Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 171-180)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحظ النصيب ، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير . ماز و ميـز : فصل الشيء من الشيء . قال يعقوب : هما لغتان بمعنى واحد انتهى . والتضعيف ليس للنقل . وقيل : التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال ، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا الميز انتهى . ويعني : ولم تقولوه مسموعاً ، وأما بطريق القياس فيقال . وقيل : لا يكون ما زالا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل ، ولهذا قال أبو معاذ : يقال : ميزت بين شيئين ، ومزت بين الأشياء . اجتبى : اختار واصطفى ، وهي من جبيت الماء ، والمال وجبوتهما فاجتبى ، افتعل منه . فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء . { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } كرر الفعل على سبيل التوكيد ، إن كانت النعمة والفضل بياناً لمتعلق الاستبشار الأول ، قاله : الزمخشري . قال : وكرّر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله : { أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ آل عمران : 170 ] من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم ، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم . وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال : أكد استبشارهم بقوله : يستبشرون ، ثم بين بقوله : وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه ، لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى . وقال غيرهما : هو بدل من الأول ، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف . ومن ذهب إلى أنّ الجملة حال من الضمير في يحزنون ، ويحزنون هو العامل فيها ، فبعيد عن الصواب . لأن الظاهر اختلاف المنفى عنه الحزن والمستبشر ، ولأن الحال قيد ، والحزن ليس بمقيد . والظاهر أنَّ قوله : يستبشرون ليس بتأكيد للأول ، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم ، لا بالذين لم يلحقوا بهم . فقد اختلف متعلق الفعلين ، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم ، وهو : نعمة الله عليهم وفضله . وفي التنكير دلالة على بعض غير معين ، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيماً لأمره وتنبيهاً على صعوبة إدراكه ، كما جاء فيها " ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف ، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] فالحسنى هي النعمة ، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله : أحسنوا وقوله { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } وقال الزجاج : النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء . وقيل : النعمة قدر الكفاية ، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة . وقيل : الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا . وقرأ الكسائي وجماعة : وإن الله بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : والله لا يضيع أجر . وقال الزمخشري : وعلى أن الجملة اعتراض ، وهي قراءة الكسائي انتهى . وليست الجملة هنا اعتراضاً لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر ، وإنما جاءت لاستئناف أخبار . وقرأ باقي السبعة والجمهور : بفتح الهمزة عطفاً على متعلق الاستبشار ، فهو داخل فيه . قال أبو علي : يستبشرون بتوفير ذلك عليهم ، ووصوله إليهم ، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه . ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم ، وقد علموا قبل موتهم إن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، فهم يستبشرون بأن الله ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة ، وختم لهم بالنجاة والفوز ، وقد كانوا يخشون على إيمانهم ، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال ، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصحّ معها الأجور وتضاعف الأعمال ، استبشروا ، لأنهم كانوا على وجل من ذلك انتهى كلامه . وفيه تطويل شبيه بالخطابة . قيل : ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلتهم عند الله . { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } قيل : الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحدٍ . استنفر الرسول لطلب الكفار ، فاستجاب له تسعون . وذلك لمّا ذكر للرّسول أنّ أبا سفيان في جمع كثير ، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم ، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة فنزلت ، قاله : عمرو بن دينار . وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع . وقيل : الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة أحد ، حيث تواعد أبو سفيان ورسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فارعب ، وبدا له الرّجوع وقال لنعيم بن مسعود : واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهو عام جدب لا يصلح لنا ، فثبطتهم عنا واعلمهم أنا في جمع كثير ففعل ، وخوفهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزلت . قال معناه : مجاهد وعكرمة . وقيل : لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد ، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين ، وقال : " لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس " وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ، ولكن تجلدوا ، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي : على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد ، وقد ذكرت ومرّت قريش ، فانصرف الرسول إلى المدينة فنزلت . وروى أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة ، وضعف أحدهما فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ولما لم تتم استجابة العبد لله إلا باستجابته للرسول جمع بينهما ، لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة ، وللرّسول بتلقي الرّسالة منه والنصيحة له . والظاهر أنها استجابة واحدة ، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول . والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب . والظاهر إعراب الذين مبتدأ ، والجملة بعده الخبر . وجوزوا الاتباع نعتاً ، أو بدلاً ، والقطع إلى الرفع والنصب . ومن في منهم قال الزمخشري : للتبيين مثلها في قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } [ الفتح : 29 ] لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، إلا بعضهم . وعن عروة بن الزبير قالت لي عائشة : أن أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني : أبا بكر والزبير انتهى . وقال أبو البقاء : منهم حال من الضمير في أحسنوا ، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس . { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } قيل : أريد بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو قول : ابن قتيبة ، وضعفه ابن عطية . وبالثاني : أبو سفيان . وتقدّم ذكر قصة نعيم وذكرها المفسرون مطولة ، وفيها : أنَّ أبا سفيان جعل له جعلاً على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى وذلك عشرة من الإبل ضمنها له سهيل بن عمرو ، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفزع الناس وخوفهم اللقاء ، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي " فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فوافى بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسمى أهل مكة حسبة جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات ، فباعوا وأصابوا للدّرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة غانمين ، وحسبها الرسول لهم غزوة ، وظفر في وجهة ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غزة الجمحي فقتلهما . فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده ، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز ، لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد ، وبرد واحد ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه انتهى . ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو : أن نعيماً وحده هو المثبط ، لأنه قد انضاف إليه ناس ، فلا يكون إذ ذاك منفرداً بالتثبيط . وقيل : الناس الأول ركب من عبد القيس مرّوا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة ، فجعل لهم جعلاً وهو حمل إبلهم زبيباً على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين ، فأخبروا بذلك ، فقال الرسول وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد : { حسبنا الله ونعم الوكيل } والناس الثاني قريش ، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ . وجوزوا في إعراب الذين قال : أوجه الذين قبله ، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي : فزادهم ذلك القول إيماناً . وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول ، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده . وهما ضعيفان ، من حيث أن الأول لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به ، لا هو في نفسه . ومن حيثُ أنَّ الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع ، لا على المفرد . فيقول : مفارقه شاب ، باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب ، باعتبار مفرقه شاب . وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد ، ومعناه هنا : أنَّ ذلك القول زادهم تثبيتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال قوم : يزيد وينقص باعتبار الطاعات ، لأنها من ثمرات الإيمان ، وينقص بالمعصية وهو : مذهب مالك ونسب للشافعي . وقال قوم : من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة . وقال قوم : من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد . وقال قوم : من طريق نزول الفرائض والإخبار في مدة الرسول . وقال قوم : لا يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحكاه الباقلاني عن الشافعي . وقال أبو المعالي في الإرشاد : زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائماً ، لأنه عرض لا يثبت زمانين ، فهو للصالح متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، فهذا معنى الزيادة والنقص . وذهب قوم : إلى ما نطق به النص ، وهو أنه يزيد ولا ينقص ، وهو مذهب المعتزلة . وروى شبهه عن ابن المبارك . والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به التصديق فيعلق بشيء واحد : أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص ، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة ، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب . ولما تقدّم من المثبطين إخبار بأنّ قريشاً قد جمعوا لكم ، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه ، ترتب على هذا القول شيئان : أحدهما : قلبي وهو زيادة الإيمان ، وهو مقابل للأمر بالخشية . فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية ، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو : إنّ كافيهم شر الناس هو الله تعالى ، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله : ونعم الوكيل ، فدلّ على أنّ قولهم : حسبنا الله هو من المبالغة في التوكل عليه ، وربط أمورهم به تعالى . فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته ، حيث قوبل قول بقول ، ومتعلق قلب بمتعلق قلب . وتقدّم الكلام في حسب في قوله : { فحسبه جهنم } [ البقرة : 206 ] ومن قولهم : أحسبه الشيء كفاه . وحسب بمعنى المحسب ، أي الكافي ، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل . ألا ترى أنه يوصف به فتقول : مررت برجل حسبك من رجل ، أي : كافيك . فتصف به النكرة ، إذ إضافته غير محضة ، لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل . وقال : @ وحسبك من غنى شبع وريّ @@ أي كافيك . والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي الموكول إليه الأمور . قيل : وهذه الحسبلة هي قول ابراهيم عليه السلام حين ألقي في النار . والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، التقدير : ونعم الوكيل الله . قال ابن الأنباري : الوكيل الرّب قاله : قوم انتهى . والمعنى : أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول : القهار هو الله . وقيل : هو بمعنى الولي والحفيظ ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور . قال الفرّاء : والوكيل الكفيل { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } أي : فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي : السلامة وحذر العدوّ إياهم ، وفضل : وهو الربح في التجارة . كقوله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } [ البقرة : 198 ] هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ، ولم يذكر غيره ، وهو قول مجاهد . قال ابن عطية : والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة ، يريد : في السلامة والظهور ، وفي اتباع العدو ، وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه ، والفخر الذي تخللوه ، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد . وشذ مجاهد وقال : في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى ، وذكر قصة نعيم وأبي سفيان . قال : والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، انتهى كلامه . والكلام في هذه الآية مبني على الخلاف في قوله : { الذين استجابوا لله والرّسول } وقد تقدّم ذكره عند ذكر تفسيرها . وفرق بعضهم بين الانقلاب والرجوع ، بأن الانقلاب صيرورة الشيء إلى خلاف ما كان عليه . قال : ويوضح هذا أنك تقول : انقلبت الخمر خلاًّ ، ولا تقول : رجعت الخمر خلاًّ انتهى كلامه ، وفي ذلك نظر . وقيل : النعمة الأجر قاله : مجاهد . وقيل : العافية والنصر . قاله : الزجاج . قيل : والفضل ربح التجارة قاله : مجاهد ، والسدي ، والزهري . وتقدّم حكاية هذا القول عن مجاهد . وقيل : أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله : مقاتل . وقيل : الثواب ذكره الماوردي . والجملة من قوله : لم يمسسهم سوء في موضع الحال ، أي سالمين . وبنعمة حال أيضاً ، لأن الباء فيه باء المصاحبة ، أي : انقلبوا متنعمين سالمين . والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال ، يجوز دخول الواو عليها ، وعدم دخولها . فمن الأوّل قوله تعالى : { أو قال أوحي إليّ } [ الأَنعام : 93 ] ولم يوح إليه شيء ، وقول الشاعر : @ لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل @@ ومن الثاني قوله تعالى : { وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً } [ الأحزاب : 25 ] وقول قيس بن الأسلت : @ واضرب القوس يوم الوغى بالسيف لم يقصر به باعي @@ ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم : أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظاً احتاجت إلى الواو كان فيها ضميراً ، ولم يكن فيها . والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه . واتباعهم رضوان الله هو بخروجهم إلى العدو ، وجراءتهم ، وطواعيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم . وختمها بقوله : والله ذو فضل عظيم ، مناسب لقوله : { بنعمة من الله وفضل } تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه ، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا . وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً ؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ، ورضي عنهم . وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى ، جازاهم بنعمته ، وفضله ، وسلامتهم واتباعهم رضاه . { إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } ما : هي الكافة لأنَّ عن العمل . وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنّها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أنَّ الحصر . وذلكم : إشارة إلى الركب المثبط . وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان . فعلى هذا الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان . وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردّد . فعلى هذا تكون الإشارة إلى معانٍ ، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان . وقدّره الزمخشري قول الشيطان ، أي قول إبليس . فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز ، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط ، أو من قول ، وما انضم إليه مما صدر من العدوّ من تخويف ، وما صدر من جزع ، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ، لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه . والتشديد في يخوّف للنقل ، كان قبله يتعدّى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين . وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدّى إلى واحد ، والآخر محذوف . فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير : يخوفكم أولياء ، أي شر أوليائه في هذا الوجه . لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوّف أولياءه شرّ الكفار ، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون ، ومَن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه . وعلى الوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه . ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل . وقرأ أبيّ والنخعي : يخوفكم بأوليائه ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور . ويجوز أن تكون الباء للسبب ، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي : يخوّفكم الشرّ بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف . وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة ، المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشرّ بأوليائه ، وهذا بعيد . والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره ، ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله تعالى : { فتلك بيوتهم خاوية } [ النمل : 52 ] { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان ، ويكون يخوف خبراً عن ذلكم . وقال الزمخشري : الشيطان خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر . والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه . فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب . وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان ، لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس . لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه . وقال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأوّل . وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى . وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز ، إن كان الضمير في أولياءه عائداً على الشيطان ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيري أبي بكر لا إلٰه إلا الله ، وإنْ كان عائداً على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان . والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : أولياءه كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان . وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائداً على الناس من قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان . أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله : { ولا يخشون أحداً إلا الله } [ الأحزاب : 39 ] وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات . ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً } لما نهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان ، وأمرهم بخوفه وحده تعالى ، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر . والمعنى : لا يتوقع حزناً ولا ضرراً منهم ، ولذلك علله بقوله : إنهم لن يضروا الله شيئاً ، أي : لن يضروا نبي الله والمؤمنين . والمنفي هنا ضرر خاص ، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحلّ ، فهذا لن يقع أبداً ، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم . قيل : نزلت في المنافقين . وقيل : نزلت في قوم ارتدوا . وقيل : المراد كفار قريش . وقيل : رؤساء اليهود . والأولى حمله على العموم كقوله : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] وقيل : مثير الحزن وهو شفقته صلى الله عليه وسلم ، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار ، فنهى عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وقوله : { لعلك باخع نفسك أَلاَّ يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] وهذا من فرط رحمته للناس ، ورأفته بهم . وقرأ نافع : يحزنك من أحزن ، وكذا حيث وقع المضارع ، إلا في { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأَنبياء : 31 ] ، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن . يقال : حزن الرّجل أصابه الحزن ، وحزنته جعلت فيه ذلك ، وأحزنته جعلته حزيناً . وقرأ النحوي : يسرعون من أسرع في جميع القرآن . قال ابن عطية : وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده . وفي ضمن قوله : إنهم لن يضروا الله شيئاً دلالة على أنَّ وبال ذلك عائد عليهم ، ولا يضرون إلا أنفسهم . وانتصب شيئاً على المصدر ، أي شيئاً من الضرر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف الجر أي شيء { يريد الله أَلاَّ يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم } بين تعالى أنَّ ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة الله تعالى ، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان ، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة . فهذه تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في ترك الحرب ، لأن مراد الله منهم هو ما هم عليه ، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل قيل : لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة ؟ ( قلت ) : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى . وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة موجبة ، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر . ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم . ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك . والثاني : يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم . والثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله : ابن إسحاق . { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم } هذا عام في الكفار كلهم . وقوله : و { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] كان عاماً ، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصاً بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريراً على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئاً . ويندرج فيه ذلك الخاص أيضاً ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعية من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب . وجعل ذلك اشتراء . من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان . { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } معنى نملي : نمهل ونمد في العمر . والملاءة المدة من الدهر ، والملوان الليل والنهار . ويقال : ملاك الله نعمته ، أي منحكها عمراً طويلاً ، وقرأ حمزة تحسبنّ بتاء الخطاب ، فيكون الذين كفروا مفعولاً أول . ولا يجوز أن يكون : إنما نملي لهم خير ، في موضع المفعول الثاني ، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى ، والمصدر لا يكون الذات ، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي : ولا تحسبن شأن الذين كفروا . أو من الثاني أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب ، أنَّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول . وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري : على أن يكون إنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين . قال ابن الباذش : ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ ( قلت ) : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى كلامه . وهذا التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء ، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد . التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي لهم . قال الفرّاء ومثله : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم ، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم انتهى . وقد ردّ بعضهم قول الكسائي والفراء فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما انتهى . وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصاراً فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } [ آل عمران : 169 ] إن تقديره : ولا تحسبنهم . وذكرنا هناك أنَّ مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك ، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جداً بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادراً وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه . وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج ، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير . قال : وقد قرأ بها خلق كثير ، وساق عليها مثالاً قول الشاعر : @ فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما @@ بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، وعلى هذا يكون : إنما نملي بدل ، وخيراً : المفعول الثاني أي إملائنا خيراً . وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد . وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه . وقال أبو حاتم : سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى . وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً في موضع المفعول الثاني ، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم . وجاز الابتداء بأن المفتوحة ، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك . ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردّوها . وقال أبو علي الفارسي : ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة ، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني . وقال مكي في مشكله : ما علمت أحداً قرأ تحسبن بالتاء من فوق ، وكسر الألف من إنما . وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبنَّ بالياء ، وإعرابُ هذه القراءة ظاهر ، لأن الفاعل هو الذين كفروا ، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنَّ كما تقول : حسبت أن زيداً قائم . وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : أن الذي نملي ، وحذف العائد أي : عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلاً معمولاً لفعل تام متعيناً للربط ، أو أنَّ إملائنا خير . وجوّز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب ، فتكون القراءتان بمعنى واحد . وقرأ يحيـى بن وثاب : ولا يحسبن بالياء ، وإنما نملي بالكسر . فإن كان الفعل مسنداً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون المفعول الأول الذين كفروا ، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني . وإن كان مسنداً للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين . فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين ، ولكن يحيـى قرأ بالكسر ، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن ، وإن لم تكن اللام في حيزها . والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن ، وهو بعيد : لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل ، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله : @ إنـي وجـدت مـلاك الشيمـة الأدب @@ أي لملاك الشيمة الأدب ، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب . وحكى الزمخشري أن يحيـى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى ، وفتح الثانية . ووجه ذلك على أن المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان . والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة ، وترك المعاجلة بالعقوبة . وظاهر