تقدم ، جاز أن يستفهم به ، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة ، فقيل لهم : بلى إيجاباً لما نفوا ، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى : { بل هم في شك منها } ، بمعنى : أم هم في شك منها ، لأن حروف العطف قد تتناوب ، وكف عن الجملتين بقوله تعالى : { بل هم منها عمون } . انتهى . يعني أن المعنى : ادّرك علمهم بالآخرة أم شكوا ؟ فبل بمعنى أم ، عودل بها الهمزة ، وهذا ضعيف جداً ، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام . قال الزمخشري : فإن قلت : فمن قرأ بلى ادرك ؟ قلت : لما جاء ببلى بعد قوله : { وما يشعرون } ، كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : ادرك علمهم في الآخرة ، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون ، كونها ، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون . وأما من قرأ : بلى أدّرك ، على الاستفهام فمعناه : يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها ، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن . فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاث ما معناها ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه ، والإزالة مستطاعة ، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذلك عداه بمن دون عن ، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون . انتهى .