Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 1-11)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
التوراة : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقاً عربياً . فأمّا اشتقاق : التوراة ، ففيه قولان : أحدهما : إنها من : ورى الزند يري ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الضلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور . وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورَّى ، كما روي " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورى بغيره " ، لأن أكثر التوراة تلويح . وأما وزنها فذهب الخليل ، وسيبويه ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه : وولج ، لأنهما من ورى ، ومن ولج . فهي : كحوقلة ، وذهب الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية . ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا . كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه . وقال الزجاج : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع . وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة . وقد قرىء بذلك على ما سيأتي ان شاء الله تعالى . الإِنجيل : اسم عبراني أيضاً ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه فعيل . كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض . قال الخليل : استنجلت الأرض نجالاً ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء . والنجل أيضاً : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره . ونجله أبوه أي : ولده . وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضاً : الرمي بالشيء . وقال الزجاج : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي . قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة . وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه . وقال الزمخشري : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصحح بعد كونهما عربيين . إنتهى . وكلامه صحيح ، إلاَّ أن في كلامه استدراكاً في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها . وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة . الإنتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والانتصار . وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ، ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب . صور : جعل له صورة . قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إلى حال ، وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة . والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف . وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله . الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس { وإِذ زاغت الأبصار } [ الأحزاب : 10 ] . وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل . التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب . وقال غيره : التأويل المرد والمرجع . قال : @ أؤول الحكم على وجهه ليس قضاي بالهوى الجائر @@ الرسوخ : الثبوت . قال : @ لقد رسخت في القلب منّي مودة لليلى أبت أيامها أن تغيّرا @@ الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعِل ، بكسر يالعين . ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلاَّ أن هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع . ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني الله فداك ، أي : جعلني الله فداك . وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة . لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فأشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدى . فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً ، فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة { وعنده مفاتح الغيب } [ الأَنعام : 59 ] { ولدينا كتاب ينطق بالحق } [ المؤمنون : 62 ] . وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها ، بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب . ومثله : ثم ، و : هنا . لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة . ومن أعربها ، وهم قيس ، فتشبيهاً : بعند ، لكون موضعها صالحاً لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لَدُن ، ولُدْنُ ، ولَدْنٌ ، ولَدِنٌ ، ولَدُنِ ، ولَدٌ ولُدْ ، ولَدْ ولَتْ . بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً ، وإلى الجملة قليلاً . فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر : @ صريع غوانٍ راقهن ورُقنَهُ لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ @@ وقال الآخر : @ لزمنا لدن سألتمونا وفاقكم فلا يك منكم للخلاف جنوحُ @@ ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر : @ تذكر نعماه لدن أنت يافع إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر @@ وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال : @ وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا قرابة ذي قربى ولا حق مسلم @@ وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو . الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع . الدأب : العادة . دأب على كذا : واظب عليه وأدمن . قال زهير : @ لأرتحلنْ بالفجر ثم لأدأبنّ إلى الليل إلاَّ أن يعرجني طفل @@ الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب . { بسم الله الرحمن الرحيم آلم الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم } هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار وطيبة . وهي : مدنية الآيات ستين ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصاري نجران ، وكانوا ستين راكباً ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم ، أميرهم : العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم : السيد الأيهم ، وعالمهم : أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائل . وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم وهيئتهم . وأقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ، ويزعمون تارة أنه الله ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلاَّ جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد ! ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : " بلى " . قالوا : فحسبنا . فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال . وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمّه ، المنكرين لما أنزل الله عليه من الإنجيل . ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه ، لما ذكر آخر البقرة { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّ عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، وردّ عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردّ عليهم ، ولما كان مفتتح آية آخر البقرة { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } [ البقرة : 285 ] فكأن في ذلك الإيمان بالله وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف الله تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره صلى الله عليهم . قرأ السبعة : ألم الله ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة . وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف . وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وعمرو بن عبيد ، والرواسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بما بعدها كما تقول : واحد اثنان . وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرواسي ، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة . انتهى . وقال غيره : ذلك رديء ، لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . إنتهى . وقال الأخفش : يجوز : ألم الله ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله . واختلفوا في فتحة الميم : فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من الله ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين ؟ وكيف ؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل . وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ، لأن حروف الهجاء ينوى بها الوقف ، فينوي بما بعدها الاستئناف . فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو : @ لتسمعن وشيكاً في دياركم الله أكبر : يا ثارات عثمانا @@ وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل . وما يسقط يتلقى حركته ، قاله أبو علي . وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري ، وأورد أسئلة وأجاب عنها . فقال : فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها ؟ قلت : ليس هذا بدرج ، لأن ميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت . وإنما حذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد إثنان ، بالقاء حركة الهمزة على الدال . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وليس جوابه بشيء ، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها . وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لإلتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو للإتباع . فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال : قد ، أن تقف على دال : قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولاً واحداً . وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة . فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه ، كما زعم الزمخشري ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : إثنان ، فالتقى ساكنان ، دال ، واحد ، و : ثاء ، إثنين ، فكسرت الدال لإلتقائهما ، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل . وأما ما استدل به للفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقائهم الهمزة على بالهاء ، فلا دلالة فيه ، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من الله ، وأيضاً ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا ، لا أنها موقوف عليها . ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً . فقال : فإن قلت : هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين ؟ . قلت : لأن التقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا ابراهيم ، وداود ، وإسحاق . ولو كان لالتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة . و : لام التعريف ، كالتقاء نون : من ، ولام : الرجل ، إذا قلت : من الرجل . ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً ، فقال : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلاَّ التحريك فحركوا ؟ قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن ، أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحيئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلاَّ التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا يعني : الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن . هذا شرح السؤال . وأما جواب الزمخشري عن سؤاله ، فلا يطابق ، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة . فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلاً ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة . وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان . لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما . وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فيما لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا للنقل ، وقد ردّ قول الفراء ، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض . انتهى . وهو ردّ صحيح . والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً ، فلوا التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين . فهذه الحركة التي في ميم : ألم الله ، هي حركة التقاء الساكنين . والكلام على تفسير : { ألم } ، تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة . والكلام على : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } تقدم في آية { وإلهكم إله واحد لا إله إلا الله } [ البقرة : 163 ] وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { ألم } إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا . ويدل قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 22 ] ترك الجواب لدلالة قوله { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } [ الزمر : 22 ] عليه ، تقديره : كمن قسا قلبه . ومنه قول الشاعر : @ فلا تدفنوني ، إن دفني محرم عليكم ، ولكن خامري أم عامر @@ أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر . قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : الله ، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ، وفيه نظر ، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جزماً ، جملة رادّة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاجوه في عيسى بن مريم ، وقالوا : إنه الله . انتهى كلامه . قال ابن كيسان : موضع : ألم ، نصب ، والتقدير : قرأوا ألم ، و : عليكم ألم . ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا ألم ، و : ذلك ألم . وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك . وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ، وعلقمة بن قيس : القيام . وقال خارجة في مصحف عبد الله : القيم ، وروي هذا أيضاً عن علقمة . { الله } رفع على الإبتداء ، وخبره : { لا إله إلا هو } و { نزل عليك الكتاب } خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون : نزل ، هو الخبر ، و : لا إله إلا هو ، جملة اعترض . وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب : { لا إله إلا هو الحي القيوم } فأغنى عن إعادته هنا . وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة الله ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ، لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو بعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة . { نزل عليك الكتاب بالحق } الكتاب هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيراً ، والمراد القرآن ، فصار علماً . بالغلبة . وقرأ الجمهور : نزّل ، مشدداً و : الكتاب ، بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : نزل ، مخففاً ، و : الكتابُ ، بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة . والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : عليك ، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصاً له وتشريفاً بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء . كأن الكتاب تجلله وتغشاه ، صلى الله عليه وسلم . ومعنى : بالحق : بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة . الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة . وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير . وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية . وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية . وقيل : معنى بالحق : بالحجج والبراهين القاطعة . والباء : تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقاً نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحاً . { مصدقا لما بين يديه } أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقاً ، وهو يدل على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها ، قاله أبو مسلم وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط ، إلاَّ بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان . فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخاً لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن . فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقاً لها ، لأن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف . وانتصاب : مصدقاً ، على الحال من الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال : @ أنا ابن دارة معروفاً به نسبي وهل بدارة يا للناس من عار ؟ @@ وقيل : انتصاب : مصدقاً ، على أنه بدل من موضع : بالحق ، وقيل : حال من الضمير المجرور . و : لما ، متعلق بمصدقاً ، واللام لتقوية التعدية ، إذ : مصدقاً ، يتعدى بنفسه ، لأن فعله يتعدى بنفسه . والمعنى هنا بقوله { لما بين يديه } المتقدم في الزمان . وأصل هذا أن يقال : لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه . كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد . { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل } فخم راء التوراة ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأضجعها : أبو عمرو ، والكسائي . وقرأها بين اللفظين : حمزة ، ونافع . وروى المسيبي عن نافع فتحها . وقرأ الحسن : والأنجيل ، بفتح الهمزة ، وهذا يدل على أنه أعجمي ، لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب ، بخلاف إفعيل ، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط ، وإصليت . وتعلق : من قبل ، بقوله : وأنزل ، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور ، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل : التقدير من قبلك ، فيكون المحذوف ضمير الرسول . وغاير بين نزل وأنزل ، وإن كانا بمعنى واحد ، إذ التضعيف للتعدية ، كما أن الهمزة للتعدية . وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل ؟ . قلت : لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة . انتهى . وقد تقدم الرد على هذا القول . وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا التنجيم ، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل ، قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر } [ النحل : 44 ] و { وأنزل عليك الكتاب } ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل ، مشدداً بالتخفيف ، إلاَّ ما استثني ، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار . وهو محال . { هدى للناس } قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل . والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر . وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده ، وحذف من التوراة ، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله { من قبل } ثم استأنف فقال { هدى للناس وأنزل الفرقان } فيكون الهدى للفرقان فحسب ، ويكون على هذا الفرقان القرآن ، وهذا لا يجوز ، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولاً لقوله : وأنزل الفرقان هدى ، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه ، لو قلت : ضربت زيداً ، مجردةً و : ضربت هنداً ، تريد ، وضربت هنداً مجردة لم يجز ، وانتصابه على الحال . وقيل : هو مفعول من أجله ، والهدى : هو البيان ، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل ، فيكون الناس هنا مخصوصاً ، إذ لم تقع الهداية لكل الناس ، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدىً في ذاتهما ، وأنهما داعيان للهدى ، فيكون الناس عاماً ، أي : هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام . قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى { وهو عليهم عمًى } [ فصلت : 44 ] أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقول نوح ، { فلم يزدهم دعائي إلاَّ فراراً } [ نوح : 6 ] انتهى . قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدىً ، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى . قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ، لأن هذا خبر مجرّد ، و : هدى للمتقين ، خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معدٌّ أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك . قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر . انتهى كلام ابن عطية . وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام . وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين } [ البقرة : 2 ] وبين قوله : { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس } . { وأنزل الفرقان } الفرقان : جنس الكتب السماوية ، لأنها كلها فرقان يفرق بها بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور . كما قال تعالى : { وآتينا داود زبوراً } [ النساء : 163 ] أو الفرقان : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه ، واظهاراً لفضله . واختار هذا القول الأخير ابن عطية . قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام الذي جادل فيه الوفد . وقال قتادة ، والربيع ، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ، ونحوه وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث ، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل وقيل : الفرقان : النصر . وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها الله بإنزال هذه الكتب ، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى ، تصحيح دعواهم بالمعجزات ، وكانت هي الفرقان ، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب ، فلما ذكر أنه أنزلها ، أنزل معها ما هو الفرقان . وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل . وقيل : الفرقان : هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل . فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان . والفرقان مصدر في الأصل ، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل ، أي : الفارق ، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق . قال تعالى : { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } [ الإِسراء : 106 ] { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد } لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر . والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار . و { الذين كفروا } عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم ، وهم نصارى وفد نجران . وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم . { والله عزيز ذو انتقام } أي : ممتنع أو غالب لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدّم أن الوصف : بذو ، أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلاً للعقاب ، وهي من صفات الفعل . قال الزمخشري : { ذو انتقام } له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم . انتهى . ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ . { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء } شيء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ، إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك ردّ على النصارى ، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيـي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة . فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفي عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وأحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها ، وأمثالها ، على أيدي رسله . وفي ذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله ، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم . وقيل : في قوله { لا يخفى عليه شيء } تحذير من مخالفته سراً وجهراً ، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام . وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه . وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفى عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات . واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله . وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء ، أبلغ من : يعلم في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً . وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : { هو الذي يصوركم } ردّ على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف تشاء . قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى . والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة . والثالثة : بالإنفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن . وقال الراغب ، هنا : يصوركم ، بلفظ الحال ، وفي موضع آخر : فصوركم ، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضاً : فصوركم ، إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه . ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً . انتهى . وقرأ طاووس : تصوركم ، أي صوركم لنفسه ولتعبده . كقولك : أثلت مالاً ، أي : جعلته أثلة . أي : أصلاً . وتأثلته إذا أثلته لنفسك . وتأتي : تفعَّل ، بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولي . ومعنى { كيف يشاء } أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات . وفي قوله : { كيف يشاء } إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط . و : كيف ، هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم . ومفعول : يشاء ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم . كقوله { ينفق كيف يشاء } [ المائدة : 64 ] أي : كيف يشاء أن ينفق ، و : كيف ، منصوب : بيشاء ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم . وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو . وقال بعضهم { كيف يشاء } في موضع الحال ، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك . وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي مريداً ، فيكون حالاً من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء ، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته . وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء . { لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم } كرر هذه الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وانحصارها فيه ، توكيداً لما قبلها من قوله { لا إله إلاَّ هو } ورداً على من ادعى إلهية عيسى ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ مَن هذان الوصفان له ، هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الاشياء على الإتقان التام . { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات } مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني . وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله { وروح منه } [ النساء : 171 ] فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً . ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه . وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : { كتاباً متشابهاً } [ الزمر : 23 ] معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق . وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : { إن البقر تشابه علينا } [ البقرة : 70 ] { وأتوا به متشابهاً } [ البقرة : 25 ] أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما . ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما . والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين . قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ . وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه . وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً . وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت . وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتضى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى . وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط . وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف . وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال . وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال . وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال . والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان . وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : { فإذا هي حية تسعى } [ طه : 20 ] { فإذا هي ثعبان مبين } [ الشعراء : 32 ] و { قلنا احمل } [ هود : 40 ] و { فَٱسلك } [ المؤمنون : 27 ] . وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر . وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول . وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم . أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : { وروح منه } [ النساء : 171 ] . وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء . وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : { قل تعالوا أتل } [ الأَنعام : 151 ] الآيات و { وقضى ربك } [ الإِسراء : 23 ] الآيات وما سوى المحكم متشابه . وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك . وقال ابن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام . وقال ابن خويز منداد : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل . وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا . ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين { وأن تجمعوا بين الأختين إلاَّ ما قد سلف } [ النساء : 23 ] يمنع من ذلك ؟ ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل . وقال يحيى بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان . وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } [ المؤمنون : 50 ] ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] أي كل واحد منهم . قيل : ويحتمل أن أفراد في موضع الجمع . نحو : { وعلى سمعهم } [ البقرة : 75 ] وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها . ومثال ذلك : { لا تدركه الأبصار } [ الأَنعام : 103 ] { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 27 ] { لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] { أمرنا مترفيها } [ الإِسراء : 16 ] إنتهى . وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن الله لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار . والمتشابه قوله : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 27 ] . وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية . وذكر من المحكم : { وما كان ربك نسيا } [ مريم : 64 ] { لا يضل ربي ولا ينسى } [ طه : 52 ] ومتشابهه : { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك . وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه . فقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] عند المعتزلة محكم { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [ التكوير : 29 ] متشابه . وغيرهم بالعكس . وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية . فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل . ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، وقال : يقولون ، ان تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الإِسراء : 46 ] { وفي آذانهم وقرا } [ الإِسراء : 46 ] . والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] وفي موضع آخر : { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] . ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 27 ] والآخرون ، بقوله : { لا تدركه الأبصار } [ الأَنعام : 103 ] . ومثبتو الجهة بقوله : { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] وبقوله : { على العرش استوى } [ طه : 5 ] والآخرون بقوله : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا ؟ انتهى كلام الفخر الرازي . وبعضه ملخص . وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمخشري . قال : فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً ؟ قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه . إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن . ولما ذكر تعالى أول السورة { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه . وقوله : { منه آيات محكمات } إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء ، والجملة حالية . ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : { وأخر متشابهات } فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل . وتقدم الكلام على أخر في قوله : { فعدة من أيام أُخر } [ البقرة : 184 ] فاغنى عن إعادته هنا . وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي . { فأما الذين في قلوبهم زيغ } هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع . أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم . وقال الطبري : هو الأشبه . وذكر محاورة حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا . فأنزل الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم . وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق . وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، وهم الخوارج . ومن تأول آية لا في محلها . وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم . وقال ابن جريح : هم المنافقون . وقيل : هم جميع المبتدعة . وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ . { فيتبعون ما تشابه منه } قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع . وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : { ولا يتساءَلون } [ المؤمنون : 101 ] و { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [ الطور : 25 ] { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأَنعام : 23 ] ونحو ذلك . وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه . انتهى كلامه ملخصاً . { إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } علل اتباعهم للمتشابه بعلتين : إحداهما : إبتغاء الفتنة . قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر . وقال مجاهد : الشبهات واللبس . وقال الزجاج : إفساد ذات البين . وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران . والعلة الثانية : إبتغاء التأويل . قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : التأويل : التفسير ، نحو { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } [ الكهف : 78 ] وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة . وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء . وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه . وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف ؟ وقال الزمخشري : { الذين في قلوبهم زيغ } هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قوله أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه . إنتهى كلامه . وهو كلام حسن . { وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه ان الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، والجبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد . واختاره : الخطابي والفخر الرازي . ويكون قوله { والراسخون } مبتدأ و { يقولون } خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين . ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا { آمنا به } ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر . ولأن قوله : { كل من عند ربنا } يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله ، تعالى . وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به . وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله ، والراسخون في العلم يقولون . ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك . وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص . ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب . وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره . والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك . ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى { وروح منه } [ النساء : 171 ] إلى غير ذلك . ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ . فقوله { إلا الله } مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب . ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط . وإن جعلنا { والراسخون } مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ؟ . وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما . ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه . انتهى . وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري . قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع . ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه . انتهى كلامه . وتلخص في إعراب { والراسخون } وجهان : . أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف . والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة . والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل . وقيل : { الراسخون في العلم } مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام وأصحابه ، بدليل { لكن الراسخون في العلم منهم } [ النساء : 162 ] يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع . { كل من عند ربنا } هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : { آمنا به كل من عند ربنا } وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله : @ كيف أصحبت ؟ كيف أمسيت ؟ مما يزرع الود في فؤاد الكريم ؟ @@ كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ . والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب . والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به . وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً . { وما يتذكر إلا أولوا الألباب } أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل . وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذو لبٍّ . وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل . { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا . ومعنى الإزاغة هنا الضلالة . وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله . وقال الزجاج : المعنى : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد . وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا . وهذه نزعة إعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان . ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا . وقال الجبائي أيضاً : لا تزغنا عن جنتك وثوابك . وقال أبو مسلم : أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ . وقال الزمخشري : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا . انتهى . وهذه مسألة كلامية : هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخبر ؟ أو لا يخلق الشر ؟ فالأول : قول أهل السنة . والثاني : قول المعتزلة . وكل يفسر على مذهبه . وقرأ الصديق ، وأبو قائلة ، والجراح : لا تزغ قلوبنا ، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة ، ورفع باء قلوبنا ، جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب . وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك هاهنا . @ ولا أعرفن ربرباً حوراً مدامعه @@ أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا . ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل : بعد اذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و : إِذ ، أصلها أن تكون ظرفاً ، وهنا أضيف إليها : بعد ، فصارت إسماً غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضافة إليها تخرجها عن هذا الحكم . ألا ترى إلى قوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين } [ المائدة : 119 ] { يوم لا تملك } [ الإِنفطار : 19 ] في قراءة من رفع يوم ؟ وقول الشاعر . @ على حين عاتبت المشيب على الصبا على حين من تكتب عليه ذنوبه على حين الكرام قليل ألا ليت أيام الصفاء جديد @@ كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟ . { وهب لنا من لدنك رحمة } سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيماً ، أو ثواباً صادراً عن الرحمة . ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى . { إنك أنت الوهاب } هذا كالتعليل لقولهم : وهب لنا ، كقولك : حل هذا المشكل إنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهوب ، لمناسبة رؤوس الآي ، ويجوز في : أنت ، التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء . { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم . ومعنى : ليوم لا ريب فيه ، أي : لجزاء يوم ، ومعنى : لا ريب فيه ، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه . وقيل : اللام ، بمعنى : في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس ، بالتنوين ، ونصب : الناس . وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ، إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، والضمير في : فيه ، عائد على اليوم ، إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع ، أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد . { إن الله لا يخلف الميعاد } ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين . قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، والميعاد : الموعد . انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد . وقد استدل الجبائي بقوله { إن الله لا يخلف الميعاد } على القطع بوعيد الفساق مطلقاً ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد . وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به قال الشاعر : @ إذا وعد السرّاءَ أنجز وعده وإن وعد الضراءَ فالعفو مانعه @@ ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد . وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث ، والمجازاة ، والإيفاء بما وعد تعالى . { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } قيل : المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الرّوم مني ما أعطوني من المال . وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : قريظة ، والنضير . وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامّة تتناول كل كافر . ومعنى : من الله ، أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى : أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } [ سبأ : 37 ] وفي قوله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } [ التغابن : 15 ] وفي قوله : { وتكاثر في الأموال والأولاد } [ الحديد : 20 ] وفي قوله : { لا ينفع مال ولا بنون } [ الشعراء : 88 ] بخلاف قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة } [ آل عمران : 14 ] إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال . وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء الله . وقرأ أبو عبد الرحمن : لن يغني ، بالياء على تذكير العلامة . وقرأ علي : لن يغني ، بسكون الياء . وقرأ الحسن : لن يغني بالياء أولاً وبالياء الساكنة آخراً ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع . وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم . و : من ، لابتداء الغاية عند المبرد ، وبمعنى : عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : { أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } [ قريش : 4 ] قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون : من ، بمعنى : عند ، ضعيف جداً . وقال الزمشخري : قوله : من الله ، مثله في قوله : { وإن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم : 28 ] والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق . ومنه : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي : لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك . وما عندك . وفي معناه قوله تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى } [ سبأ : 37 ] إنتهى كلامه . وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل . واستدل بقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] { لجعلنا منكم ملائكة } [ الزخرف : 60 ] أي : بدل الآخرة وبدلكم . وقال الشاعر : @ أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلماً ويكتب للأمير إفيلا @@ أي بدل الفصيل ، وشيئاً ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ، لأن معنى : لن تغني ، لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون : من ، في موضع الحال من شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدّم انتصب على الحال . وتكون : من إذ ذاك للتبعيض . فتلخص في : من ، أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي . و : كونها بمعنى : عند ، وهو قول أبي عبيدة . و : البدلية ، وهو قول الزمخشري ، و : التبعيض ، وهو الذي قررناه . { وأولئك هم وقود النار } لما قدم : إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم . وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر : إن ، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك ، إلى بعدهم . وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله : { وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : وقود ، بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقوداً ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو : حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا . وقد قيل في المصدر أيضاً : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدّم ذكر ذلك ، و : هم ، يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلاً . { كدأب آل فرعون } لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدّم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ، لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخراً إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمن آمن به . أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاسئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنيا وصاروا إلى النار . واختلفوا في إعراب : كدأب ، فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية . وقيل : هو في موضع نصب بوقود ، أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون . كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري . وقيل : بفعل مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحتراق ، قاله ابن عطية . وقيل : من معناه أي عذبوا تعذيباً كدأب آل فرعون . ويدل عليه وقود النار . وقيل : بلن تغني ، أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري . وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي : { أولئك هم وقود النار } على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فان قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري . وقيل : بفعل منصوب من معنى : لن تغني ، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون . وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفراً كدأب والعامل فيه : كفروا ، قاله الفراء وهو خطأ ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في الصلة . وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفراً كعادة آل فرعون . وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في : كذبوا ، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون . وقيل : يتعلق بقوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } أي : أخذهم أخذاً كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها . وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيداً قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول . فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف . قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة : دأب . وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر : كدأب ، بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غُلَيْمٌ على أي شيء يجوز كدأب ؟ فقلت له : أظنه من : دئب يدأب دأباً ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا ؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤباً هكذا حكى النحويون ، منهم الفرّاء ، حكاه في كتاب ( المصادر ) . وآل فرعون : أشياعه وأتباعه … { والذين من قبلهم } هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم . فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموضع : والذين ، جر عطفاً على : آل فرعون . { كذبوا بآياتنا } هذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ؟ وما فعل بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر ، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : { كدأب آل فرعون } ثم ابتدأ فقال : { والذين من قبلهم كذبوا } فيكون : الذين ، مبتدأ ، و : كذبوا خبره وفي قوله : بآياتنا ، التفات ، إذ قبله من الله ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم . و : الآيات ، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه . { فأخذهم الله بذنوبهم } رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في : بذنوبهم ، للسبب . { والله شديد العقاب } تقدّم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها . قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة . حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام . ومجاز التشبيه في مواضع منها { نزل عليك الكتاب } وحقيقة النزول طرح جرم من علوٍ إلى أسفل ، والقرآن مثبت في اللوح الحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله : { لما بين يديه } القرآن مصدّق لما تقدّمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئاً فشيئاً وفي قوله : { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمراً ، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله : { عذاب شديد } شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله : { يصوركم } شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصوّر يمثل شيئاً ، فيضم جرماً إلى جرم ، ويصوّر منه صورة وفي قوله : { منه آيات محكمات } جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكماً ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرّع منها فروع متعدّدة ترجع إليها بالأم التي يرجع إليها ما تفرّع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والأيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ؛ وفي قوله : { في قلوبهم زيغ } شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله : { وهب لنا من لدنك رحمة } شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير ، بالمحسوس من الأجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله : { وقود النار } شبهم بالحطب الذي لا ينتفع به إلاَّ في الوقود . وقال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأَنبياء : 98 ] والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ . وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلاَّ { كدأب آل فرعون } فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه . والاختصاص في مواضع ، منها في قوله : { نزل عليك الكتاب } إلى { وأنزل الفرقان } على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله : { لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } خصَّهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده . وفي قوله : { والراسخون } اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ؛ وفي قوله : { أولوا الألباب } لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ، والاعتيار . وفي قوله : { لا تزغ قلوبنا } اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله : { إنك جامع الناس ليوم } هو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياءً وفي بطنها أمواتاً ، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلاَّ في ذلك اليوم ، ولا جامع إلاَّ هو تعالى . وفي قوله : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجاباً من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغاراً ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كباراً . وكل هذا ورد به الحديث الصحيح . وفي قوله : { كدأب آل فرعون } خصهم بالذكر ، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغياناً ، وأعظمهم تعنتاً على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذاباً . والحذف في مواضع ، في قوله : { لما بين يديه } أي : من الكتب و { أنزل التوراة والإنجيل } أي : وأنزل الإنجيل ، لأن الإنزالين في زمانين { هدى للناس } أي : الدين أراد هداهم : { عذاب شديد } ، أي يوم القيامة ، . { ذو انتقام } أي ممن أراد عقوبته { في الأرض ولا في السماء } أي ولا في غيرهما { العزيز } أي : في ملكه . { الحكيم } أي في صنعه { وأخر } أي : آيات أُخر { زيغ } أي عن الحق { ابتغاء الفتنة } أي : لكم { وابتغاء تأويله } أي : على غير الوجه المراد منه { وما يعلم تأويله } أي : على الحقيقة المطلوبة { ربنا } أي يا ربنا { لا تزغ قلوبنا } أي : عن الحق { بعد إذ هديتنا } أي : إليه { كذبوا بآياتنا } أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علماً على التوحيد { بذنوبهم } أي السالفة . والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان . كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه ، بآيات الله ، والله كرر اسمه تعالى تفخيماً ، لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر . لا إله إلاَّ هو الحي القيوم ، لا إله إلا هو العزيز . كرر الجملة تنبيهاً على استقرار ذلك في النفوس ، ورداً على من زعم أن معه إلهاً غيره . ابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله . كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل . ربنا لا تزغ ، ربنا إنك . كرر الدعاء تنبيهاً على ملازمته ، وتحذيراً من الغفلة عنه لما فيه من إظهار الافتقار . والتقديم والتأخير ، وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولاً ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن . وقدم القرآن لشرفه ، وعظم ثوابه ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان . وثنى بالتوراة لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط . وروى : أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقاً ، ثم ثلث بالإنجيل ، لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله : { في الأرض ولا في السماء } قدم الأرض على السماء وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ، ليعلمهم ، إطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ، لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه . والالتفات { ربنا إنك جامع } ثم قال { إن الله } وفي قوله : { كذبوا بآياتنا } ثم قال { والله شديد العقاب } . والتأكيد : { وأولئك هم وقود النار } فاكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله : { هو الذي يصوركم } قوله { لا إله إلا هو } وأكد بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } قوله { نزل عليك الكتاب } . والتوسع بإقامة المصدر مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هادياً ، والفارق . وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من الله ، أي : عند الله ، على قول من أوَّل : من ، بمعنى : عند . والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب .