Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 14-23)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما كان يلقى من أذى الكفار . فذكر ما لقي أول الرسل ، وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه . والواو في { ولقد } واو عطف ، عطفت جملة على جملة . قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره . والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله . وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه . انتهى . وليس عندي محتملاً ، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين كان بعث وحين مات ، اختلافاً مضطرباً متكاذباً ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير . والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه . ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به ، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله : تسعمائة وخمسون عاماً ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي . وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا ، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة . والضمير في { وجعلناها } يحتمل أن يعود على { السفينة } ، وأن يعود على الحادثة والقصة ، وأفرد { آية } وجاء بالفاصلة { للعالمين } ، لأن إنجاء السفن أمر معهود . فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة ، ولأنها بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها ، فحصل العلم بها لهم ، فناسب ذلك قوله : { للعالمين } ، وانتصب { إبراهيم } عطفاً على { نوحاً } . قال ابن عطية : أو على الضمير في { فأنجيناه } . وقال هو والزمخشري : بتقدير اذكروا وأبدل منه ، إذ بدل اشتمال منه ، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف ، فلا يكون مفعولاً به ، وقد كثر تمثيل المعربين ، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر ، وإذا كانت ظرفاً لما مضى ، فهو لو كان منصرفاً ، لم يجز أن يكون معمولاً لأذكر ، لأن المستقبل لا يقع في الماضي ، لا يجوز ثم أمس ، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه ، جاز أن يكون مفعولاً به ومعمولاً لأذكر . وقرأ النخعي ، وأبو جعفر ، وأبو حنيفة ، وإبراهيم : بالرفع ، أي : ومن المرسلين إبراهيم . وهذه القصة تمثيل لقريش ، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام ، والدعوى إلى عبادة الله ، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام . وقرأ الجمهور : { وتخلقون } ، مضارع خلق ، { إفكاً } ، بكسر الهمزة وسكون الفاء . وقرأ علي ، والسلمي ، وعون العقيلي ، وعبادة ، وابن أبي ليلى ، وزيد بن علي : بفتح التاء والخاء واللام مشددة . قال ابن مجاهد : رويت عن ابن الزبير ، أصله : تتخلقون ، بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة . وقرأ زيد بن علي أيضاً ، فيما ذكر الأهوازي : تخلقون ، من خلق المشدد . وقرأ ابن الزبير ، وفضيل بن زرقان : أفكاً ، بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب . قال ابن عباس : { وتخلقون إفكاً } ، هو نحت الأصنام وخلقها ، سماها إفكاً توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة . وقال مجاهد : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك . وقال الزمخشري : إفكاً فيه وجهان : أحدهما : أن تكون مصدراً نحو : كذب ولعب ، والإفك مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن تكون صفة على فعل ، أي خلقا إفكاً ، ذا إفك وباطل ، واختلاقهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه ، أو سمي الأصنام إفكاً ، وعملهم لها ونحتهم خلقاً للإفك . انتهى . وهذا الترديد منه في نحو : { وتخلقون إفكاً } ، قولان لابن عباس ومجاهد ، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله : { لا يملكون لكم رزقاً } على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر : لا يملكون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، واحتمل أن يكون اسم المرزوق ، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله ، وخص الرزق لمكانته من الخلق . ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه ، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه ، وعرفه بعد لدلالته على العموم ، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها . { واشكروا له } على نعمه السابغة من الرزق وغيره . { وإليه ترجعون } : أي إلى جزائه ، أخبر بالمعاد والحشر . ثم قال : { وإن تكذبوا } : أي ليس هذا مبتكراً منكم ، وقد سبق ذلك من أمم الرسل ، قيل : قوم شيث وإدريس وغيرهم . وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة ، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه ، وباقيهم على التكذيب . { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، بخلاف عنه : تروا ، بتاء الخطاب ؛ وباقي السبعة : بالياء . والجمهور : يبدىء ، مضارع أبدأ ؛ والزبير . وعيسى ، وأبو عمرو : بخلاف عنه : يبدأ ، مضارع بدأ . وقرأ الزهري : { كيف بدأ الخلق } ، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفاً ، فذهبت في الوصل ، وهو تخفيف غير قياسي ، كما قال الشاعر : @ فارعى فزارة لا هناك المرتع @@ وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله : { أو لم يروا } ، وفي : { فانظروا كيف بدأ الخلق } ، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات ، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود ، وقوله : { ثم يعيده } ، وقوله : { ثم الله ينشىء } ، ليس داخلاً تحت الرؤية ولا تحت النظر ، فليس { ثم يعيده } معطوفاً على يبدىء ، ولا { ثم ينشىء } داخلاً تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان ، إخباراً من الله تعالى بالإعادة بعد الموت . وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجباً مقطوعاً بعامته ، ولا شك فيه . وقال قتادة : { أو لم يروا } ، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت ؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر ، حتى إلى التراب ؟ وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة ؛ وباقي السبعة : النشأة ، على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي فتنشئون النشأة . وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله : { كيف يبدىء الله الخلق } ، ثم أضمر في قوله { ثم يعيده } ، وهنا عكس أضمر في بدا ، ثم أبرزه في قوله : { ثم الله ينشىء } ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه . ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي { ينشىء النشأة الآخرة } ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه . والآخرة صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة . ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها . ثم أخبر بأنه { يعذب من يشاء } ، أي تعذيبه ، { ويرحم من يشاء } رحمته ، وبدأ بالعذاب ، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل . { وإليه تقلبون } : أي تردون . وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . { وما أنتم بمعجزين } : أي فائتين ما أراد الله لكم . { في الأرض ولا في السماء } ، إن حمل السماء على العلو فجائز ، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصاً بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ، أي لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى : @ ولو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم ليعتورنك القول حتى تهزه وتعلم أني فيك لست بمجرم @@ وقوله تعالى : { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض } [ الرحمن : 33 ] ، على تقدير الحكم لو كنتم فيها ، { والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] . وقال ابن زيد ، والفراء : التقدير : ولا من في السماء ، أي يعجز إن عصى . وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وأنشد قول حسان : @ فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء @@ أي : ومن ينصره ، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر ، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته . وأبعد من هذا القول قول من زعم أن التقدير : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجنّ ، ولا من في السماء من الملائكة ، فكيف تعجزون الله ؟ وقرأ الجمهور : { يئسوا } ، بالهمز ؛ والذماري ، وأبو جعفر : بغير همز ، بل بياء بدل الهمزة ، وهو وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة . وقيل : { من رحمتي } . وقيل : من ديني ، فلا أهديهم . وقيل : هو وصف بحالهم ، لأن المؤمن يكون دائماً راجياً خائفاً ، والكافر لا يخطر بباله ذلك . شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة . والظاهر أن قول : { وإن تكذبوا } ، من كلام الله ، حكاية عن إبراهيم ، إلى قوله : { عذاب أليم } . وقيل : هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه ، أي وإن تكذبوا محمداً ، فتقدير هذه الجملة اعتراضاً يردّ على أبي علي الفارسي ، حيث زعم أن الأعتراض لا يكون جملتين فأكثر ، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي ، من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله . وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد .