Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 133-141)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الكظم : الإمساك على غيظ وغم . والكظيم : الممتلىء أسفار ، وهو المكظوم . وقال عبد المطلب : @ فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من خوف المنايا كظم @@ وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له . ويقال : كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى . والكظام : السير الذي يشد به فمها . وكظم البعير : جرته ردها في جوفه ، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه . ويقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ، ومنه قول الراعي : @ فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح أذ رعين حقيلا @@ الحقيل : موضع ، والحقيل أيضاً نبت . ويقال : لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع ، فلا تجتر . ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل : @ قد تكظم البزل منه حين تبصره حتى تقطع في أجوافها الجرر @@ الإصرار : اعتزام الدوام على الأمر . وترك الإقلاع عنه ، من صرّ الدنانير ربط عليها . وقال أبو السمال : @ علـم الله أنهـا منـي صـرى @@ أي عزيمة . وقال الحطيئة يصف الخيل : @ عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا علاليها بالمحضرات أصرت @@ أي ثبتت على عدوها . وقال آخر : @ يصر بالليل ما تخفى شواكله يا ويح كل مصر القلب ختار @@ السنة : الطريقة . وقال المفضل : الأمة وأنشد : @ ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رؤى مثله في سالف السنن @@ وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه ، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب : @ فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها @@ وقال سليمان بن قتيبة : @ وإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا @@ وقال لبيد : @ من أمة سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها @@ وقال الخليل : سن الشيء صورة . والمسنون المصور ، وسن عليهم شراً صبه ، والماء والدرع صبهما . واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين ، أو من سن السنان والنصل حدهما على المسن ، أو من سن الإبل إذا أحسن رعيها . السير في الأرض : الذهاب . وهن الشيء ضعف ، ووهنه الشيء أضعفه . يكون متعدياً ولازماً . وفي الحديث : " وهنتهم حمى يثرب " والوهن الضعف . وقال زهير : @ فـأصبح الحبـل منهـا واهنـاً خلقـا @@ القرح والقرح لغتان ، كالضعف والضعف ، والكره والكره : الفتحُ لغة الحجاز : وهو الجرح . قال حندج : @ وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة لعل منايانا تحولن أبؤسا @@ وقال الأخفش : هما مصدران . ومن قال : القَرح بالفتح الجرح ، وبالضم المد ، فيحتاج في ذلك إلى صحة نقل عن العرب . وأصل الكلمة الخلوص ، ومنه : ماء قراح لا كدورة فيه ، وأرض قراح خالصة الطين ، وقريحة الرجل خالصة طبعه . المداولة : المعاودة ، وهي المعاهدة مرة بعد مرة . يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه . قال : @ يرد المياه فلا يزال مداوياً في الناس بين تمثل وسماع @@ وأدلته جعلت له دولة وتصريفاً ، والدولة بالضم المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دولة فلان ، لأنها مرة في الدهر . والدور والدول متقاربان ، لكن الدور أعم . فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي . المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه . والمحص عن إبرازه عن أشياء متصلة به . قال الخليل : التمحيص التخليص عن العيوب ، ويقال : محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس ، هكذا ساق الزجاج اللفظة الحبل . ورواها النقاش : محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس . وقال حنيف : الحناتم ، وقد ورد ماء اسمه طويلع ، إنك لمحص الرشاء ، بعيد المستقى ، مطل على الأعداء . المعنى : أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي . { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } قرأ ابن عامر ونافع : سارعوا بغير واو على الاستئناف ، والباقون بالواو على العطف . لما أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة . وأمال الدوري في قراءة الكسائي : وسارعوا لكسرة الراء . وقرأ أبي وعبد الله : وسابقوا والمسارعة : مفاعلة . إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة . ألا ترى إلى قوله : { فاستبقوا الخيرات } [ البقرة : 148 ] والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص ، قاله عثمان . أو أداء الفرائض قاله علي . أو الإسلام قاله : ابن عباس . أو التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله : أنس ومكحول . أو الطاعة قاله : سعيد بن جبير . أو التوبة قاله : عكرمة . أو الهجرة قاله : أبو العالية . أو الجهاد قاله : الضحاك . أو الصلوات الخمس قاله : يمان . أو الأعمال الصالحة قاله : مقاتل . وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر . قال الزمخشري : ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به انتهى . وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال ، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها السبب الموصل إلى الجنة ، وحذف المضاف من السماوات أي : عرض السماوات بعد حذف أداة التشبيه أي : كعرضٍ . وبعد هذا التقدير اختلفوا ، هل هو تشبيه حقيقي ؟ أو ذهب به مذهب السعة العظيمة ؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى ، إذ السموات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه ، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة ، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله : الزجاج . وتقول العرب : بلاد عريضة ، أي واسعة . وقال الشاعر : @ كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل @@ والقول الأول مروي عن ابن عباس وغيره . قال ابن عباس وسعيد بن جبير : والجمهور تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله انتهى ولا ينكر هذا . فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد لذلك . وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه . والجنة على هذا القول أكبر من السماوات ، وهي ممتدّة في الطول حيث شاء الله . وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض ، إذ قد يكون العرض يسيراً كعرض الخيط . وقال قوم : معناه كعرض السماوات والأرض طباقاً ، لا بأنْ تقرب كبسط الثياب . فالجنة في السماء وعرضها كعرضها ، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه دلالة على العظيم . وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول . وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة ، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت ؟ وهو ظاهر القرآن . ونص الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق بعدُ ؟ وهو قول : المعتزلة ، ووافقهم من أهل بلادنا القاضي منذر بن سعيد . وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج إلى صحة نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي : الجنان أربع : جنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم . كل جنة منها كعرض السماء والأرض ، لو وصل بعضها ببعض ما علم طولها إلا الله . وقال ابن بحر : هو من عرض المتاع على البيع ، لا العرض المقابل للطول . أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم ، وجاء إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، وإعلاماً بأنهم الأصل في ذلك ، وغيرهم تبع لهم في إعدادها . وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاماً في كل مسلم طائع أو عاص . { الذين ينفقون في السراء والضراء } قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : السراء اليسر ، والضراء العسر . وقال عبيد بن عمير والضحاك : الرخاء والشدّة . وقيل : في الحياة ، وبعد الموت بأن يوصي . وقيل : في الفرح وفي الترح . وقيل : فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة ، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء . وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه ، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدّق به عليهم . وقيل : في المنشط والمكره . ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين ، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال ، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما . والمعنى : لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف . وروي عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب . وعن بعض السلف ببصلة . وابتدىء بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة ، ثم جيء بعدها بصفة البذل ، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص . وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد ، ومواساة الفقراء . ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب . { والكاظمين الغيظ } أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر ، ولا يظهر له أثر ، والغيظ : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب . والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح ، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح ، وفعل مّا ولا بد ، ولذلك أسند إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند الغيظ إليه تعالى . ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة . وروي عنه صلى الله عليه وسلم : " من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً " وعنه عليه السلام : " ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله " وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت : لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء . وقال مقاتل : بلغنا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : " إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية " وأنشد أبو القاسم بن حبيب : @ وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً للغيظ تبصر ما تقول وتسمع فكفى به شرفاً تصبر ساعة يرضى بها عنك الإله ويدفع @@ { والعافين عن الناس } أي الجناة والمسيئين . وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع : المماليك . وهذا مثال ، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم ، وإنفاذ العقوبة عليهم سبيل للقدرة عليهم . وقال الحسن : والكاظمين الغيظ عن الأرقاء ، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم . ووردت أخبار نبوية في العفو منها : " ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فليدخلوا الجنة ، فيقال : من ذا الذي أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا " ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه . ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع ، بشرط اتباع الذين ينفقون { والله يحب المحسنين } الألف واللام للجنس ، فيتناول كل محسن . أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف . والأظهر الأول ، فيعم هؤلاء وغيرهم . وهذه الآية في المندوب إليه . ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام : " ما الإيمان " فبين له العقائد " ما الإسلام " ؟ فبين له الفرائض . " " ما الإحسان ؟ " قال : " أن تعبد الله كأنك تراه " " والمعنى : أن الله يحب المحسنين ، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة ، مراقبين الله كأنهم مشاهدوه . وقال الحسن : الإحسان أن تعم ولا تخص ، كالريح والمطر والشمس والقمر . وقال الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء ، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق ، خذ مني وهات . { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار ، ويكنى : أبا مقبل ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها وقبلها ثم ندم . وقيل : ضرب على عجزها . والعطف بالواو مشعر بالمغايرة . لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة ، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع ، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف . وقيل : أنه من عطف الصفات ، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن . قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة . وقال مقاتل : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي . وقال النخعي : الفاحشة القبائح ، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان . وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة . وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال . وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة . وقيل : الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل : الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه . وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل . وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع الآية : زنوا ورب الكعبة . ومعنى { اذكروا الله } ذكروا وعيده قاله : ابن جرير وغيره . وقيل : العرض على الله قاله الضحاك . أو السؤال عنه يوم القيامة قاله : الكلبي ومقاتل والواقدي . وقيل : نهي الله . وقيل : غفرانه . وقيل : تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة . وقيل : عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته . وقيل : إحسانه فاستحيوا من إساءتهم . وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب . وقيل : هو باللسان ، وهو الاستغفار . ذكروا الله بقلوبهم : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وعطاء في آخرين . وروي عن أبي هريرة " ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا بدّ مع ذكر اللسان من مواطأة القلب ، وإلاّ فلا اعتبار بهذا الاستغفار . ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار . والاستغفار سؤال الله بعد التوبة الغفران . وقيل : ندموا وإن لم يسألوا . والظاهر الأول . ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى ، أي فاستغفروا لذنوبهم . وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته . { ومن يغفر الذنوب إلا الله } جملة اعتراض المتعاطفين ، أو بين ذي الحال والحال . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [ البقرة : 130 ] وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران الذنب . قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز . وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط . وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى . وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب . وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط . { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم . وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط . ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين . وما موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون مصدرية . قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً . وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب . وقال مجاهد : لم يصرّوا لم يمضوا . وقال السدي : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب . والجملة من قوله : { وهم يعلمون } قال الزمخشري : حال من فعل الإصرار ، وحرف النفي منصب عليهما معاً ، والمعنى : وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح . وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرّون . وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه . وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً . وأجاز أبو البقاء أن يكون : وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا ، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا ، جاز أن يكون : وهم يعلمون حالاً منه أيضاً . وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة . وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري . وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها . وقال ابن عباس والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي . وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن الله يتوب على من تاب . وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا . وقيل : يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته . وقال ابن إسحاق : يعلمون ما حرمت عليهم . وقال الحسين بن الفضل : يعلمون أنّ لهم رباً يغفر الذنب . وقال ابن بحر : يعلمون بالذنب . وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت . { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أولئك إشارة إلى الصنفين . وجوّز أن يكون مختصاً بالصنف الثاني ، ويكون : والذين إذا فعلوا مبتدأ ، وأولئك وما بعده خبره ، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك . وثم محذوف أي : جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم . وقال ابن عطية : أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب ، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء ، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره . وقال الزمخشري : قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم ، لأنهما في معنى واحد ، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون . وروي أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام : ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ؟ وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة . وعن الحسن يقول الله يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم . وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد : @ ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس @@ انتهى ما ذكره ، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد الله بن المبارك . وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة . { ونعم أجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك ، أي المغفرة والجنة { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : أنه إنْ ظهر عليكم الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين ، وإنْ أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين . وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك . وقال النقاش : الخطاب للكفار لقوله بعد { ولا تهنوا } ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها ، فخاطبهم بأنه إنْ وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين . والمعنى : قد تقدّمت ومضت . وقال الزجاج : أهل سنن أي طرائق أو أمم ، على شرح المفضل أنّ السنة الأمة . وقال الحسن : سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم . وقال ابن زيد : أمثال . وقال ابن عباس : وقائع وطلب السير في الأرض ، وإن كانت أحوال من تقدّم تدرك بالأخبار دون السير . لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين ، وعنه ينقل : فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع . وقيل : السير هنا مجاز عن التفكر ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . وقال الجمهور : النظر هنا من نظر العين . وقال قوم : هو بالفكر . والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان . والمعنى : ما سنة الله في الأمم المكذبين من وقائعه كما قال تعالى : { فكلاًّ أخذنا بذنبه } [ العنكبوت : 40 ] { وقتلوا تقتيلاً * سنة الله في الذين خلوا من قبل } [ الأحزاب : 61 62 ] . وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار ، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات الله تعالى ، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سيّاح هذه الملة ، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلاث . { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } قال الحسن وقتادة وابن جريج والربيع : الإشارة إلى القرآن . وقيل : الإشارة إلى قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } قاله : ابن إسحاق ، والطبري ، وجماعة . أيْ هذا تفسير للناس إنْ قبلوه . وقال الشعبي : هذا بيان للناس من العمى . وقال الزمخشري : هذا بيان للناس ، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب . يعني : حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم ، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم . { وهدى وموعظة للمتقين } يعني : أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين . ويجوز أنْ يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان ، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين . ويكون قوله : هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان ظاهراً واضحاً قال : بيان للناس . ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلاّ لمَنْ اتقى خص بذلك المتقين ، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ ، فلا يناسب أن يضاف إليه الهدى والموعظة . { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } . لمّا انهزَم مَن انهزم من المؤمنين أقبل خالدٌ يريد أنْ يعلوَ الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك " فنزلت قاله : ابن عباس . وزاد الواقدي : أنّ رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم ، فذلك قوله : { وأنتم الأعلون } . وقال القرطبي : وأنتم الغالبون بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام ، وفي كل عسكر كان بعدُ ولو لم يكن فيه إلاّ واحدٌ من الصحابة . وقال الكلبي : نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح . وقال : لا يخرج إلاّ من شهد معنا أمس ، فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت . نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم ، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم ، فإنّهم صاروا إلى كرامة الله قاله : ابن عباس . أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله : مقاتل . أو لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجّه وكسر رباعيته ذكره : الماوردي . أو لما فات من الغنيمة ذكره : أحمد النيسابوري . أو لمجموع ذلك . وآنسهم بقوله : وأنتم الأعلون ، أي الغالبون وأصحاب العاقبة . وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله : الجمهور ، وهو الظاهر . وقيل : { أنتم الأعلون } ، أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسراً وقتلاً فيكونُ وأنتم الأعلون نصباً على الحال ، أي لا تحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى . وأما كونُه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير . قال ابن عطية : ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقصى جميع قدرته ، ولا يضرع ولو مات . وإنما يحسن اللين في السلم والرضا ، ومنه قوله عليه السلام : " المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون " وقال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة ، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم في الأصلح انتهى . وفي قوله : وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة ، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه ، إذ قال له : لا تخف إنك أنت الأعلى . وتعلق قوله : إن كنتم مؤمنين بالنهي ، فيكون ذلك هزاً للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله ، وقلة المبالاة بالأعداء . أو بالجملة الخبرية : أي إنْ صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة . ويكون شرطاً على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم ، أي : لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين ، فاستمسكوا بالإيمان . { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } المعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، ثم لم يضعفوا إنْ قاتلوكم بعد ذلك ، فلا تضعفوا أنتم . أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون . وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة . وقالت الخنساء : @ ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي @@ والمثلية تصدق بأدنى مشابهة . وقال ابن عباس والحسن : أصاب المؤمنين يوم أحد ما أصاب المشركين يوم بدر ، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون . وقال الزمخشري : قتل يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } [ آل عمران : 152 ] فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر . وأبعد من ذهب إلى أن القوم هنا الأمم التي قد خلت ، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من أعدائكم . ثم كانت العاقبة للمؤمنين ، فلكم بهم أسوة . فإنّ تأسيكم بهم مما يخفف ألمكم ، ويثبت عند اللقاء أقدامكم . وقرأ الإخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قُرح بضم القاف فيهما ، وباقي السبعة بالفتح ، والسبعة على تسكين الراء . قال أبو علي : والفتح أولى انتهى . ولا أولوية إذ كلاهما متواتر . وقرأ أبو السمال وابن السميفع قَرَحَ بفتح القاف والراء ، وهي لغة : كالطرد والطرد ، والشل والشلل . وقرأ الأعمش : إنْ تمسسكم بالتاء من فوق قروح بالجمع ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فتأسوا فقد مس القوم قرح ، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط . ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس ، فهو ذاهل . { وتلك الأيام نداولها بين الناس } أخبر تعالى على سبيل التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقي الناس على حالة واحدة . والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر ، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كما جاء الحرب سجال . وقال : @ فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر @@ وسمع بعض العرب الأقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية فقال : إنما هو نداولها بين العرب ، فقيل له : إنما هو بين الناس ، فقال : إنا لله ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة . وقرىء شاذاً . يداولها بالياء . وهو جار على الغيبة قبله وبعده . وقراءة النون فيها التفات ، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام ، والأيام : صفة لتلك ، أو بدل ، أو عطف بيان . والخبر نداولها ، أو خبر لتلك ، ونداولها جملة حالية . { وليعلم الله الذين آمنوا } هذه لام كي قبلها حرف العطف ، فتتعلق بمحذوف متأخر أي : فعلنا ذلك وهو المداولة ، أو نيل الكفار منكم . أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي : فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم . هكذا قدّره الزمخشري وغيره ، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت ، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف . ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها . فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل . ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد ، فيكون كعرف . وقيل : يتعدّى إلى اثنين ، الثاني محذوف تقديره : مميزين بالإيمان من غيرهم . أي الحكمة في هذه المداولة : أنْ يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام . وعلم الله تعالى لا يتجدد ، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها ، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعْلَ مَنْ يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت . وقيل : معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون ، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأزل . إذْ علمه لا يطرأ عليه التغير . ومثلُه أن يضرب حاكم رجلاً ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا التبيين لا ضرب مستحقاً معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه . وقيل : معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات . وقيل : العلم باق على مدلوله ، وهو على حذف مضاف التقدير : وليعلم أولياء الله ، فأسند ذلك إلى نفسه تفخيماً . { ويتخذ منكم شهداء } أي بالقتل في سبيله ، فيكرمهم بالشهادة . يعني يوم أحد . وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث . أو شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] . والقول الأول أظهر وأليق بقصة أحد . { والله لا يحب الظالمين } أي لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد . وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين ، فإنهم بانخذالهم ، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم ، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله . وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من ادالة الكفار ، ليس سببه المحبة منه تعالى ، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته ، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة . وهذه الجملة اعترضت بين بعض الملل وبعض ، لما فيها من التشديد والتأكيد . وأن مناط انتفاء المحبة هو الظلم ، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة . { وليمحص الله الذين آمنوا } أي يطهرهم من الذنوب ، ويخلصهم من العيوب ، ويصفيهم . قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين : التمحيص الابتلاء والاختبار . قال الشاعر : @ رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا فكشفه التمحيص حتى بداليا @@ وقال الزجاج : التنقية والتخليص ، وذكره عن : المبرد ، وعن الخليل . وقيل : التطهير . وقال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا . { ويمحق الكافرين } أي يهلكهم شيئاً فشيئاً . والمعنى : أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره ، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم ، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب . فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين ، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله : ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ينقصهم ويقللهم ، وقاله : الفراء . وقال مقاتل : يذهب دعوتهم . وقيل : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج ، فيكون على حذف مضاف . والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة ، وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . لأنه تعالى لم يمحق كل كافر ، بل كثير منهم باق على كفره . فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص . قيل : وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر ، لأن التمحيص إهلاك الذنوب ، والمحق إهلاك النفوس ، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى . وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة ، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم ، ولا تحط من أقدارهم ، بل لما ذكر تعالى . وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان : من ذلك الاعتراض في : والله يحب المحسنين ، وفي : ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وفي : والله لا يحب الظالمين . وتسمية الشيء باسم سببه في : إلى مغفرة من ربكم . والتشبيه في : عرضها السموات والأرض . وقيل : هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين ، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة . والطباق في : السرّاء والضرّاء ، وفي : ولا تهنوا والأعلون ، لأن الوهن والعلو ضدان . وفي آمنوا والظالمين ، لأن الظالمين هنا هم الكافرون ، وفي : آمنوا ويمحق الكافرين . والعام يراد به الخاص في : والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك . والتكرار في : واتقوا الله ، واتقوا النار ، وفي لفظ الجلالة ، وفي والله يحب ، وذكروا الله ، وفي وليعلم الله ، والله لا يحب ، وليمحص الله ، وفي الذين ينفقون ، والذين إذا فعلوا . والاختصاص في : يحب المحسنين ، وفي : وهم يعلمون ، وفي : عاقبة المكذبين ، وفي : موعظة للمتقين ، وفي : إن كنتم مؤمنين ، وفي : لا يحب الظالمين ، وفي : وليمحص الله الذين آمنوا ، وفي : ويمحق الكافرين . والاستعارة في : فسيروا ، على أنه من سير الفكر لا القدم ، وفي : وأنتم الأعلون ، إذا لم تكن من علو المكان ، وفي : تلك الأيام نداولها ، وفي : وليمحص ويمحق ، والإشارة في هذا بيان . وفي : وتلك الأيام . وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في : إن كنتم مؤمنين ، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع .