Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 113-120)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الآناء : الساعات . وفي مفردها لغات أني كمعى ، وأنى كفتى ، وأنى كنحى ، وأتى كظبى ، وانو كجرو . الصر : البرد الشديد المحرق . وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال : @ لا تعدلن إناء بين تضر بهم نكباء صرّ بأصحاب المحلات @@ وقالت ليلى الأخيلية : @ ولم يغلب الخصم الألد ويملأ الـجـفان سديفاً يوم منكباء صرصر @@ وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير . وهو الصوت من قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر . وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي في الريح . البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار . يقال : بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به ، داخلاً في أمره . وقال الشاعر : @ أولئك خلصاني نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب @@ ألوت في الأمر : قصرت فيه . قال زهير : @ سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا @@ أي لم يقصروا . الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان . يقال : في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب . والخبل والجنون . ويقال : خبله الحب أي أفسده . البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له . الأفواه معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه . ولم تنطق به العرب بل قالت : فم . وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو . العض : وضع الأسنان على الشيء بقوة ، والفعل منه على فِعل بكسر العين ، وهو بالضاد . فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال : @ وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف @@ والعُض بضم العين علف أهل الأمصار مثل : الكسب والنوى المرضوض : يقال منه : أعض القوم إذا أكل إبلهم العض . وبعير عضاضيّ أي سمين ، كأنه منسوب إليه . والعِض بالكسر الداهية من الرجال . الأنامل جمع أنملة ، ويقال : بفتح الميم وضمها ، وهي أطراف الأصابع . قال ابن عيسى : أصلها النمل المعروف ، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة . ومنه رجل نمل : أي نمام . الغيض : مصدر غاضة ، وغيض اسم علم . الفرح : معروف يقال منه : فرح بكسر العين . الكيد : المكر كاده يكيده مكر به . وهو الاحتيال بالباطل . قال ابن قتيبة : وأصله المشقة من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت . { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } سبب النزول إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود ، وقول الكفار من أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج . والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله : { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] والأصح : أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ، وسواء خبر ليس . والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها . ومن أهل الكتاب أمة قائمة : مبتدأ وخبر . وقال الفراء : أمة مرتفعة بسواء ، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت هذه الجملة المعادلة ، ودل عليها القسم الأول كقوله : @ عصيت إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها @@ التقدير : أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال : @ أراك فما أدري أهم ضممته وذو الهم قدماً خاشع متضائل @@ التقدير : أم غيره . قال الفراء : لأن المساواة تقتضي شيئين : { سواء العاكف فيه والبادِ } [ الحج : 25 ] { سواء محياهم ومماتهم } [ الجاثية : 21 ] . ويضعف قول الفراء من حيث الحذف . ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر ، إذ التقدير : ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا ، وأمة كافرة . وذهب أبو عبيدة : إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها ، في قول الشاعر : @ يلومونني في شراء النخيـ ـل قومي وكلهم ألوم @@ واسم ليس : أمّة قائمة ، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة . قال ابن عطية : وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى . ولم يبين جهة الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط ، وأنه لا محذوف . ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً . قيل : وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث ، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها ، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر انتهى . وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم : إنها لغة ضعيفة ، وكثيراً ما جاءت في الحديث . والإعراب الأول هو الظاهر . وهو : أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء { تأمرون بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] بياناً لقوله : { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى . وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام ، أي استقام . قال مجاهد والحسن وابن جريج : عادلة . وقال ابن عباس وقتادة والربيع : قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية . وقال السدي : قانتة مطيعة ، وكلها راجع للقول الأوّل . وقال ابن مسعود والسدي : الضمير في ليسوا عائد على اليهود . وأمة محمد صلى الله عليه وسلم إذ تقدم ذكر اليهود وذكرُ هذه الأمة في قوله : " كنتم خير أمة " . والكتاب على هذا القول جنسُ كتب الله ، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط . والمراد بقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن . والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله : { ولو آمن أهل الكتاب } [ آل عمران : 110 ] لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا . وقال عطاء : من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم . وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس . { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله ، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن . وقوله : وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضاً معطوفة على يتلون ، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود . فتلاوة القرآن في القيام ، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة . وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم ، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وأخبر عن المبتدأ بالمضارع ، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة ، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده . وظاهر قوله : آناء الليل أنها جميع ساعات الليل . فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود ، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة . وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل ، أو قبله بقليل ، والقائم طول الليل قليل ، وقد كان في الصالحين مَنْ يلتزمه ، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل . وآناء الليل : ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما . وقال السدي : جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء ، إذ الجوف فرد من الجمع . وعن منصور : أنها نزلت في المصلين بين العشاءين ، وهو مخالف لظاهر قوله : { يتلون آيات الله آناء الليل } . وعن ابن مسعود : أنها صلاة العتمة . وذكر أنّ سبب نزولها هو " احتباكُ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل ، فجاءوا منّ المصلي ومنا المضطجع فقال : " أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة " " ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله : ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة ، وهو خلاف الظاهر . والظاهر من قوله : وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة . وقيل : عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه ، كما يعبر عنها بالركوع قاله : مقاتل ، والفراء ، والزجاج . لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود ، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال ، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة . وقيل : سجود التلاوة . وقيل : أريد بالسجود الخشوع والخضوع . وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأوّل ، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود ، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير صلاة . ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل . وأجاز بعضهم في قوله : وهم يسجدون أن يكون حالاً من الضمير في قائمة ، وحالاً من أمة ، لأنها قد وصفت بقائمة . فتلخص في هذه الجملة قولان : أحدهما : أنها لا موضع لها من الإعراب ، بأن تكون مستأنفة . والقول الآخر : أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعاً بأن يكون في موضع الصفة ، أو بأن يكون نصباً بأن يكون في موضع الحال ، إما من الضمير في يتلون ، أو من الضمير في قائمة ، أو من أمة . ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل ، وقد جاء في كتاب الله : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [ الإِسراء : 79 ] { أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } [ الزمر : 49 ] { يا أيها المزمّل * قم الليل } [ المزمل : 1 2 ] . وفي الحديث : " يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه " وقبله ، " نعم الرجل عبد الله إلا أنه لا يقوم من الليل " وغير ذلك كثير . وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال : إنا نجد كلاماً من كلام الرب عزّ وجل : أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل . { يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } تقدم تفسير مثل هذه الجمل . { ويسارعون في الخيرات } المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ، لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي . وجاء في الحديث : " اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك " وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة الله ، بادروا إلى فعله . والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة . وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون ، وأن تكون بدلاً من السجود . قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان . قال الزمخشري : وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان ، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى كلامه . وهو حسن . ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست : إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم . ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل . الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل . الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل . وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً . الرابعة : الأمر بالمعروف . الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين . السادسة : المسارعة في الخيرات . وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم . وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان . { وأولئك من الصالحين } هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله . قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى . ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وفيما قاله الزمخشري بعد بل : الظاهر أنَّ في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ] وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ البقرة : 130 ] وقال تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين } [ الأَنبياء : 72 ] وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل : { وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين * وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين } [ الأَنبياء : 85 86 ] . وقال : { والشهداء والصالحين } [ النساء : 69 ] ومن للتبعيض . وقال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى . ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه . { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب ، واختلفوا في المخاطب . فقال أبو حاتم : هو مردود إلى قوله : { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله . وقال مكي : التاء فيها عموم لجميع الأمة . والذي يظهر أنها التفات إلى قوله : أمة قائمة ، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم ، فخاطبهم بأنّ ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه . ولذلك اقتصر على قوله : من خير ، لأنه موضع عطف عليهم وترحم ، ولم يتعرض لذكر الشرّ . ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده . ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة الياء ، وهي قراءة : ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، واختيار أبي عبيد ، وباقي رواة أبي عمرو ، خير بين التاء والياء ، ومعلوم في هذه القراءة ، ومعلوم في هذه القراءة ، أن الضمير عائد على أمة قائمة ، كما عاد في قوله تعالى : يتلون وما بعده . وكفر : يتعدّى إلى واحد ، يقال : كفر النعمة ، وهنا ضمن معنى حرم ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب ، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب ، أي حرمانه . { والله عليم بالمتقين } لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة ، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين ، وإن كان عالماً بالمتقين وبضدهم . ومعنى عليم بهم : أنه مجازيهم على تقواهم ، وفي ذلك وعد للمتقين ، ووعيد للمفرطين . { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة . { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة . وأنه لما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين . { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض . قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم . وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم . وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر . وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين . قال الزمخشري : شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً . وقيل : هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى . وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ، ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفس . مَنْ زرع قوم نبت واخضرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى . والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ ينفقونه . والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث . فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري . وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين . وهذا اختيار ابن عطية . قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } [ البقرة : 171 ] انتهى . ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون . أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح . وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح . وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال . وقال السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها . ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون . وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق ، كما يبطل الريح الزرع . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى . وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى . وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : { بل هو ما استعجلتم به ريح } [ الأحقاف : 24 ] { ولئن أرسلنا ريحاً } [ الروم : 51 ] { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } [ القمر : 19 ] كـ { الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] . كما أن الجمع مختص بالرحمة أن { يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] { يرسل الرياح بشراً } [ الأعراف : 57 ] ولذلك روي : " اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح . فإنْ كان الصر البرد وهو قول : ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة . فظاهر كون ذلك في الريح . وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرٍّ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه . أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة . كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء . وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف . المعنى الرحمن كاف ، والله كاف . وهذا فيه بعد . وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح . بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة . وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم . وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم . وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد . ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه . وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل . وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي . { وما ظلمهم الله } جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم . وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي . وقال ابن عطية : الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم . وأيضاً قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى . وهو ترجيح حسن . وقرىء شاذاً : ولكنَّ بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون . والمعنى : يظلمونها هم . وحسنٌ حذفُ هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى . ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن . وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر . { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله : ابن عباس . وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع : نزلت في المنافقين . نهى اللهُ المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان من ثوبه . يقال : له بطانة ووليجة . وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ، وقدّره الزمخشري : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون . وقيل : يتعلق من بقوله : لا تتخذوا . وقيل : مِنْ زائدة ، أي بطانة دونكم . والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين . ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم . وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً ، وتلا عليه هذه الآية . وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك ؟ فقال : إذن أتخذ بطانة . والجملة من قوله : { لا يألونكم خبالاً } لا موضع لها من الإعراب ، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة ، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة . ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من ، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح . لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم . والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما . وألا متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه . وقيل : انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : { وفجرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ] التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم . فكان أصل هذا المفعول حرف الجر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا يألونكم في تخبيلكم . وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال . قال ابن عطية : معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم . فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط في . وقال الزمخشري : يقال : أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى . { ودوا ما عنتم } قال ابن جرير : ودّوا إضلالكم . وقال الزجاج : مشقتكم . وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى . ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله انهياض العظم بعد جبره . وما في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها . وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة ، وحالاً من الضمير في يألونكم ، وقد معه مرادة . { قد بدت البغضاء من أفواههم } وقرأ عبد الله : قد بدا ، لأنّ الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم . وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم ، كما يقال : كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها . وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى . ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن . ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال : { وما تخفي صدورهم أكبر } أي أكثر مما ظهر منها . والظاهر أنَّ بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي اظهروا للمؤمنين البغض . وقال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . وقيل : بدت بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر . وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً ، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] . { قد بينا لكم الآيات } أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار . { إن كنتم تعقلون } أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إنْ كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وقال ابن جرير : معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه . وقيل : إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء . وقيل : معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء . { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } تقدّم لنا الكلام على نظيرها ، أنتم أولاء في قوله : { ها أنتم هؤلاء حاججتم } [ آل عمران : 66 ] قراءة وإعراباً . وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم ، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة ، على أن يكون أولاء موصولاً أو خبراً لأنتم ، وأولاء مناداً ، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً ، وتحبونهم خبر عنه ، والجملة خبر عن الأوّل . أو يكون أولاء في موضع نصب نحو : أنا زيداً ضربته ، فيكون من الاشتغال . واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم ، لأن أنتم خطاب للمؤمنين ، وأولاء إشارة إلى الكافرين . وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد . وهو : المؤمنون . وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم ، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم . بيان لخطئهم في موالاتهم حيثُ يبذلون المحبة لمن يبغضهم ، وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود . وفي الزمخشري : لمنافقي أهل الكتاب . والذي يظهر أنّه عائد على بطانة من دون المؤمنين ، فهو كل منافق حتى منافق المشركين . والمحبة هنا : الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس . أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله : أبو العالية : أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله : قتادة . أو إرادة الإسلام لهم قاله : المفضل والزجاج . وهذا ليس بجيد ، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر ، أو المصافاة ، لأنها من ثمرة المحبة . { وتؤمنون بالكتاب كله } ، الكتاب : اسم جنس ، أي بالكتب المنزلة قاله : ابن عباس . والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة ، وثم جملة محذوفة تقديرها : ولا تؤمنون به كله بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض . يدلُّ عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم . والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم ، فلها من الإعراب ما لها . وقال الزمخشري : والواو في وتؤمنون للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم . والحال : إنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصل منكم في حقكم ونحوه . { فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون } [ النساء : 104 ] انتهى كلامه وهو حسن . إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو : أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال ، وأنها منتصبة من لا يحبونكم . والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ الحال تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز ويضحك . فأما قولهم : قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ . وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه ، فتصير الجملة اسمية . ويحتمل هذا التأويل هنا ، أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف . قال ابن عطية : وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود ، لا منافقي العرب . ويعترضها : أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي . فلم يبق إلا أنَّ قولهم : آمنا ، معناه صدّقنا أنه نبي مبعوث إليكم . أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودّة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة . وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه . ويدل على هذا التأويل أنَّ المعادل لقولهم : آمنا غض الأنامل من الغيظ ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } [ البقرة : 14 ] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودّة . وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الأباضية . وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه . وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر ، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره . ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ، إذ وجد ذلك في جنسهم . وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } [ آل عمران : 72 ] . { وإذا لقوكم قالوا آمنا } هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث ، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان ، ولكنَّهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون . { وإذا خلوا } أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم . والمعنى : خلت مجالسهم ، منكم ، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز . { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون . ومنه قول أبي طالب : @ وقد صالحوا قوماً علينا أشحة يعضون عضاً خلفنا بالأباهم @@ وقال الآخر : @ إذا رأوني أطال الله غيظهم عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم @@ وقال الآخر : @ وقد شهدت قيس فما كان نصرها قتيبة إلا عضها بالأباهم @@ وقال الحرث بن ظالم المرّي : @ وأقتل أقواماً لئاماً أذلة يعضون من غيظ رؤوس الأباهم @@ ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام . وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة . كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت . وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه . ويحتمل أن لا يكون ثَمَّ عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم . ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من : بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه ، جدير بأن لا يتخذ صديقاً . { قل موتوا بغيظكم } ظاهره : أنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول لهم ذلك . وهي صيغة أمر ، ومعناها الدّعاء : أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لمّا يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري . وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو مواجهة . وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا . فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي معنى التقريع ، قاله : ابن عطية . وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه . وقال الزمخشري : دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه . وليس ما فسر به ظاهر قوله : { قل موتوا بغيظكم } ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت بدائك ، أي أبقى الله داءك حتى تموت به . لكنْ في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا يدل عليه لفظ القرآن . قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمراً لماتوا من فورهم كما جاء { فقال لهم الله موتوا } [ البقرة : 243 ] . وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن دعوته لا ترد . وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] ، " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " قيل : ويجوز أن لا يكون ثم قول ، وإنْ يكون أمراً بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك . { إن الله عليم بذات الصدور } قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول ، والمعنى : أخبرْهُم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه . ويجوز أنْ لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم . والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به . والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب . فأصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه . ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار . واختلفوا في الوقف على ذات . فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء مراعاة لرسم المصحف . وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث . { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع . والسيئة ضد ذلك . بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة . قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان المعنى واحداً . ألا ترى إلى قوله : { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة } [ التوبة : 50 ] الآية { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] { إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً } [ المعارج : 20 21 ] وقال ابن عطية : ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن . لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه . فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه . والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي . وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة . قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ، والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم . والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف بينكم . وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة . والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة . وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة . والسيئة المصيبة . وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين . { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } قال ابن عباس : وإن تصبروا على أذاهم ، وتتقوا الله ، ولا تقنطوا ، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر . وقال مقاتل : وإنْ تصبروا على أمر الله ، وتتقوا مباطنتهم . وقال ابن عباس أيضاً : وإنْ تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك . وقيل : وإنْ تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي . وقيل : وإن تصبروا على حربهم . والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر ، ولا متعلق التقوى . لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه ، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله . فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى . وفي هذا تبشير للمؤمنين ، وتثبيت لنفوسهم ، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى . وقرأ الجمهور : أن تمسسكم بالتاء . وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل ، لأن تأنيث الحسنة مجازى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه : لا يضركم من ضار يضير . ويقال : ضار يضور ، وكلاهما بمعنى ضرَّ . وقرأ الكوفيون وابن عامر : لا يضرُّكم بضم الضاد والراء المشدّدة ، من ضرّ يَضُرُّ . واختلف ، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك : مدّ ؟ ونسب هذا إلى سيبويه ، فخرج الإعراب على التقديم . والتقدير : لا يضركم أن تصبروا ، ونسب هذا القول إلى سيبويه . وخرج أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس ، مع إضمار الفاء . والتقدير : فليس يضركم ، وقاله : الفراء والكسائي . وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه : بضم الضاد ، وفتح الراء المشددة . وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد ، والفتح هو الكثير المستعمل . وقرأ الضحاك : بضم الضاد ، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين . وقال ابن عطية : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة ، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى . وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك . وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز ، وعليها في الآية إن يمسَسْكم . ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله . { إن الله بما يعملون محيط } من قرأ بالياء فهو وعيد ، والمعنى : محيط جزاؤه . وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان . ومن قرأ بالتاء وهو : الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار ، أو على إضمار قل : لهم يا محمد . أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار . قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة . منها : الوصل والقطع في { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } . والتكرار : في أصحاب النار هم . والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون . والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون بالله واليوم الآخر . والمقابلة : في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر . ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً ، وفي حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا . والاختصاص : في عليم بالمتقين ، وفي أموالهم ولا أولادهم ، وفي كمثل ريح ، وفي حرث قوم ظلموا أنفسهم ، وفي عليم بذات الصدور . والتشبيه : في مثل ما ينقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين ، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة . شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة . وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون وآمنا ، وفي من الغيظ وبغيظكم . والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفروه على قراءة من قرأ بالتاء ، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين . وتسمية الشيء باسم محله : في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها . والحذف في مواضع .