الذين كفروا العموم . وقال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين . وقال عطاء : في قريظة والنضير . وقال مقاتل : في مشركي مكة . وقال الزجاج : هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبداً ، وليست في كل كافر ، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان ، فيكون أحسن له . وقال مكي : هذا هو الصحيح من المعاني . وقال ابن عطية : معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم : إنّ كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده . وأخبر الله تعالى أنَّ ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام . قال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أمّا البرّة فلتسرع إلى رحمة الله . وقرأ : { وما عند الله خير للأبرار } [ آل عمران : 198 ] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً ، وقرأ هذه الآية انتهى . وقال الزمخشري : والإمّلاء لهم تحليتهم ، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء . وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم ، والمعنى : أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم ، إنَّما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيراً لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم ؟ ( قلت ) : هو علة الإملاء ، وما كلّ علة بغرض . ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب . فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسبباً فيه . ( فإن قلت ) : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب ؟ ( قلت ) : لمّا كان في علم الله المحيط بكلّ شيء أنَّهم مزدادون إثماً ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه . وكله جار على طريقة المعتزلة . وقال الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير . أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم . الثاني : أنّ هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدّنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شرٌّ . وفي التأويل إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لايجوز تنبيهه . فإنّ الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه . وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين . قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف . وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي . ولا مصدرية ، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه . وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة . { ولهم عذاب مهين } هذه الواو في : ولهم ، للعطف . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى قوله : ولهم عذاب مهين على هذه القراءة ، يعني قراءة يحيـى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية ؟ ( قلت ) : معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا الزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال . كأنه قيل : ليزدادوا إثماً معداً لهم عذاب مهين انتهى . والذين نقلوا قراءة يحيـى لم يذكروا أن أحداً قرأ الثانية بالفتح إلا هو ، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر . ولكنّ الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه . ولما قرر في هذه القراءة أنّ المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية . ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين . ولكل من هذه الصفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها . أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعاراً بخساسة ما سابقوا فيه . وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته . وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سبباً للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم . وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة . { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } الخطاب في أنتم للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين . وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضاً من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله : مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق . وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله : قتادة ، والسدي . قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرّجل منا أنّه من أهل النار ، وأنّه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكنْ أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت . فقيل لهم : لا بد من التمييز . وقال ابن عباس : وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين . وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال : ( فإن قلت ) : لمن الخطابُ في أنتم ؟ ( قلت ) : للمصدقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بإخباره بأحوالكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم ، وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإنّ ذلك مما استأثر الله به انتهى . ومعنى هذا القول لابن كيسان . قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته . وقيل : المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم . وقيل : كانوا يستهزؤون بالمؤمنين سراً فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم داراً أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في الجنة . والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد . وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، ميز بينهما يوم أحد . وقيل : الخببث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر . وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من إحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا . وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : { الخبيثات للخبيثين } [ النور : 26 ] الآية . واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع . وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي . ومذهب البصريين أنَّ خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأنَّ التقدير : ما كان الله مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريداً لترك المؤمنين . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل . وحتى للغاية المجرّدة ، والتقدير : إلى أن يميزها كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ، لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيداً إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيداً ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له . ومعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه : أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب . وقرأ الأخوان : يميز من ميز ، وباقي السبعة يميز من ماز . وفي رواية عن ابن كثير : يميز من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرّد كحزن وأحزن ، وقدر الله وقدّر . { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحداً من المخاطبين على الغيب . { ولكن الله يجتبي } أي : يختار ويصطفي { من رسله من يشاء } فيطلعه على ما شاء من المغيبات . فوقوع لكنَّ هنا لكون ما بعدها ضداً لما قبلها في المعنى . إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنَّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات . قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافراً ، ولكنَّ هذا رسول مجتبى . وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحدٍ أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال . وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكنْ بقرائن أفعالهم وأقوالهم . والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس . وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : لِم لمْ يوحَ إلينا في أمر محمد ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت . وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزلها الله بعد بعثته . ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولاً فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء . وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بإخباره لكم عن ذلك بوحي الله . وهذا معنى ما روي أيضاً عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز . ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبه فيقولون : إنَّ فلاناً منافق ، وفلاناً مؤمن . بل سنة الله تعالى جارية بأنْ لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان . فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق . وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنَّ هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم . أي : ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام . { فآمنوا بالله ورسله } لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات ، وإخباره لكم بها في غير ما موطن . وجمع في قوله ورسله تنبيهاً على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم . قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى . { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل : فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله . { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم } قال السدي وجماعة : نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله . وقال ابن عباس في رواية عطية ، ومجاهد وابن جريج وجماعة ، واختاره الزجاج : في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد . وقيل : في النفقة على العيال وذوي الأرحام . ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب . وقرأ حمزة تحسبن بالتاء ، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين . وقرأ باقي السبعة بالياء . فإنْ كان الفعل مسنداً إلى ضمير الرسول أو ضمير أحد ، فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل ، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه . وحذفه كما قلنا : عزيز جداً عند الجمهور ، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل . وقرأ الأعمش بإسقاط هو ، وخيراً هو المفعول بتحسبن . قال ابن عطية : ودل قوله : يبخلون على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : @ إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف @@ والمعنى : جرى إلى السفه انتهى . وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد . والثاني أن في الآية حذفاً لظاهر ، إذ قدروا المحذوف بخلهم ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف . ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولاً بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلاً ، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون . فعدي بحرف الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسبن الأول ، وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول . وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق ، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم . ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً ، إذ لم يقع فيه التنازع . ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر ، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو : إثبات كونه شراً لهم . { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } هذا تفسير لقوله : { بل هو شر لهم } والظاهر حمله على المجاز ، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة . وقال إبراهيم النخعي : سيُجعل لهم يوم القيامة طوق من نار . قال مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به . كقوله : { وعلى الذين يطوقونه } [ البقرة : 184 ] وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به . وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول . وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك . وجاء في الحديث : " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمة فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه " والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة . { ولله ميراث السماوات والأرض } فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السماوات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة . وهذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } [ الحديد : 7 ] . والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأنَّ جميع ما يخلقونه فهو وارثه . وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دلّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا الله ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل . { والله بما تعملون خبير } ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : يعملون على الغيبة جرياً على يبخلون وسيطوّقون . وقرأ الباقون : بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطاباً للباخلين . وقال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ، لأنه قد تقدّم { وإن تؤمنوا وتتقوا } . انتهى . فلا يكون على قوله التفاتاً ، والأحسن الالتفات . وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع . الاختصاص في : أجر المؤمنين . والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا الله شيئاً ، وفي : اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي ذكر الإملاء . والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب . والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي وفي : ليزدادوا إثماً ، وفي : الخبيث والطيب . والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا . والالتفات في : أنتم إن كان خطاباً للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب . والحذف في مواضع .