Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 19-22)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إن الدين عند الله الإسلام } أي الملة والشرع ، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر . قرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس ، والكسائي ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن ، بالفتح ، وتقدّمت قراءة ابن عباس : شهد الله إنه ، بكسر الهمزة ، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى . قال الزمخشري : فان قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلاَّ هو توحيد ، وقوله : قائماً بالقسط ، تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام ، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين ، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدّي إليه ، كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، وهذا بيِّن جلي كما ترى . انتهى كلامه . وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية ، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى . وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب : أنه ، وأن ، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى ؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال ، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل . وقال : وإن شئت جعلته بدلاً من القسط ، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة . انتهت تخريجات أبي علي ، وهو معتزلي ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه لا إلۤه إلاَّ هو ، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد ، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب ، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو ، و : بنو تميم ، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي ، إن الخصلة الحميدة هي البسالة . وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقاً أختك . فحنقاً : حال من زيد ، وأختك بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز . وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل . وخرجها الطبري على حذف حرف العطف ، التقدير : وأن الدين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه ، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية ، وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو : أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً . وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً . فإن فصلنا بين قولك : وعمرو ، وبين قولك : وسمكاً ، يحصل شنع التركيب . وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح . وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل . انتهى . وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء . وأما قراءة ابن عباس فخرج على { أن الدين عند الله الإسلام } هو معمول : شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { أنه لا إله إلا هو } والثاني : بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } وإذا أعربنا : العزيز ، خبر مبتدأ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات ، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها . وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بدّ من الأطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك ، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدّين ، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم ، على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى { من لدن حكيم خبير } [ هود : 1 ] وقال { من لدن حكيم عليم } [ هود : 1 ] والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام . ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدّين المقبول عند الله هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [ آل عمران : 85 ] وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز ، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع أن الدين عنده هو الإسلام ، إذ حكم في كل شريعة بذلك . فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل ، فيكون معناه المحكم ، كما قالوا في : أليم ، إنه بمعنى مؤلم ، وفي سميع من قول الشاعر : @ أمن ريحانة الداعي السميع @@ أي المسمع ؟ فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل ، وقد يؤوّل : أليم وسميع ، على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس ، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً ، خارج عن الحصر : كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ ، في ألفاظ لا تحصى ، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا . نكالاً من الله والله غفور رحيم } أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : والله غفور رحيم فقيل له التلاوة : { والله عزيز حكيم } [ المائدة : 38 ] فقال : هكذا يكون عز فحكم ، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها . وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل : أن الدين معمولاً : لشهد ، كما فهموا ، وأن : أنه لا إله إلاَّ هو ، اعتراض ، وأنه بين المعطوف والحال وبين : أن الدين ، اعتراض آخر ، أو اعتراضان ، بل نقول : معمول : شهد ، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد ، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول ، أو نقول : إنه معمولها ، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً ، فإنك تقول : شهدت إن زيداً ألمنطلق ، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت : شهدت أن زيداً منطلق ، فمن قرأ بفتح : أنه ، فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق . ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا . والإسلام : هنا الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال . وقرأ عبد الله : إن الدين عند الله الحنيفية . قال ابن الإنباري : ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير ، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات ، وقد تقدّم الكلام في الإسلام والإيمان : أهما شيء واحد أم هما مختلفان ؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل . { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } أي : اليهود والنصارى ، أو هما والمجوس ، أقوال ثلاثة : فعلى أنهم اليهود ، وهو قول الربيع بن أنس ، الذين اختلفوا فيه التوراة . قال : لما حضرت موسى عليه السلام الوفاة ، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع ، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم . وقيل : الذين اختلفوا فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : بعث إلى العرب خاصة ، وقال بعضهم : ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق . وعلى أنهم النصارى ، وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير ، فالذي اختلفوا فيه : دينهم ، أو أمر عيسى ، أو دين الإسلام . ثلاثة أقوال . وقال الزمخشري : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى { وقالت اليهود عزير ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أمّيون ، ونحن أهل كتاب ، وهذا تجوير لله تعالى . إنتهى . ثم قال : وقيل : اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام ، حيث آمن به بعض وكفر بعض ، وقيل : اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى . انتهى . والذي يظهر أن اللفظ عام في { الذين أوتوا الكتاب } وأن المختلف فيه هو : الإسلام ، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام ، ثم قال : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } أي : في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان . { إلا من بعد ما جآءهم العلم } الذي هو سبب لاتباع الإسلام ، والاتفاق على اعتقاده ، والعمل به ، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد ، والاسئثار بالرياسة ، وذهاب كل منهم مذهباً يخالف الإسلام حتى يصير رأساً يتبع فيه ، فكانوا ممن ضل على علم . وقد تقدّم ما يشبه هذا من قوله { وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات } [ البقرة : 213 ] . { بغياً بينهم } وإعراب : بغياً ، فإنه أتى بعد إلاَّ شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان ، وتخريج ذلك : فأغنى عن إعادته هنا . { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } هذا عام في كل كافر بآيات الله ، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب ، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم . وآياته ، هنا قيل : حججه ، وقيل : التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم . وقيل : القرآن ، وقال الماتريدي : أي من المختلفين . وتقدّم تفسير : سريع الحساب ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذوف تقديره : سريع الحساب له . { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } الضمير في : حاجوك ، الظاهر أنه يعود على { الذين أوتوا الكتاب } وقال أبو مسلم : يعود على جميع الناس ، لقوله بعد { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين } وقيل : يعود على نصارى نجران ، قدموا المدينة للمحاجة . وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام ، لأنه السابق . وجواب الشرط هو : { فقل أسلمت وجهي لله } والمعنى : انقدت وأطعت وخضعت لله وحده ، وعبر : بالوجه ، عن جميع ذاته ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال المروزي ، وسبقه الفراء إلى معناه : معنى أسلمت وجهي ، أي : ديني ، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل ، وجاء في التفسير أقوال لكم ، كما قال ابن نعيم : وقد أجمعتم على أنه محق { قَال ياقوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } [ الأَنعام : 78 79 ] . وقال الزمخشري : وأسلمت وجهي ، أي : أخلصت نفسي وعملي لله وحده ، لم أجعل له شريكاً بأن أعبده وأدعوا إلها معه ، يعني : أن ديني التوحيد ، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته ، كما ثبت عندي . وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ، ونحوه { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة } [ آل عمران : 64 ] الآية ، فهو دفع للمجادلة . إنتهى . وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معاً ، إلاَّ إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ ، فيسوغ له ذلك . وقال الرازي : في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : الأول : أنه إعراض عن المحاجة ، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية ، فإن هذه السورة مدنية ، وذلك بإظهار المعجزات بالقرآن وغيره ، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله : { الحيّ القيوم } [ آل عمران : 2 ] على فساد قول النصارى في إلهية عيسى ، وبقوله { نزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 3 ] على صحة نبوّته ، وذكر شُبَهَ القوم وأجاب عنها ، وذكر معجزات أخرى ، وهي ما شاهدوه يوم بدر ، بين القول بالتوحيد بقوله : شهد الله . والطريق الثاني : أنه إظهار للدليل ، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال : أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه ، والخلف فيما وراءه ، وعلى المدعي الإثبات . وأيضاً كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقاً ، وقد أمر أن يتبع ملته ، وهنا أمر أن يقول كقوله ، فيكون هذا من باب الإلزام ، أي : أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق ، وهذا قاله أبو مسلم ، وأيضاً لما تقدّم أن الدين هو الإسلام ، قيل له : إن نازعوك فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل الإسلام ، وأيضاً فالآية مناسبة لقول إبراهيم { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] أي : لا تجوز العبادة إلاَّ لمن يكون نافعاً وضاراً وقادراً على جميع الأشياء ، وعيسى ليس كذلك ، وأيضاً فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وروي هذا عن ابن عباس . إنتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها . وفتح الياء : من : وجهي ، هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون . { ومن اتبعن } قيل : من ، في موضع رفع ، وقيل : في موضع نصب على أنه مفعول معه ، وقيل : في موضع خفض عطفاً على اسم الله . ومعناه : جعلت مقصدي بالإيمان به ، والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بتعلمه ، وصحته . فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في : أسلمت ، قاله الزمخشري ، وبدأ به قال : وحسن للفاصل ، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل ، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر ، على رأي البصريين . إلاَّ أنه فصل بين الضمير والمعطوف ، فيحسن . وقاله ابن عطية أيضاً ، وبدأ به . ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : أكلت رغيفاً وزيد ، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلم وجهه لله ، وإنما المعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله ، وهم أسلموا وجوههم لله ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول : أسلمت ، التقدير : ومن اتبعني وجهه . أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : وعمرو كذلك . أي : قضى نحبه . ومن الجهة التي امتنع عطف . ومن ، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل ، يمتنع كون : من ، منصوباً على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفاً وعمراً ، أي : مع عمرو ، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية . وأثبت ياء : اتبعني ، في الوصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف ، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن وأهانن ، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر : @ وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا د من حذر الموت أن يأتيَنْ @@ { وقل للذين أوتوا الكتاب } هم : اليهود والنصارى باتفاق { والأمّيين } هم مشركو العرب ، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له { أأسلمتم } تقدير في ضمنه الأمر . وقال الزجاج : تهدّد . قال ابن عطية : وهذا حسن ، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا ؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة ، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته ، هل فهمتها لا أمّ لك ؟ ومنه قوله عز وعلا : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة وكلة القريحة ، وفي { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى كلامه . وهو حسن ، وأكثره من باب الخطابة . { فإن أسلموا فقد اهتدوا } أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية ، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى ، ومن الظلمة إلى النور . انتهى . { وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } أي : هم لا يضرونك بتوليهم ، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده ، وقيل : إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف ، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول ، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات ، وهو وفود وفد نجران ، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره . { والله بصير بالعباد } . وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام ، ووعد بالخير لمن أسلم ، إذ معناه : إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته . { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين } الآية هي في اليهود والنصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره ، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات : إحداهما : كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع ، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع ، أو يجعل : بآيات الله ، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم . الثانية : قتلهم الأنبياء ، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] والألف واللام في : النبيين ، للعهد . والثالثة : قتل من أمر بالعدل . فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم ، وبما هو سبب للآخر : فأولها : الكفر بآيات الله ، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة ، وثانيها : قتل من أظهر آيات الله واستدل بها . والثالث : قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل ، ودخلت الفاء في خبر : أن ، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط ، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك ، نسب إليهم ذلك ، ولأنهم أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم ، فقتل أتباعه ، فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي : من شأنهم وإرادتهم ذلك . ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك ، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة ، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم . والمعنى : إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف ، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم ، فإنهم لم يكونوا على حق . فذكر تقبيح الأوصاف ، والتوعد عليها بالعقاب ، مما ينفر عنها ، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم . وقرأ الحسن : ويقتلون النبيين ، بالتشديد ، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة ، وجماعة من غير السبعة : ويقاتلون الثاني . وقرأها الأعمش : وقاتلوا الذين ، وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبيّ : يقتلون النبيين والذين يأمرون ، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد ، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل ، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع ، لأن كل جملة مستقلة بنفسها ، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل ، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء ، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان . وقيل : يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح ، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر ، فيكونان إذ ذاك مختلفين . وجاء في هذه السورة { بغير حق } [ البقرة : 61 ] بصيغة التنكير ، وفي البقرة { بغير الحق } بصيغة التعريف ، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط ، وهو عام لا يتخصص ، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً ، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين ، وذلك قوله { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] فناسب أن يأتي بصيغة التعريف ، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً ، كقوله { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في هذه السورة . وقد تقدّم في البقرة أن قوله : { بغير الحق } [ البقرة : 61 ] هي حال مؤكدة ، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق ، وأوضحنا لك ذلك . فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا . ومعنى : من الناس ، أي : غير الأنبياء ، إذ لو قال : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم ، فجاء من الناس بمعنى : من غير الأنبياء . قال الحسن : تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء . و " عن أبيه عبيدة بن الجراح ، قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : " رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر " ثم قرأها . ثم قال : " يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني اسرائيل ، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار " { فبشرهم بعذاب أليم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم ، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه . وهذه الجملة هي خبر : إن ، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه ، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء ، أعني : إن . ومع ذلك في المسألة خلاف : الصحيح جواز دخول الفاء في خبر : إن ، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط ، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ ، وتلك الشروط معتبرة هنا ، ونظير هذه الآية في دخول الفاء { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم } [ محمد : 34 ] { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم } [ الأحقاف : 13 ] { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } [ البروج : 13 ] . ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة ، ولم يقس زيادتها . وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار ، فإذا استعملت مع ما ليس بسار ، فقيل : ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله : @ تحية بينهم ضرب وجيع @@ أي : القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل : هو على معنى تأثر البشرة من ذلك ، فلم يؤخذ فيه قيد السرور ، بل لوحظ معنى الاشتقاق . { أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } . تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله { ومن يرتدد منكم عن دينه } [ البقرة : 217 ] فأغنى عن إعادته . وقرأ ابن عباس ، وأبو السمال : حبطت ، بفتح الباء وهي لغة . { وما لهم من ناصرين } مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد ، لأنه رأس آية ، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين ، أي : ليس لهم كأمثال هؤلاء ، والمعنى : بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد ، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى ، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد ، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة ، ليقابل كل وصف بمناسبه ، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم ، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم ، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة ، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق ، وفي الآخرة بالعقاب الدائم ، وقابل قتل الآمرين بالقسط ، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب ، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين ، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب . وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة ، وأخبر عنه : بالذين ، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل ، ولأن فيه نوع انحصار ، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع ، معهودة عنده ، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول ، بخلاف الإخبار بالفعل ، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه ، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده ، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة ، وأخبرت بالموصول عن الأسم . قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة . أحدهما : التقديم والتأخير في : { إن الدين عند الله الإسلام } قال ابن عباس التقدير : شهد الله أن الدين عند الله الاسلام ، أنه لا إله إلا هو ، ولذلك قرأ إنه ، بالكسر : وأن الدين ، بالفتح . وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله { من بعد ما جاءهم العلم } عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى الله عليه وسلم ، على الخلاف الذي سبق . وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : { حبطت أعمالهم } وأصحاب النار . والإيماء في قوله : { بغياً بينهم } فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم ، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه . والتعبير ببعض عن كل في : { أسلمت وجهي } . والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله { أأسلمتم } . والطباق المقدر في قوله : { فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } ووجهه : أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام ، والإقبال عليه ، والتولي ضد الإقبال . والتقدير : وإن تولوا فقد ضلوا ، والضلالة ضد الهداية . والحشو الحسن في قوله { بغير حق } فإنه لم يقتل قط نبي بحق ، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء ، ويعظم أمره في قلب العازم عليه . والتكرار في { ويقتلون الذين } تأكيداً لقبح ذلك الفعل . والزيادة في { فبشرهم } زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط . والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق .