Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-13)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه السورة مكية ، قاله جابر وعكرمة والحسن . وقال ابن عباس ، وقتادة : مدنية . وقال يحيـى بن سلام : مكية إلا من أولها إلى { وليعلمن المنافقين } ، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة ، قاله السدي ؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله ، قاله ابن عمر ؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم ، قاله مجاهد ، وهو قريب مما قبله ؛ أو في مهجع مولى عمر ، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه ، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة " ؛ أو في عياش أخي أبي جهل ، غدر فارتد . و { الناس } : فسر بمن نزلت فيه الآية . وقال الحسن : الناس هنا المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا . وحسب يطلب مفعولين . فقال الحوفي ، وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا . وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا . وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : وإذا قدرت الباء كان حالاً . قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء كما تقول : تركت زيداً بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان . وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان ؟ قلت : هو في قوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله : @ فتركته جزر السباع ينشنه @@ ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ؟ فإن قلت : { أن يقولوا } هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله : خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً ، تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . انتهى ، وهو كلام فيه اضطراب . ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله : { وهم لا يفتنون } ، وهذه جملة حالية . ثم ذكر { أن يتركوا } هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم : { وهم لا يفتنون } ، وهذا كلام لا يصح . وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية . وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان . وأما قوله : فإن قلت { أن يقولوا } إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله : { أن يقولوا } هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقاً ، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر غير المبتدأ . ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبر . وأما قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر ، أو كائن . { وهم لا يفتنون } ، قال الشعبي : الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها . وقال الكلبي : هو مثال ، { أو يلبسكم شيعاً } [ الأنعام : 65 ] . وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم . و { الذين من قبلهم } : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه . { فليعلمن الله } ، بالامتحان ، { الذين صدقوا } في إيمانهم ، { وليعلمن الكاذبين } فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ، ويستحيل حدوث العلم لله تعالى . فالمعنى : وليتعلقن علمه به موجوداً به كما كان متعلقاً به حين كان معدوماً . والمعنى : وليميزن الصادق منهم من الكاذب ، أو عبر بالعلم عن الجزاء ، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب . ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم ، والكاذبين ضد ذلك . وقرأ علي ، وجعفر بن محمد : فليعلمن ، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد ، والثاني محذوف ، أي منازلهم في الآخرة من ثواب وعقاب ؛ أو الأول محذوف ، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا ، أي يشهرهم هؤلاء في الخير ، وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد ، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم ، كقوله : « من أسر سريرة ألبسه الله رداءها » . وقرأ الزهري : الأولى كقراءة الجماعة ، والثانية كقراءة علي . { أم حسب } ، قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : { أحسب } ، وكأنه عز وجل قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك ، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه . انتهى . وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب ، كما ذكر ، لأنها إذ ذاك تكون متصلة ، ولها شرطان : أحدهما : أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام ، وهذا الشرط هنا موجود . والثاني : أن يكون بعدها مفرد ، أو ما هو في تقدير المفرد . مثال المفرد : أزيد قائم أم عمرو ؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد : أقام زيد أم قعد ؟ وجوابها : تعيين أحد الشيئين ، إن كان التعادل بين شيئين ؛ أو الأشياء ، إن كان بين أكثر من شيئين . وهنا بعد أم جملة ، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين ، بل أم هنا منقطعة ، بمعنى بل التي للإضراب ، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية ، لا بمعنى الإبطال . وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار ، فلا يقتضي جواباً ، لأنه في معنى : كيف وقع حسبان ذلك ؟ و { الذين يعملون السيئات } ، قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والأسود ، والعاصي بن هشام ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاصي بن وائل ، وأنظارهم من صناديد قريش . انتهى . والآية ، وإن نزلت على سبب ، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم . وقال مجاهد : { أن يسبقونا } : أي يعجزونا ، فلا نقدر على الانتقام ، وقيل : أن يعجلونا محتوم القضاء ، وقيل : أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم . وقال الزمخشري : { أن يسبقونا } : أن يفوتونا ، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدثوا به أنفسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة ، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه ؛ ونظيره : { وما أنتم بمعجزين في الأرض } [ الشورى : 31 ] ، { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } [ الأنفال : 59 ] . فإن قلت : أين مفعولاً حسب ؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين ، كقولهم : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ البقرة : 214 ] . ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، وأم منقطعة . ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه . انتهى . أمّا قوله : وهو لم يطمعوا في الفوت ، إلى آخر قوله : ويطمع فيه ، فليس كما ذكر ، بل هم معتقدون أن لا بعث ولا جزاء ، ولا سيما السرية التي نص عليها ابن عباس ، وما ذكره ، الزمخشري ، هو على اعتقاد من يعلم أن الله يجازيه ، ولكن طمع في عفو الله . وأما قوله : اشتمال صلة أن ، إلى آخره ، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله : { أن يتركوا } ، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين ، ولم يقدر ما لا يصح تقديره ، وأمّا قوله : ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد ، والتضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه ، وهذا لا حاجة إليه . { ساء ما يحكمون } ، قال الزمخشري ، وابن عطية ما معناه : أن { ما } موصولة و { يحكمون } صلتها ، أو تمييز بمعنى شيء ، ويحكمون صفة ، والمخصوص بالذم محذوف ، فالتقدير : أي حكمهم . انتهى . وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء ، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو . وقال ابن كيسان : ما مصدرية ، لتقديره : بئس حكمهم . وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفاً ، أي ساء حكماً حكمهم . وساء هنا بمعنى : بئس ، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بها ما ، والفعل في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } [ البقرة : 90 ] مشبعاً في البقرة . وجاء بالمضارع ، وهو { يحكمون } ، قيل : إشعاراً بأن حكمهم مذموم حالاً واستقبالاً ، وقيل : لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعاً . والظاهر أن { يرجوا } على بابها ، ومعنى { لقاء الله } : الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء ؛ مثلت حاله بحالة عبد قدم على مولاه من سفر بعيد ، وقد اطلع مولاه على ما عمل في غيبته عنه ، فإن كان عمل خيراً ، تلقاه بإحسان أو شراً ، فبضد الإحسان . { فإن أجل الله لآت } : وهو ما أجله وجعل له أجلاً ، لا نفسه لا محالة ، فليبادر لما يصدق رجاءه . وقال أبو عبيدة : يرجو : يخاف ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، أي { من كان يرجوا لقاء الله } ، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه ، فإن ما أجله الله تعالى من لقاء جزائه لآت . والظاهر أن قوله : { ومن جاهد } ، معناه : ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات ، فثمرة جهاده ، وهو الثواب المعد له ، إنما هو له ، لا لله ، والله تعالى غني عنه وعن العالمين ، وإنما كلفهم ما كلفهم إحساناً إليهم . { لنكفرنّ عنهم سيئاتهم } : يشمل من كان كافراً فآمن وعمل صالحاً ، فأسقط عنه عقاب ما كان قبل الإيمان من كفر ومعصية ، ومن نشأ مؤمناً عاملاً للصالحات وأساء في بعض أعماله ، فكفر عنه ذلك ، وكانت سيئاته مغمورة بحسناته . { ولنجزينهم أحسن الذي } : أي أحسن جزاء أعمالهم . وقال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون . انتهى . وهذا التقدير لا يسوغ ، لأنه يقتضي أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم ، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه ، وهم يجزون ثواب الأحسن والحسن ، إلاّ إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل ، فيكون بمعنى حسن ، فإنه يسوغ ذلك . وأما التقدير الذي قبله فمعناه : أنه مجزي أحسن جزاء العمل ، فعمله يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها ، فجوزي أحسن جزائها ، وهي أن جعلت بعشر أمثالها . وفي هذه الآيات تحريك وهزٌ لمن تخلف عن الهجرة أن يبادر إلى استدراك ما فرط فيه منها ، وثناء على المؤمنين الذين بادروا إلى الهجرة ، وتنويه بقدرهم . { ووصينا الإنسان } ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت أمه أن لا تطعم ولا تشرب حتى تموت ، أو يكفر . وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث ، فشداه وثاقاً حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصداً ليراها ، وجلده كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في حديث طويل ذكر في السير . { ووصينا الإنسان بوالديه } : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما . وانتصب { حسناً } على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسناً ، أي ذا حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن . قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان . كما تقول : وصيتك خيراً ، وأوصيتك شراً ؛ وعبَّر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف الجر في قوله : { بوالديه } ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ، ونظير هذا قول الشاعر : @ عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا @@ انتهى . مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة : @ وصيت من برة قلباً حراً بالكلب خيراً والحماة شراً @@ وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني . والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله : { بوالديه } ، وينتصب { حسناً } بفعل مضمر تقديره : يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر . وفي التحرير : حسناً نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسناً ، وقيل : على القطع ، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيراً ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن حرف الجر ، فانتصب . وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فيقدر له فعل . انتهى . وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند البصريين . وقال الزمخشري : وصيناه بايتاء والديه حسناً ، أو نائلاً والديه حسناً ، أي فعلاً ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله : { وقولوا للناس حسناً } [ البقرة : 83 ] . انتهى . وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين . قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك : زيداً ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا أولهما معروفاً . وقرأ عيسى ، والجحدري : حسناً ، بفتحتين ؛ والجمهور : بضم الحاء وإسكان السين ، وهما كالبَخَل والبُخْل . وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً ، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن . انتهى ، أي أمراً حسناً ، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه . وقوله : مطلقاً ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به ؛ والمطلق إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له ؛ وفي مصحف أبي : إحساناً . { وإن جاهداك } : أي وقلنا : إن جاهداك { ما ليس لك به علم } : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي { لتشرك } به شيئاً ، لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم ، { فلا تطعهما } فيما جاهداك عليه من الإشراك ؛ { إليّ مرجعكم } : شامل للموصي والموصى والمجاهد والمجاهد ، { فأنبئكم } : فأجازيكم ، { بماكنتم تعملون } : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان . وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم { في الصالحين } ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم . ومعنى { في الصالحين } : في جملتهم ، ومرتبة الصلاح شريفة ، أخبر الله بها عن إبراهيم ، وسألها سليمان ، عليهما السلام ، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع الله ورسوله معهم . ويجوز أن يكون التقدير : في ثواب الصالحين ، وهي الجنة . ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلص ، ذكر حال المنافقين ناساً آمنوا بألسنتهم ، فإذا آذاهم الكفار ، جعلوا ذلك الأذى ، وهو فتنة الناس ، صارفاً لهم عن الإيمان ؛ كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ؛ وكونها نزلت في منافقين ، قول ابن زيد . وقال الزجاج : جزع كما يجزع من عذاب الله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك . وقال قتادة : فيمن هاجر ، فردهم المشركون إلى مكة . وقيل : في مؤمنين أخرجهم إلى بدر المشركون فارتدوا ، وهم الذين قال فيهم : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ النساء : 97 ] . { ولئن جاء نصر من ربك } : أي للمؤمنين ، { ليقولنّ } : أي القائلون أُوذيناً في الله ، { إنا معكم } : أي متابعون لكم في دينكم ، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم ، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم . وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم ، إذ لو كان إيمانهم صحيحاً ، لصبروا على أذى الكفار ، وإن كانت فيمن هاجر ، وكانوا يحتالون في أمرهم ، وركبوا كل هول في هجرتهم . وقرىء : ليقولن ، بفتح اللام ، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري . وأعلم : أفعل تفضيل ، أي من أنفسهم ؛ وبما في صدورهم : أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق ، وهذا إستفهام معناه التقرير ، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر . { وليعلمنّ المنافقين } : ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين ، كما قال ابن زيد ، وعلمه بالمؤمن ، وعده بالثواب ، وبالمنافق وعيد له بالعقاب . ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ، ذكر مقالة الكافرين قولاً واعتقاداً ، وهم رؤساء قريش . قال مجاهد : كانوا يقولن لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان عليكم شيء فهو علينا . وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف ، قال لعمر إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم ، فنحن نحمله عنك ، وقيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة . قال ابن عطية : وقوله : { ولنحمل } ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالثقل ، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر ، لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة ، ومن هذا النوع قول الشاعر : @ فقلت ادعى وأدعو فإن أندى لصوت أن ينادى داعيان @@ ولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه . وقال الزمخشري : أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا ، ليجتمع هذان الأمران في الحصول ، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى ، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . انتهى . وقوله : فإن عسى ، كان تركيب أعجمي لا عربي ، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى ، لأنه فعل جامد ، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد ؛ وأيضاً فإن عسى لا يليها كان ، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر ، ولم يستعملها تامة . وقرأ الحسن ، وعيسى ، ونوح القارىء : ولنحمل ، بكسر لام الأمر ؛ ورويت عن علي ، وهي لغة الحسن ، في لام الأمر . والحمل هنا مجاز ، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر ، والخطايا بالمحمول . وقال مجاهد : نحمل هنا من الحمالة ، لا من الحمل . وقرأ الجمهور : { من خطاياهم } . وقرأ داود بن أبي هند ، فيما ذكر أبو الفضل الرازي : من خطيئتهم ، على التوحيد ، قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة . وذكر ابن خالويه ، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ : من خطيآتهم ، بجمع خطيئة جمع السلامة ، بالألف والتاء . وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ : من خطئهم ، بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين ، فأشبهت الياء ، لأن قياس تسهيلها هو ذلك . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ؟ وإنما ضمنوا شيئاً علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، ومن ضمن شيئاً لا يقدر على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً ، لا حين ضمن ، ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين ، وهو المخبر عن الشيء ، لا على ما هو عليه ؟ قلت : شبه الله حالهم ، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده ، لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم ، لا على ما عليه المخبر عنه . ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء ، وفي قلوبهم فيه الخلف . انتهى . وتقدم من قول ابن عطية أن قوله : ولنحمل خبر ، يعني أمراً ، ومعناه الخبر ، وهذان الأمران منزلان منزلة الشرط والجزاء ، إذ المعنى : أن تتبعوا سبيلنا ، ولحقكم في ذلك إثم على ما تزعمون ، فنحن نحمل خطاياكم . وإذا كان المعنى على هذا ، كان إخباراً في الجزاء بما لا يطابق ، وكان كذباً . { وليحملنّ أثقالهم } : أثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم ، { واثقالاً } أي أخر ، وهي أثقال الذين أغروهم ، فكانوا سبباً في كفرهم . ولم يبين من الذين يحملون أثقاله ، فأمكن اندراج أثقال المظلوم بحملها للظالم ، كما جاء في الحديث : " أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطى من حسنات ظالمه ، فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيآت المظلوم فطرح عليه " وفي صحيح مسلم ما معناه : أيما داع دعا إلى ضلالة ، فأتبع عليها وعمل بها بعده ، فعليه أوزار من عمل بها ممن اتبعه ، لا ينقص ذلك من أوزاهم شيئاً . { وليسئلنّ يوم القيامة } : أي سؤال توبيخ وتقريع .