Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 102-112)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أصبح : من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح . وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً ، وتأتي أيضاً لازمة تقول : أصبحت أي دخلت في الصباح . وتقول : أصبح زيد ، أي أقام في الصباح ومنه . إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح ، أي مقيم في الصباح . شفا الشيء طرفه وحرفه ، وهو من ذوات الواو ، وتثنيته : شفوان ، وهو حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار . ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو : شفا جرف . وإلى الأسف نحو : شفا حفرة . ويقال : أشفى على كذا أي أشرف . ومنه أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل … الحفرة : معروفة وهي واحدة الحفر ، فعلة بمعنى مفعوله ، كغرفة من الماء . أنقذ خلص . الابيضاض والاسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض . وسود : فهو أسود ، ويقال : هما أصل الألوان . ذاق الشيء استطعمه ، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم . تقول العرب : قد ذقتُ من إكرام فلان ما يرغبني في قصده . ويقولون : ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده . وقال تميم بن مقبل : @ أو كاهتزاز رديني تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا @@ وقال آخر : @ وإن الله ذاق حلوم قيس فلما راء خفتها قلاها @@ يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها . ثققت الرجل غلبته وظفرت به . { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } . لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم أولاً بقوله : اتقوا الله ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله : { واذكروا نعمة الله عليكم } وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام . قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . وروي مرفوعاً . وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه . وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع : هي منسوخة بقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ . وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة . { واتقوا الله ما استطعتم } بيان لقوله : اتقوا الله حق تقاته . وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في الله حق جهاده . وقال الماتريدي : وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته . وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام عليه في { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [ آل عمران : 28 ] . قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه ، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إحد فعيل وفاعل بمنزلة . والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه . وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ، إذ الظاهر أنّ قوله : حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيداً شديد الضرب ، أي الضرب الشديد . فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت . أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل : اضرب زيداً حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب على معنى : اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه . بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه . ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ . { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام . والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه . ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك ههنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك . وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله : { إن الله اصطفى لكم الدّين } [ البقرة : 132 ] الآية والجملة من قوله : وأنتم مسلمون حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال . التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام . ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب . وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة . وأمّا لو قيل : مسلمين ، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً . { واعتصموا بحبل الله جميعاً } أي استمسكوا وتحصّنوا . وحبل الله : العهْد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو إخلاص التوحيد ، أو الإسلام . أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض . وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم " وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة ، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير في { واعتصموا } { ولا تفرقوا } نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى . وقيل : عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع . وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد . قال الأولون ، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه . وقال الآخرون : التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام . { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } الخطاب لمشركي العرب قاله : الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم ، إذ كان القويُّ يستبيح الضعيف . وقيل : للأوس والخزرج . ورجح هذا بأن العرب وقت نزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك . إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية . أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام . وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم . وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها . وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل ، ولاتصالها بقوله : { ولا تفرقوا } وصار نظير { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، فأما الذين اسودت } ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم . وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال . وعليه قوله : @ @ أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا @@ @@ قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال . فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا وهذا الذي ذكره : من أن أصبح للاستمرار ، وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما . وجوز الحوفي في " إذ " أن ينتصب باذكروا ، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة . أي إنعام الله ، وبالعامل في عليكم . إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة ، وجوزوا أيضاً تعلق عليكم بنعمة ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجاروالمجرور . وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته . وأن يكون أصبحتم تامة ، وبنعمته متعلق به ، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً ، وإخواناً حال . والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر ، وبنعمته متعلق بأصبحتم ، والباء للسبب لا ظرفية . وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر استعمالهم . وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] والصحيح أنهما يقالان من النسب . وفي الدين : وجمع أخ على إخوة لا يراه سيبويه ، بل أخوة عنده اسم جمع ، لأن فعلاً لا يجمع على فعلة . وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع ، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء . والضمير في منها عائد على النار ، وهو أقرب مذكور ، أو على الحفرة . وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث . كما قال جرير : @ أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال @@ قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا . وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى . وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزئي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه . وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثاً عنه ، وليس أحد جزئي الإسناد . وكذلك لو قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه . أمّا ذكر النار . فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست أيضاً أحد جزئي الإسناد ، لا محدثاً عنها . وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا . فعودُهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها . وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام . وقال السدي : بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : والله ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه . وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم . { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها . وقال الزمخشري : " لعلكم تهتدون " إرادة أن تزدادوا هدىً . وقال ابن عطية : وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الإهتداء . فالزمخشري جعل الترجي مجازاً عن إرادة الله زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى ، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى ، وفي كلا القولين المجاز . أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة الله ، وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر . { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } الأمر متوجه لمن بتوجه الخطاب عليهم . قيل : وهم الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور . وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين ، ومن تابعهم إلى يوم القيامة ، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم . ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل فيه الأوس والخزرج . والظاهرُ أنَّ قوله { منكم } يدل على التبعيض ، وقاله : الضحاك والطبري . لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر ؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ، ونهى عن معروف ، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس . فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض ، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة ، وهم الذين يصلحون لذلك . وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس ، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب ، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة . وظاهر هذا الأمر الفرضية ، فالجمهور على أنه فرض كفاية ، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين . وذهب جماعة ، من العلماء إلى أنه فرض عين ، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكّن منه . واختلفوا في الذي يسقط الوجوب . فقال قوم : الخشية على النفس ، وما عدا ذلك لا يسقطه . وقال قوم : إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه الفرض ، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك بالسنَّة بقولِه صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده ، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ولم يدفع أحد من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك إلا قوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث ، فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح ، مع ما سمعوا من قوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } [ الحجرات : 9 ] وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله ، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح . وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذكر فيه أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة ، وأنه يجب على المسلمين قتلهم ، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول . يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل ، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي ، أو الجهاد والإسلام . وقرأ الجمهور : ولْتكن بسكون اللام . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، والزهري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : بكسرها ، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو . وجوزوا في ( ولتكن ) أن تكون تامة ، فيكون منكم متعلقاً بها ، أو بمحذوف على أنه حال ، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة . وأن تكون ناقصة ، ويدعون الخبر ، وتعلق من على الوجهين السابقين . وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر ، ويدعون صفة . ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر . و { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ذكر أولاً الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك ، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله وشرفه لقوله : { وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] و { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد ، والمنكر بالكفر . ولا شك أن التوحيد رأس المعروف ، والكفر رأس المنكر . ولكنَّ الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع ، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع . وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي إثم من ترك ذلك ، وآثاراً عن الصحابة وغيرهم في ذلك ، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم ؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي ؟ وهذا على آراء المعتزلة . وأما شرائط النهي والوجوب ، ومن يباشر ، وكيفية المباشرة ، وهل ينهى عما يرتكبه ، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وموضوع هذا كله علم الفقه . وقرأ عثمان ، وعبد الله ، وابن الزبير : وينهون عن المنكر ، ويستعينون الله على ما أصابهم . ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف ، فلا يكون قرآناً . وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } [ لقمان : 17 ] وأولئك هم المفلحون : تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة . وهو تبشير عظيم ، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة . { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } فشرح الاعتصام بحبل الله بقوله : { ولتكن منكم أمة } ولا سيما على قول الزجاج . وشرح { ولا تفرقوا } بقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } قال ابن عباس : هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين . وقال الحسن : هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقاً . وقال : قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة . زاد الزمخشري : وهم المشبهة ، والمجبرة ، والحشوية ، وأشباههم . وقال أبو أمامة : هم الحرورية ، وروي في ذلك حديث : قال بعض معاصرينا : في قول قتادة وأبي أمامة نظر ، فإنّ مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمان ، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فإنّك لا تنهى زيداً أنْ يكونَ مثلَ عمرو إلا بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو ، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أُريد به المستقبل ، فيكون المعنى : ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون ، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع . انتهى كلامه . والبيِّناتُ على قول ابن عباس : آياتُ الله التي أنزلت على أهل كل ملة . وعلى قول الحسن : التوراة . وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن { وأولئك لهم عذاب عظيم } يتّصفُ عذابُ الله بالعظيم ، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذَّبين ، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . { يوم تبيضُّ وجوه وتسودّ وجوه } الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون . والبياض من النور ، والسواد من الظلمة . قال الزمخشري : فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب . انتهى كلامه . وقال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره . ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم : " أأنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء " وأما سوادُ الوجوه فقال المفسرون : هو عبارة عن ارتدادها وإظلامها بغمم العذاب . ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة . ومن ذلك قول بشار : @ وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود @@ انتهى كلامه . وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى : { ظل وجهه مسوداً } [ الزخرف : 17 ] وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه . ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه . وقال أبو طالب : @ وأبيـض يستسقـي الغمـام بوجهـه @@ وقال امرؤ القيس : @ وأوجههـم عنـد المشاهـد غـران @@ وقال زهير : @ وأبيـض فيـاض يـداه غمامـة @@ وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى . وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه . والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب . وقيل : وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير . وقيل : وجوه السنة ، ووجوه أهل البدعة . وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين . وقيل : وجوه المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين . وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار من الزحف . وقيل : تبيضّ بالقناعة ، وتسودّ بالطمع . وقال الكلبي : تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر . واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور . وقيل : وقت قراءة الصحف . وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان . وقيل : عند قوله : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } [ يس : 59 ] . وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في { يوم تبيض } ما يتعلق به . ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه . وقال الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه . وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم . وقال قوم : العامل عظيم ، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف . وقرأ يحيـى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك : تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما . ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد ، ولم ينقل أنه قرىء بذلك . { فأما الذين اسودّت وجوههم ، أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ . وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم } [ الرعد : 23 24 ] أي يقولون : سلام عليكم . ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله : @ فأمّا القتال لا قتال لديكم ولكنّ سيرا في عرض المواكب @@ يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف . يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : { وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } [ الجاثية : 31 ] تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى : { فإمّا يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ البقرة : 38 ] فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأمّا ما اعترض به من قوله : { وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي } [ الجاثية : 31 ] وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف . وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر : @ يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبر @@ يريد : يكبر وقول الآخر : @ لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي جلدها بتذبذب @@ يريد : تركت . وقال زهير : @ أراني إذا ما بت بتّ على هوى فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا @@ يريد ثم . وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد . والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فإلم تكن آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } [ يوسف : 109 ] وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء . فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء . كذلك تكون في { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل . فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين . وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه . وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين . وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو . وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك . وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما . وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم ، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأمّا قول هذا الرّجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فإما يأتينكم } [ البقرة : 38 ] الآية . وزعمه أن قوله تعالى : { فلا خوف عليهم } [ البقرة : 38 ] جواب للشرطين . فقولٌ روي عن الكسائي . وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه . والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول . وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : { فإما يأتينكم } [ البقرة : 38 ] الآية . والهمزة في { أكفرتم } للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم . والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذرّّ ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان . وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم . وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله : { أكفرتم } . قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما كنتم ، الباء سببية وما مصدرية . { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم . ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى . وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب . وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : { فذوقوا العذاب } [ آل عمران : 106 ] ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف . وأصل افعلّ هذا افعلل يدل ، على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، واعور . وأن لا يكون من مضعف كاحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأنْ لا يكون للمطاوعة . وندر نحو : انقضّ الحائط ، وابهار الليل ، وإشعار الرجل بفرق شعره ، وشذ إرعوى ، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته . وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما . وقد يكون العكس . فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : { مدهامتان } [ الرحمن : 64 ] ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : { تزاور عن كهفهم } [ الكهف : 17 ] واحمرّ خجلاً . وجواب أما ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة . وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده . دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : هم فيها خالدون بعد قوله : ففي رحمة الله ؟ ( قلت ) : موقع الاستئناف . كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى . وهو حسن . وقيل : جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون ، وهم فيها خالدون ابتداء . وخبر وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم . { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين } الإشارة بتلك قيل : إلى القرآن كله . وقيل : إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم ، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق . وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وقيل : تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت . وقال الزمخشري : تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد ، وكذا قال ابن عطية . قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين . وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات ، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف . وقرأ أبو نهيك بالياء . والأحسن أنْ يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على الله ، ليتحد الضمير . وليس فيه التفات ، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب . ومعنى التلاوة : القراءة شيئاً بعد شيء ، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز ، إذ التالي هو جبريلٌ لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى . وقيل : يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئاً بعد شيء . وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائداً على جبريل وإنْ لم يجر له ذكر للعلم به . ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق . وقيل : المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين . وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره ، ونتلوها جملة حالية . قالوا : والعامل فيها اسم الإشارة . وجوزوا أن يكون آيات الله بدلاً ، والخبر نتلوها . وقال الزجاج : في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى . فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف ، لأنّه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية . ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف ، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه . والباء في بالحق باء المصاحبة ، فهي في الموضع الحال من ضمير المفعول أي : ملتبسة بالحق . وقال الزمخشري : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى . فدسّ في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية . ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم ، وإذا لم يرده لم يقع منه لأحد . فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه . روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا " وفي الحديث الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدّنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدّنيا ما عمل لله بها ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها " وقيل : المعنى لا يزيد في إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن ، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل انتهى . وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم ، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير : ظلمه ، والعائد هو ضمير الله تعالى أي : ليس الله مريداً أن يظلم أحداً من العالمين . ونكر ظلماً لأنّه في سياق النفي ، فهو يعم . وقيل : المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض . واللفظ ينبو عن هذا المعنى ، إذ لو كان هذا المعنى مراداً لكان من أحق به من الكلام ، فكان يكون التركيب : وما الله يريد ظلماً من العالمين . وقال الزمخشري : وما الله يريد ظلماً فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، ثم قال : فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرّضا بها ، انتهى كلامه جارياً على مذهبه الاعتزالي . ونقول له : فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد ، وإن إرادة العبد تغلب إرادة الرب تعالى الله عن ذلك . { ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور } لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين ، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به ، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم ، نبه على أنَّ هذا التصرف هو فيما يملكه ، فلا اعتراض عليه تعالى . ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه ، فهو غني عن الظلم ، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصاً به عن الظالم . وتقدم شرح هاتين الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته . قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق : في تبيضّ وتسودّ ، وفي اسودّت وابيضّت ، وفي أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلماً . والتفصيل : في فأمّا وأمّا . والتجنيس : المماثل في أكفرتم وتكفرون . وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة الله هم فيها خالدون . والتكرار : في لفظ الله . ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير . @ لا أرى الموت يسبق الموت شـيء @@ لاتحاد الجملة . لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم . والإشارة في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع . { كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل . وقيل : نزلت في المهاجرين . والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى : كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية . والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكون الإشارة بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فالصحابة هم خيرها . وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم { شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] وقوله : " نحن الآخرون السابقون " الحديث وقوله : " نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها " وظاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر . ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة كقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ الأحزاب : 73 ] { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء : 32 ] وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع . وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة . وقيل : كان هنا تامة ، وخير أمة حال . وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها . وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء . ومنه قوله تعالى : { وكان الله غفوراً } . ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه . فقوله : أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق . فإذا قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم . وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع . وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص . وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال . وقوله : { وكان الله غفوراً } لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا . وقيل : المعنى : كنتم في علم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم . وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله : { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام . وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع . والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها . وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد . وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل . وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً " ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو الله تعالى ، وحذف للعلم به . وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة . وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب . وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف . ومنه { بل أنتم قوم تفتنون } [ النمل : 47 ] " وأنك امرؤ فيك جاهلية " @ وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية كأنك منها قاعد في جوالق @@ وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة . فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف . ومنه : { كنتم خير أمة أخرجت } ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً . والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده . وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت . وقيل : متعلق بخير . ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف . فلما قدم المفعول جر باللام كقوله : { إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد . تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله : الربيع . أو مخرج الشرط في الخيرية ، روي هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج . فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . وقال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى . وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح . وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة . قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي . وإنما الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير . وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى . وهو من كلام محمد بن عمر الرازي . وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله ، لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله . { ويقولون نؤمن ببعض } [ النساء : 150 ] الآية انتهى . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول الله . والظاهر في المعروف ، والمنكر العموم . وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام . وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك . { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم } أي ولو آمن عامّتهم وسائرهم . ويعني الإيمان التام النافع . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول : من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان . وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله . وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا حظ دنيوي . وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين . وقال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه . وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة . { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود . وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده . وهذا يدل على أنّ المراد بقوله : { ولو آمن أهل الكتاب } الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان . وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال . أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر . وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل . والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره . { لن يضرّوكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } هاتان الجملتان تضمنتا الإخبار بمعنيين مستقبلين وهو : إنّ ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى ، أي شيئاً تتأذون به ، لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال . ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم ، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم . والظاهر أن قوله : إلا أذى استثناء متصل ، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير : لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً لا نكاية فيه ، ولا إجحاف لكم . وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم : هو استثناء منقطع ، والتقدير : لن يضروكم لكنْ أذى باللسان ، فقيل : هو سماع كلمة الكفر . وقيل : هو بهتهم وتحريفهم . وقيل : موعد وطعن . وقيل : كذب يتقوّلونه على الله قاله : الحسن ، وقتادة . ودلّت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه ، وعلى تحقير شأن الكفار ، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلاّ ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء . { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } ، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه . وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين ، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر المستمد من الله ، وكلاهما ليس لهم . وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور ، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب . ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ القمر : 45 ] { ومن يولهم يومئذ دبره } [ الأَنفال : 16 ] ثم لا ينصرون : هذا استئنافُ إخبار أنّهم لا ينصرون أبداً . ولم يشرك في الجزاء فيجزم ، لأنه ليس مرتباً على الشرط ، بل التولية مترتبة على المقاتلة . والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، إذ منع النصر سببه الكفر . فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى . وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط . قال : وثم للتراخي ، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط . والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام . قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط . وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي للتراخي في الإخبار . فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس . ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً . وقال الزمخشري : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار . ( فإن قلت ) : ما موقع الجملتين ، أعني منهم : المؤمنون ولن يضروكم ؟ ( قلت ) : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء من غير عاطف . { ضربت عليهم الذلة } تقدم شرح هذه الجملة ، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام . قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية ، وما كانت لهم غيرة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض ، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض . { أينما ثقفوا } عام في الأمكنة . وهي شرط ، وما مزيدة بعدها ، وثقفوا في موضع جزم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال : ضربت هو الجواب ، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً . وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل ، أي ضربت عليهم الذلة ، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم ، ودل ذكر الماضي على المستقبل ، كما دل في قول الشاعر : @ وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغوّرت النجوم @@ التقدير : سقيت ، وأسقية إذا تغوّرت النجوم . { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } هذا استثناء ظاهره الانقطاع ، وهو قول : الفراء ، والزجاج . واختيار ابن عطية ، لأن الذلة لا تفارقهم . وقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال : حميد بن ثور الهلالي : @ رأتنـي بحبليهـا فصـدت مخـافـة @@ ونظر ابن عطية بقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } [ النساء : 92 ] قال : لأن بادىء الرأي يعطى أن له أن يقتل خطأ . وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك . وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره : في أمتنا ، فلا نجاة من الموت إلا بحبل . انتهى كلامه . وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً ، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً . والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه : ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك ، ومنه هذه الآية . على تقدير الانقطاع ، إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم . ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءُو بغضب من الله } [ البقرة : 61 ] فلم يستثن هناك . وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال : وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين . أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه . وهو متجه وشبَّه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقوم ، كما يفعل الحبل في الإجرام . والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان ، وفسر حبل الله بالإسلام ، وحبل الناس بالعهد والذمة . وقيل : حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية . والثاني : هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد . وقيل : المراد حبل واحد ، إذ حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد . { وباءُو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن إعادته هنا .