Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 12-14)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
العبرة : الاتعاظ يقال : منه اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففاً ومثقلاً : نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل : وكان الاعتبار انتقالاً عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه ، العَبرة ، وهي الدمع ، لأنها تجاوز العين . الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شُهى ، نحو : نزوة ونزى ، و : كوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى ، جمع كوة بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام ، وجمع على فعل ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية : @ فلولا الشَّهى والله كنت جديرة بأن أترك اللذات في كل مشهد @@ القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ابن دريد ، فيكون وزنه : فنعالاً من : قطر يقطر وقيل : أصل ووزن فعلال ، وفيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص ؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر ؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء الله تعالى . ويقال منه : قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال وقال الزجاج : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل : قنطرته : عبيته شيئاً على شيء ، ومنه سمي القنطرة . فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة . الذهب : معروف ، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب . وقيل : الذهب جمع ذهبية . والفضة : معروفة ، وجمعها فضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم . الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحده : فرس . وقيل : واحده خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة . سميت بذلك لاختيالها في مشيها . وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه . وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل . النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد . وقال الهروي : النعم ، يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم . وقال ابن قتيبة : الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامى : الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها . المآب : مفعل من آب يؤوب إياباً . أي : رجع ، يكون للمصدر والمكان والزمان . { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر : إن قريشاً كانوا أغماراً ، ولو حاربتنا لرأيت رجالاً . وقيل : نزلت في قريش قبل بدر بسنتين ، فحقق الله تعالى ذلك وقيل : لما غلب قريشاً ببدر ، قالت اليهود : هو النبي المبعوث الذي في كتابنا ، لا تهزم له راية . فقالت لهم شياطينهم : لا تعجلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى . فلما كانت أحد كفروا جميعهم ، وقالوا : ليس بالنبي المنصور . وقيل : في أبي سفيان وقومه ، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر ، فنزلت . ولما أخبر تعالى قيل : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار } [ آل عمران : 10 ] ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق ، وهو كالتوكيد لما قبله ، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد ، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقوداً . وقرأ حمزة ، والكسائي : سيغلبون ويحشرون ، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، خطاباً ، فتكون الجملة معمولاً للقول . ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير : للذين كفروا ، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل ، بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي سيغلبون ، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة . كما قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأَنفال : 38 ] فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون ، وأجاز بعضهم ، وهو : الفراء ، وأحمد بن يحيـى ، وأورده ابن عطية ، إحتمالاً أن يعود الضمير في : سيغلبون ، في قراءة التاء على قريش ، أي : قل لليهود ستغلب قريش ، وفيه بُعْدٌ . والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ، وأبعد من ذهب إلى أن : إلى ، في معنى : في ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ، يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب ؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : وبئس المهاد جهنم . وكثيراً ما يحذف لفهم المعنى ، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه : أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر ، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها ، وذلك لا يجوز ، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة . وأمّا من جعل : المهاد ، ما مهدوا لأنفسهم ، أي : بئسما مهدوا لأنفسهم ، وكان المعنى عنده ، و : بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم ، ففيه بُعْدٌ ، ويروى عن مجاهد . { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } قال في ( ري الظمآن ) : أجمع المفسرون على أنها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ابن مسعود ، والحسن . فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال : من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله . وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء . ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، وإعلاماً بأن الله سينصر دينه . وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر . وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن الله غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء : كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي . وازداد حسناً بالفصل ، وإذا كان الفصل محسناً في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال : @ إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور @@ وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال : @ برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر @@ ذهب إلى القضيب ، وفي قوله { في فئتين } محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال . { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل الله . وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر . والجمهورُ برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر . وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا . وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئةٍ ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال : @ وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ @@ ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل الله ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على الخبر . وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب . قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة . وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة . وقرأ الجمهور : تقاتل ، بالتاء على تأنيث الفئة ، وقرأ مجاهد ، ومقاتل : يقاتل بالياء على التذكير ، قالوا : لأن معنى الفئة القوم فرد إليه ، وجرى على لفظه . { يرونهم مثليهم رأي العين } قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل ، ترونهم ، بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس ، وطلحة : ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة ، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب ، فيكون الضمير في : لكم ، للمؤمنين ، والضمير المرفوع في : ترونهم ، للمؤمنين أيضاً . وضمير النصب في : ترونهم ، وضمير الجر في : مثليهم ، عائد على الكافرين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون ذلك أبلغ في الآية ، أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ، ومع ذلك نصرهم الله عليهم ، وأوقع المسلمون بهم . وهذه حقيقة التأييد بالنصر ، كقوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } [ البقرة : 249 ] واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية ، وآية الأنفال ، قصة واحدة ، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ، ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين ، والضمير المنصوب في : ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين ، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون : ترونهم مثليكم . وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } [ يونس : 22 ] ويحتمل أن يعود الضمير في : مثليهم ، على الفئة المقاتلة في سبيل الله ، أي : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم . والمعنى : ترونهم مثليكم ، وهذا تقليل ، إذ كانوا نيفاً على ألف ، والمسلمون في تقدير ثلث . منهم ، فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله : { إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } [ الأَنفال : 65 ] لتجترئوا عليهم . وإذن كان الضمير في : لكم ، للكافرين وفي : ترونهم ، الخطاب لهم ، والمنصوب والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم . ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم ، فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين ، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم ، وكانت تلك الرؤية مدداً من الله للمؤمنين ، كما أمدهم تعالى بالملائكة ، فإن كانت هذه ، وآية الأنفال في قصة واحدة ، فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين ، قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين ، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا ، كقوله : { وقفوهم إنهم مسؤولون } [ الصافات : 24 ] { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] وأما من قرأ بالياء المفتوحة . فالظاهر أن الجملة صفة لقوله : وأخرى كافرة ، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : تراهم ، وضمير النصب عائد على : فئة تقاتل في سبيل الله ، وضمير الجرّ في : مثليهم ، عائد على فئة أيضاً ، وذلك على معنى الفئة ، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب : تراها مثليها ، أي ترى الفئةُ الكافرةُ الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها . أي : ستمائة ونيف وعشرين ، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة ، أي ألفين ، أو قريباً من ألفين . ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى ، أي : ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها . ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة . والجملة إذ ذاك صفة لقوله : وأخرى كافرة ، ففي الوجه الأول الرابط الواو ، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب . وإذا كان الضمير في : لكم ، لليهود ؛ فالآية كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار : سيغلبون . فمن قرأ بالتاء كان معناه : لو حضرتم ، أو إن كنتم حضرتم ، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ، ووقوع اليقين به ، لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل . والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد ، وانتصب : مثليهم ، على الحال . قاله أبو علي ، ومكي ، والمهدوي . ويقوي ذلك ظاهر قوله : رأي العين ، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد . قال الزمخشري : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات . وقيل : الرؤية هنا من رؤية القلب ، فيتعدى لإثنين ، والثاني هو : مثليهم . ورد هذا بوجهين : أحدهما : قوله تعالى : رأي العين ، والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين . وأجيب عن الأول : بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به . وعن الثاني : بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد ، فلا يكون ذلك محالاً . وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين ، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى . قال تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات } [ الممتحنة : 10 ] أي فإن اعتقدتم إيمانهن ، ويدل على هذا قراءة من قرأ : ترونهم ، بضم التاء ، أو الباء . قالوا : فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً ، لا يقيناً . فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك ، وذلك أن : أُري ، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر ، وإذا كان كذلك ، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم ، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين ، لأنه كما لا يقع : العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع : النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه ، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن ، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم . شبه برؤية العين ، والرأي مصدر : رأى ، يقال : رأى رأياً ورؤية ورؤيا ، ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ، ورأيا في الاعتقاد ، يقال : هذا رأي فلان ، قال : @ رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه خوارج تراكين قصد المخارج @@ ومعنى : مثليهم ، قدرهم مرتين . وزعم الفراء أن معنى : يرونهم مثليهم ، ثلاثة أمثالهم كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها . وغلطه الزجاج . وقال : إنما مثل الشيء مساو له . ومثلاه مساويه مرتين . وقال ابن كيسان : أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر ، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم ، وهذا بعيد ، وليس المعنى عليه ، وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك . والأخرى : أنه آية النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى كلام ابن كيسان . وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة ، والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر . وقيل : وثلاثة عشرة ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع ، وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من الثلثين ، فذكر الله المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد . وحكي عن ابن عباس : أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين ، وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يوم بدر القوم ألف " وقال ابن عباس : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وقال في رواية : لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . فأسرنا منهم رجلاً فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً . ونقل أن المشركين لما أسروا ، قالوا للمسلمين : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، قالوا : ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا ! وتكثير كل طائفة في عين الأخرى ، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز ، فلا يمتنع . { والله يؤيد بنصره من يشاء } أي : يقويه بعونه . وقيل : النصر الحجة . ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ، ومفعول : من يشاء ، محذوف أي : من يشاء نصره . { إن في ذلك } أي : النصر . وقيل : رؤية الجيش مثليهم { لعبرة } أي اتعاظاً ودلالة . { لأولي الأبصار } إن كانت الرؤية بصرية ، فالمعنى : للذين أبصروا الجمعين ، وإن كانت اعتقادية ، فالمعنى : لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار . { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } قرأ الجمهور : زين مبنياً للمفعول ، والفاعل محذوف ، فقيل : هو الله تعالى ، قاله عمر ، لأنه قال حين نزلت : الآن يا رب حين زينتها ، فنزلت { قل أؤنبئكم } [ آل عمران : 15 ] الآية ، ومعنى التزيين : خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه ، وهذا كقوله : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } [ الكهف : 7 ] فزينها تعالى للابتلاء ، ويدل عليه قراءة : زين للناس حب ، مبنياً للفاعل ، وهو الضمير العائد على الله في قوله : { والله يؤيد } . وقيل : المزين الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، قال : من زينها : ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ! ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة ، وتحصيلها من غير وجهها . وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم ، المفتونين بالدنيا ، وأضاف المصدر إلى المفعول ، وهو الكثير في القرآن ، وعبر عن المشتهيات : بالشهوات ، مبالغة . إذ جعلها نفس الأعيان ، وتنبيهاً على خستها ، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء ، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم ، وناهيك لها ذماً قوله صلى الله عليه وسلم : " حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره " وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على سبيل الإجمال ، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير ، فيكون في ذلك تنفير عنها ، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله ، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم ، بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ " ويقال ؛ فيهنّ فتنتان : قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال . وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء ، وفروع عنهنّ ، وشقائق النساء في الفتن ، " الولد مبخلة مجبنة " @ وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض @@ المرء مفتون بابنه وبشعره . وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله ، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة . قدمت الأموال على الأولاد . وظاهر قوله : والبنين ، الذكران . وقيل يشمل : الإناث ، وغلب التذكير . { والقناطير المقنطرة } ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ، ولأنه يحصل به غالب الشهوات ، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد . واختلف في : القنطار ، أهو عدد مخصوص ، أم ليس كذلك ؟ فقيل : ألف ومائتا أوقية ، وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، وقيل : ألف ومائتا دينار . وكل هذه رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم : الأول : رواه أبيّ ، وقال به معاذ ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية . والثاني : رواه أبو هريرة وقال به . والثالث : رواه الحسن ، ورواه العوفي عن ابن عباس . وقيل : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ذهباً ، وروي عن ابن عباس ، وعن الحسن ، والضحاك . وقال ابن المسيب : ثمانون ألفاً . وقال مجاهد ، وروي عن ابن عمر : سبعون ألف دينار . وقال السدي : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال الكلبي : ألف مثقال ذهب أو فضة . وقال قتادة : مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألف درهم من الفضة . وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : مائة ألف ، ومائة منّ ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء ، وبمكة مائة رجل قد قنطروا . وقيل : أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، ذكره مكي ، وقاله ابن سيده في ( المحكم ) . وقيل : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال ابن سيده في ( المحكم ) القنطار : بلغة بربر : ألف مثقال . وروى أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير : { وآتيتم إحداهنّ قنطاراً } [ النساء : 20 ] قال : ألف دينار . وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة . قال ابن عطية ، وأظنه وهماً ، وإن القول مائة رطل ، فسقطت مائة للناقل . انتهى . وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بلسان أفريقية والأندلس : ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول . وأما الآن فهو عندنا : مائة رطل ، والرطل عندنا ، ستة عشر أوقية . وقال أبو بصرة ، وأبو عبيدة : ملء مسك ثور ذهباً . قال ابن سيده : وكذا هو بالسريانية . وقال ابن الكلبي : وكذا هو بلغة الروم . وقال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض . وقال ابن كيسان : المال العظيم . وقال أبو عبيدة : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال . وقال ابن عطية : القنطار معيار يوزن به ، كما أن الرطل معيار . ويقال : لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً . أي يعدل القنطار ، وأصح الأقوال الأول ، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية . انتهى . والمقنطرة : مفعللة ، أو مفيعلة من القنطار . ومعناه المجتمعة ، كما يقول : الألوف المؤلفة ، والبدرة المبدرة . اشتقوا منها وصفاً للتوكيد . وقيل : المقنطرة المضعفة ، قاله قتادة والطبري . وقيل : المقنطرة تسعة قناطير ، لأنه جمع جمع ، قاله النقاش . وهذا غير صحيح . وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من تسعة . وقال الفراء : لا تكون أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم . وقال السدي : المقنطرة المضروبة دنانير ، أو دراهم . وقال الربيع والضحاك المنضد : الذي بعضه فوق بعض ، وقيل : المخزونة المدخورة . وقال يمان : المدفونة المكنوزة . وقيل : الحاضرة العتيدة ، قاله ابن عطية . وقال مروان بن الحكم ، ما المال إلاَّ ما حازته العيان { من الذهب والفضة } تبيين للقناطير ، وهو في موضع الحال منها ، أي كائناً من الذهب { والخيل المسوّمة } أي : الراعية في المروج ، سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي : أي غاية جهدها ، ولم تقصر على حال دون حال ، فيكون قد عدي الفعل بالتضعيف ، كما عدي بالهمزة في قولهم : أسمتها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد ، والربيع . وروي عن مجاهد : أنها المطهمة الحسان . وقال السدي : هي الرائقة من سيما الحسن . وقال عكرمة : سومها الحسن ، واختاره النحاس . من قولهم : رجل وسيم ، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين ، إلاَّ إن ادعى القلب . وقال أبو عبيدة ، والكسائي : المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس ، وهو من السومة ، وهي العلامة قال أبو طالب : @ أمين محب للعباد مسوّم بخاتم ربّ طاهر للخواتم @@ قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى : وقال ابن فارس في ( المجمل ) المسومة : هي المرسل عليها ركبانها . وقال ابن زيد : المعدّة للجهاد . وقال ابن المبرد : المعروفة في البلدان . وقال ابن كيسان : البلق . وقيل : ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل . وقيل : هي الهماليج . { والأنعام والحرث } يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله : والقناطير ، إلى آخرها . غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات ، أي : وحب القناطير وكذا وكذا . ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : من النساء ، فيكون مندرجاً في الشهوات . ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل . وقيل : يراد به المفعول ، وتقدّم الكلام فيه عند قوله { ولا تسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] . { ذلك متاع الحياة الدنيا } أشار : بذلك ، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة ، لأنه أراد ذلك المذكور ، أو المتقدم ذكره . والمعنى : تحقير أمر الدنيا ، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها ، وأدغم أبو عمرو في الإدغام الكبير ثاء : والحرث ، في : ذال : ذلك ، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء . { والله عنده حسن المآب } أي : المرجع ، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفنى ولا ينقطع . ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، فالنساء والبنون فيهم النفقة ، وباقيها فيها الصدقة ، قاله الماتريدي . وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة والبلاغة : الخطاب العام : ويراد به الخاص في قوله : { للذين كفروا } على قول عامّة المفسرين هم اليهود ، وهذا من تلوين الخطاب . والتجنيس المغاير : في { يرونهم مثليهم رأي العين } والاحتراس : في { رأي العين } قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب ، فهو من باب الحزر وغلبة الظن . والإبهام : في { زين للناس } . والتجنيس المماثل : في { والقناطير المقنطرة } . والحذف : في مواضع ، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف .