Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 24-35)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أمرهم بعبادة الله ، وبين سفههم في عبادة الأوثان ، وظهرت حجته عليهم ، رجعوا إلى الغلبة ، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم : { اقتلوه أو حرّقوه } . والآمرون بذلك ، إما بعضهم لبعض ، أو كبراؤهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه ، فتستريحوا منه عاجلاً ، أو حرّقوه بالنار ؛ فإما أن يرجع إلى دينكم ، إذا أمضته النار ؛ وإما أن يموت بها ، إن أصر على قوله ودينه . وفي الكلام حذف ، أي حرّقوه في النار ، { فأنجاه الله من النار } . وتقدمت قصته في تحريقه في سورة { اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] . وجمع هنا فقال : الآيات ، لأن الإنجاء من النار ، وجعلها برداً وسلاماً ، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم ، وإن صح ما نقل من أن مكانها ، حالة الرمي ، صار بستاناً يانعاً ، هو مجموع آيات ، فناسب الجمع ، بخلاف الإنجاء من السفينة ، فإنه آية واحدة ، وتقدم الكلام على ذلك ، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه ؛ فيما قال كعب : لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به . وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه ، فقد يكون ذلك من قائلين : ناس أشاروا بالقتل ، وناس أشاروا بالإحراق . وفي اقترب قالوا : { حرقوه } [ الأنبياء : 68 ] اقتصروا على أحد الشيئين ، وهو الذي فعلوه ، رموه في النار ولم يقتلوه . وقرأ الجمهور : { جواب } ، بالنصب ؛ والحسن ، وسالم الأفطس : بالرفع ، اسماً لكان . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، والأعمش عن أبي بكر : مودة بالرفع ، وبينكم بالنصب . فالرفع على خبر إن ، وما موصولة بمعنى الذي ، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودوداً ، أو سبب مودة ، أو مصدرية ، أي إن اتخاذكم أوثاناً مودة ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي مودة بينكم ، وما إذ ذاك مهيئة . وروي عن عاصم : مودة ، بالرفع من غير تنوين ؛ وبينكم بالفتح ، أي بفتح النون ، جعله مبنياً لإضافته إلى مبني ، وهو موضع خفض بالإضافة ، ولذلك سقط التنوين من مودة . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وابن كثير : كذلك ، إلا أنه خفض نون بينكم . وقرأ ابن عامر ، وعاصم : بنصب مودة منوناً ونصب بينكم ؛ وحمزة كذلك ، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض ، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة . واتخذ ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين ، والثاني هو مودة ، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم ، على حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودّة بينكم ، كقوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] ، أو مما تعدت إلى واحد ، وانتصب مودة على أنه مفعول له ، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها ، كما يجتمع ناس على مذهب ، فيقع التحاب بينهم . وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف ، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض ، فلذلك لم أذكر تلك القراءة . { ثم يوم القيامة } يقع بينكم التلاعن ، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام ، كقوله : و { يكونون عليهم ضداً } [ مريم : 82 ] . و { بينكم } ، و { في الحياة } : يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما ، إذ هما ظرفا مكان وزمان ، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين ، فيكونان في موضع الصفة ، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق { في الحياة } . باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة ، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية ورفع موده ، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر . وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق { في الحياة } بمودة ، وأن يكون { بينكم } صفة لمودة ، وهو لا يجوز ، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل ، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف ، بخلاف المفعول به . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم ، قال : لأن معناه : اجتماعكم أو وصلكم . وأجاز أيضاً أن يجعله حالاً من بينكم ، قال : لتعرفه بالإضافة . انتهى ، وهما إعرابان لا يتعقلان . { فآمن له لوط } : لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام ، حين رأى النار لم تحرقه ، وكان ابن أخي سارة ، أو كانت بنت عمه . والضمير في { وقال } عائد على إبراهيم ، وهو الظاهر ، ليتناسق مع قوله : { ووهبنا له إسحاق } ، وهو قول قتادة والنخعي . وقالت فرقة : يعود على لوط ، وهاجر ، وإبراهيم ، عليهم السلام ، من قريتهما كوثى ، وهي في سواد العراق ، من أرض بابل ، إلى فلسطين من أرض الشام . وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في الله . وقال ابن جريج : هاجر إلى حران ، ثم إلى الشام ، وفي هجرته هذه كانت معه سارة . والمهاجر : الفارغ عن الشيء ، وهو في عرف الشريعة : من ترك وطنه رغبة في رضا الله . وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المهاجرون ، قبل فتح مكة . { إلى ربي } ، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها . وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي . وقيل : مهاجراً من خالفني من قومي ، متقرباً إلى ربي . ونزل إبراهيم قرية من أرض فلسطين ، وترك لوطاً في سدوم ، وهي المؤتفكة ، على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام . { أنه هو العزيز } الذي لا يذل من عبده ، { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها . والضمير في { ذريته } عائد على إبراهيم . { النبوة } : إسحاق ، ويعقوب ، وأنبياء بني إسرائيل ، وإسماعيل ، ومحمد خاتمهم ، صلى الله وسلم عليهم أجمعين . { والكتاب } : اسم جنس يدخل فيه التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، والفرقان . { وآتيناه أجره في الدنيا } : أي في حياته قال مجاهد : نجاته من النار ، ومن الملك الجبار ، والعمل الصالح : والثناء الحسن ، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج : والولد الذي قرت به عينه ، قاله الحسن . وقال السدي : إنه رأى مكانه من الجنة . وقال ابن أبي بردة : ما وفق له من عمل الآخرة . وقال الماوردي : بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لنبي غيره . وقيل : النبوة والحكمة . وقيل : الصلاة عليه إلى آخر الدهر . وانتصب لوطاً بإضمار اذكر ، أو بالعطف على إبراهيم ، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم . والجمهور : على الاستفهام في أئنكم معاً . وقرىء : أنكم على الخبر ، والثاني على الاستفهام . وقال أبو عبيد : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين ، الياء والنون . ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة الله ، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب ، لأن لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه ، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة الله وتوحيده ، واشتهر أمره بذلك عند الخلق ، فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها . وأما أبراهيم وشعيب فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله ، فلذلك دعوا إلى عبادة الله . قال الزمخشري : { ما سبقكم بها } جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة ؟ فقيل : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط . انتهى . ويظهر أن { ما سبقكم بها } جملة حالية ، كأنه قال : أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها ؟ واستفهم أولاً وثانياً استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله : { إنكم لتأتون الفاحشة } ، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله : { ما سبقكم بها } ، فقال : { أئنكم لتأتون الرجال } : يعني في الأدبار ، { وتقطعون السبيل } : الولد ، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال ، أو بإمساك الغرباء لذلك الفعل حتى انقطعت الطرق ، أو بالقتل وأخذ المال ، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في التجارات . { وتأتون في ناديكم } : أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس ، إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة ، ولا يسمى نادياً إلاّ ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه ، لم يطلق عليه ناد إلاّ مجازاً . و { المنكر } : ما تنكره العقول والشرائع والمروءات ، حذف الناس بالحصباء ، والاستخفاف بالغريب الخاطر ، وروت أم هانىء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً ، قاله منصور ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد ؛ أو تضارطهم ؛ أو تصافعهم فيها ، قاله ابن عباس ؛ أو لعب الحمام ؛ أو تطريف الأصابع بالحناء ، والصفير ، والحذف ، ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، قاله مجاهد أيضاً ، أو الحذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح ، قاله ابن عباس أيضاً مع شركهم بالله . كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة ، تظالم فيما بينهم ، وبشاعة ، ومضاريط في مجالسهم ، وحذف ، ولعب بالنرد والشطرنج ، ولبس المصبغات ، ولباس النساء للرجال ، والمكوس على كل عابر ؛ وهم أول من لاط ومن ساحق . ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح ، أصروا على اللجاج في التكذيب ، فكان جوابهم له : { أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } ، فيما تعدنا به من نزول العذاب ، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به . وفي آية أخرى : { إلاّ أن قالوا أخرجوا آل لوط } [ النمل : 56 ] ، الجمع بينهما أنهم أولاً قالوا : { ائتنا بعذاب الله } ، ثم أنه كثر منه الإنكار ، وتكرر ذلك منه نهياً ووعظاً ووعيداً ، { قالوا أخرجوا آل لوط } . ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي ، ويعد على ذلك بالعذاب ، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه ، { قالوا ائتنا بعذاب الله } ، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم : { اقتلوه أو حرّقوه } ، لأنه كان لا يذم آلهتهم ، وعهد إلى أصنامهم فكسرها ، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه ، فكان جوابهم له : { أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } . ثم استنصر لوط عليه السلام ، فبعث ملائكة لعذابهم ، ورجمهم بالحاصب ، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعاً وكرهاً ، وخصوصاً تلك المعصية المبتدعة . { بالبشرى } : هي بشارته بولده إسحاق ، وبنافلته يعقوب ، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم ، و { القرية } : سدوم ، وفيها قيل : أَجْوَر من قاضي سدوم . { كانوا ظالمين } : أي قد سبق منهم الظلم . واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون ، وظلمهم : كفرهم وأنواع معاصيهم . ولما ذكروا لإبراهيم : { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } ، أشفق على لوط فقال : { إن فيها لوطاً } . ولما عللوا الإهلاك بالظلم ، قال لهم : فيها من هو بريء من الظلم ، { قالوا نحن أعلم بمن فيها } : أي منك ، وأخبر بحاله . ثم أخبروه بإنجائهم إياه { وأهله إلاّ امرأته } . وقرأ حمزة ، والكسائي : { لننجينه } ، مضارع أنجى ؛ وباقي السبعة : مضارع نجى ؛ والجمهور : بشد النون ؛ وفرقة : بتخفيفها . { ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلاّ أن هنا زيدت ، أن بعد لما ، وهو قياس مطرد . وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لما أحس بمجيئهم ، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه . انتهى . وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه ، إذ مذهبه . أن لما : حرف لا ظرف ، خلافاً للفارسي ، وهذا مذكور في علم النحو . وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : { منجوك } ، مشدداً ؛ وباقي السبعة : مخففاً ، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر . { وأهلك } : منصوب على إضمار فعل ، أي وننجي أهلك . ومن راعى هذا الموضع ، عطفه على موضع الكاف ، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب ، وأهلك معطوف عليه ، لأن هذه النون كالتنوين ، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله . وقرأ الجمهور : سيء ، بكسر السين ؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي . وقرأ عيسى ، وطلحة : سوء ، بضمها ، وهي لغة بني هذيل . وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما : قول وبوع . وقرىء : منزلون ، مخففاً ومشدداً ؛ وابن محيصن : رجزاً ، بضم الراء ؛ وأبو حيوة والأعمش : بكسر سين يفسقون . والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية ، فقال ابن عباس : منازلهم الخربة . وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم ، إلا أن أساسها أعلاها ، وسقوفها أسفلها إلى الآن . وقال الفراء : المعنى تركناها آية ، يقول : إن في السماء لآية ، يريد أنها آية . انتهى ، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب ، نحو قوله : أمهرت منها جبة وتيساً ، يريد : أمهرتها ؛ وكذلك : { ولقد تركناها آية } [ القمر : 15 ] ، وقيل : الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم ، فقيل : الآية : الحجارة التي أدركتها أوائل هذه الأمة ، قاله قتادة ؛ وقيل : الماء الاسود على وجه الأرض ، قاله مجاهد ؛ وقيل : أنجز ما صنع بهم . و { لقوم } : متعلق بتركنا ، أو ببيتة .