Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 23-32)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
غَر ، يغر ، غروراً : خدع والغِر : الصغير ، والغريرة : الصغيرة ، سميا بذلك لأنهما ينخدعان بالعجلة ، والغِرة منه يقال : أخذه على غرة ، أي : تغفل وخداع ، والغُرة : بياض في الوجه ، يقال منه : وجه أغر ، ورجل أغر ، وامرأة غراء . والجمع على القياس فيهما غُر . قالوا : وليس بقياس : وغران . قال الشاعر : @ ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غران @@ نزع ينزع : جذب ، وتنازعنا الحديث تجاذبناه ، ومنه : نزاع الميت ، ونزع إلى كذا : مال إليه وانجذب ، ثم يعبر به عن الزوال ، يقال : نزع الله عنه الشر : أزاله . ولج يلج ولوجاً ولجة وولجاً ، وولج تولجاً وأتلج إتلاجاً قال الشاعر : @ فإن القوافي يتَّلجْن موالجاً تضايق عنها أن تولجها الإبر @@ الامد : غاية الشيء ، ومنتهاه ، وجمعه آماد . اللهم : هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره ، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء ، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة . وعند الفراء : هي من قوله : يا الله أمنا بخير ، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو ، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها : أل ، فقالوا : لا همّ ، بمعنى : اللهمّ . قال الزاجر : @ لاهم إني عامر بن جهم أحرم حجاً في ثياب دسم @@ وخففت ميمها في بعض اللغات قال : @ كَحَلْفَة من أبي رياح يسمعها اللَّهُمَ الكُبار @@ الصدر : معروف ، وجمعه : صدور . { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } قال السدّي : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أبي أوفى : هلم نخاصمك إلى الأحبار . فقال : " بل إلى كتاب الله " . فقال : بل إلى الأحبار . فنزلت " . وقال ابن عباس : " دخل صلى الله عليه وسلم إلى المدراس على اليهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : " على ملة إبراهيم " . قالا : إن إبراهيم كان يهودياً . فقال صلى الله عليه وسلم : " فهلموا إلى التوراة " . فأبيا عليه ، فنزلت . " وقالَ الكلبي : " زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفاً للزانيين لشرفهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إنما أحكم بكتابكم " . فأنكروا الرجم ، فجيء بالتوراة ، فوضع حبرهم ، ابن صوريا ، يده على آية الرجم ، فقال عبد الله بن سلام : جاوزها يا رسول الله ، فأظهرها فرُجما " وقال النقاش : " نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوّته ، فقال لهم : " هلموا إلى التوراة ففيها صفتي " وقال مقاتل : " دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبياً إلا من بين إسرائيل ، قال : " فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي " فأبوا ، فنزلت " { والذين أوتوا نصيباً من الكتاب } هم : اليهود ، والكتاب : التوراة . وقال مكي وغيره : اللوح المحفوظ ، وقيل : { من الكتاب } جنس للكتب المنزلة ، قاله ابن عطية ، وبدأ به الزمخشري و : من ، تبعيض . وفي قوله : نصيباً ، أي : طرفاً ، وظاهر بعض الكتاب ، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه . { يدعون إلى كتاب الله } هو : التوراة ، وقال الحسن ، وقتادة ، وابن جريح : القرآن . و : يدعون ، في موضع الحال من الذين ، والعامل : تر ، والمعنى : ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب الله ؟ أي : في حال أن يدعوا إلى كتاب الله { ليحكم بينهم } أي : ليحكم الكتاب . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وعاصم الجحدري : ليُحكم ، مبيناً للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول . { ثم يتولى فريق منهم } هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب ، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين ، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره . { وهم معرضون } جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض ، أو مبينة لكون التولي عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه ، فيكون المتعلق مختلفاً ، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب ، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم ، قاله ابن الأنباري . أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم ، وفي قوله : { بينهم } دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول ، فإن صح سبب منها كان المعنى : ليحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم ، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم ، ليحكم بين المحق والمبطل ، فتولى من لم يسلم . قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته ، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم ، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه . وفيها دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله ، ويعضده : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } [ النور : 48 ] . قال القرطبي : وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف ، والمخالَف . وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب ، وليس بالديار المصرية . قال ابن خويزمنداد المالكي : واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق . { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } الإشارة بذلك إلى التولي ، أي : ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة ، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب ، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل . وقال الزمخشري : كما طمعت الجبرية والحشوية . { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، كما غرى أولئك بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبائرهم . إنتهى كلامه . وهو على عادته من اللهج بسب أهل السنة والجماعة ، ورميهم بالتشبيه ، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه . وتقدّم تفسير هذه : الأيام المعدودات ، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ أنه جاء هناك : معدودة ، وهنا : معدودات ، وهما طريقان فصيحان تقول : جبال شامخة ، وجبال شامخات . فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة ، وتارة لصفة المؤنثات . فكما تقول : نساء قائمات ، كذلك تقول : جبال راسيات ، وذلك مقيس مطرد فيه . { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } قال مجاهد : الذي افتروه هو قولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات } وقال قتادة : قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] . وقيل : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] . وقيل : مجموع هذه الأقوال . وارتفع : ذلك ، بالابتداء ، و : بأنهم ، هو الخبر ، أي : ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول ، وهو قولهم : إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل ، يحصرها العدد . وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : شأنهم ذلك ، أي التولي والإعراض ، قاله الزجاج . وعلى هذا يكون : بأنهم ، في موضع الحال ، أي : مصحوباً بهذا القول ، و : ما في : ما كانوا ، موصولة ، أو مصدرية . { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } هذا تعجيب من حالهم ، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم ، وظهر كذب دعواهم ، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه ، كما قال تعالى : { تلك أمانيهم } [ البقرة : 111 ] هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء ، فكيف إذا توفتهم الملائكة ؟ وقال الشاعر : @ فكيف بنفس ، كلما قلت : أشرفت على البرء من دهماء ، هيض اندمالها @@ وقال : @ فكيف ؟ وكلٌّ ليس يعدو حمامه وما لامرىء عما قضى الله مرحلُ @@ وانتصاب : فكيف ، قيل على الحال ، والتقدير : كيف يصنعون ؟ وقدره الحوفي : كيف يكون حالهم ؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان ، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى : التقدير : كيف حالهم ؟ والعامل في : إذا ، ذلك الفعل الذي قدره ، والعامل في : كيف ، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف ، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف ، فيكون العامل في : إذا ، المبتدأ الذي قدرناه ، أي : فكيف حالهم في ذلك الوقت ؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب ، وكذا أكثر استفهامات القرآن ، لأنها من عالم الشهادة ، وإنما استفهامه تعالى تقريع . واللام ، تتعلق : بجمعناهم ، والمعنى : لقضاء يوم وجزائه كقوله : { إنك جامع الناس ليوم } [ آل عمران : 9 ] قال النقاش : اليوم ، هنا الوقت ، وكذلك : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] و { في يومين } [ البقرة : 203 ] و { في أربعة أيام } [ فصلت : 10 ] إنما هي عبارة عن أوقات ، فإنما الأيام والليالي عندنا في الدنيا . وقال ابن عطية : الصحيح في يوم القيامة أنه يوم ، لأنه قبله ليلة وفيه شمس . ومعنى : { لا ريب فيه } أي في نفس الأمر ، أو عند المؤمن ، أو عند المخبر عنه ، أو حين يجمعهم فيه ، أو معناه : الأمر خمسة أقوال . { ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة ، آخر آيات الربا . { قل اللهم مالك الملك } قال الكلبي : " ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها صلى الله عليه وسلم ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " في الأولى : قصور العجم ، وفي الثاني : قصور الروم . وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل " . فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم " ، فنزلت . اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جداً . وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد الله بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت . وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت . وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات ! هيهات ! فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة . وقال الحسن : سأل صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي . وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك . وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : والله لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت . وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف . والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول . وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول . وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا . وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون . وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى . إنتهى . وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم : @ كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح يسمعها اللَّهم الكبار @@ قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا . قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار . إنتهى . وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله ؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها . وقال الحسن : اللهم مجمع الدعاء . ومعنى قول النضر : إن اللهم هو الله زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك . وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو . { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين . والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن . وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى . وقيل : العافية ، وقيل : القناعة . وقيل : الغلبة بالدين والطاعة . وقيل : قيام الليل . وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين . وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم . وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام . وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان . وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم . وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش . وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم . وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم . وقيل : آدم وولده ، والمنزوع منه إبليس وجنوده . وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت . وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليمان أيام محنته . وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء . وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول . وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد . { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } قيل : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب . وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتدل بالخذلان . وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم . وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية . وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية . وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء . وقيل بالغنى وتذل بالفقر . وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل . وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق . وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني . وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع . وينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] { إن الله اصطفاه عليكم } [ البقرة : 247 ] جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء الله الملك ، وأما الظالمون فلا . أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم . وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة . وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبة للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً . وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً . قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله { أذلة على المؤمنين } [ المائدة : 54 ] وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة . { بيدك الخير } أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحة لله تعالى . قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد . وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله { إنك على كل شيء قدير } فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال . وقال الزمخشري . فإن قلت : كيف قال { بيدك الخير } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : { بيدك الخير } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله . انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟ وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط . وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول . وقال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : { بيدك الخير } فأجزل حظي منه . وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه . وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق الله . ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف . { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : المعنى ما ينتقص من النهار يزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل يزيد في النهار ، دأباً كل فصل من السنة ، قيل : حتى يصير الناقص تسع ساعات ، والزائد خمس عشرة ساعة . وذكر بعض معاصرينا : أجمع أرباب علم الهيئة على أن الذي تحصل به الزيادة من الليل والنهار يأخذ كل واحد منهما من صاحبه ثلاثين درجة ، فتنتهي زيادة الليل على النهار إلى أربع عشرة ساعة ، وكذلك العكس . وذكر الماوردي : أن المعنى في الولوج هنا تغطية الليل بالنهار إذا أقبل ، وتغطية النهار بالليل ، إذا أقبل ، فصيرورة كل واحد منهما في زمان الآخر كالولوج فيه ، وأورد هذا القول احتمالاً ابن عطية ، فقال : ويحتمل لفظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار ، وكان زوال أحدهما ولوج الآخر . { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } معنى الإخراج التكوين هنا ، والإخراج حقيقة هو إخراج الشيء من الظرف قال ابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم ، والسدي ، وإسماعيل بن أبي خالة إبراهيم ، وعبد الرحمن بن زيد . تخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة إذا انفصلت النطفة من الحيوان ، وتخرج النطفة وهي ميتة من الرجل وهو حي ، فعلى هذا يكون الموت مجازاً إذ النطفة لم يسبق لها حياة ، ويكون المعنى : وتخرج الحي من ما لا تحله الحياة وتخرج ما لا تحله الحياة من الحي ، والإخراج عبارة عن تغير الحال . وقال عكرمة ، والكلبي : أي الفرخ من البيضة ، والبيضة من الطير ، والموت أيضاً هنا مجاز والإخراج حقيقة . وقال أبو مالك : النخلة من النواة ، والسنبلة من الحبة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والموت والحياة في هذا مجاز . وقال الحسن ، وروى نحوه عن سلمان الفارسي : تخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وهما أيضاً مجاز . وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سبحان الله الذي يخرج الحيّ من الميت " وقد رأى امرأة صالحة مات أبوها كافراً وهي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث . وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحيّ . وقيل : الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب وقال الماوردي : ويحتمل يخرج الجلد الفطن من البليد العاجز ، والعكس ، لأن الفطنة حياة الحس والبلادة موته . وقيل : يخرج الحكمة من قلب الفاجر لأنها لا تستقر فيه ، والسقطة من لسان العارف وهذه كلها مجازات بعيدة . والأظهر في قوله { الحي من الميت } تصور اثنين وقيل : عنى بذلك شيئاً واحداً يتغير به الحال ، فيكون ميتاً ثم يحيا ، وحياً ثم يموت . نحو قولك : جاء من فلان أسد وقال ابن عطية : ذهب جمهور من العلماء إلى أن الحياة والموت هنا حقيقتان لا استعارة فيهما ، ثم اختلفوا في المثل الذي فسروا به ، وذكر قول ابن مسعود وقول عكرمة المتقدمين ، ولا يمكن الحمل إذ ذاك على الحقيقة أصلاً ، وكذلك في الموت ، وشدّد حفص ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : الميِّت ، في هذه الآية . وفي الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، والروم ، وفاطر زاد نافع تشديد الياء في : { أو من كان ميِّتاً فأحييناه } [ الأَنعام : 122 ] و { الأرض الميتة } [ يس : 33 ] و { لحم أخيه ميتاً } [ الحجرات : 12 ] . وقرأ الباقون بتخفيف ذلك ، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال ، كما تقول : لين وليّن وهين وهيّن . ومن زعم أن المخفف لما قد مات ، والمشدّد لما قد مات ولما لم يمت فيحتاج إلى دليل . { وترزق من تشاء بغير حساب } تقدّم تفسير نظيره في قوله { والله يرزق من يشاء بغير حساب * كان الناس أمة واحدة } [ البقرة : 212 213 ] فأغنى ذلك عن اعادته هنا وقال الزمخشري : ذكر قدرته الباهرة ، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ، ويؤتيه العرب ويعزهم . انتهى . وهو حسن . قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من : الفصاحة ، والبلاغة ، والبديع . الاستفهام الذي معناه التعجب في { ألم تر إلى الذين } . والإشارة في { نصيباً من الكتاب } فإدخال : من ، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علماً ولا حفظاً ، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم ، وتنقيص قدرهم وذمهم ، اذ يزعمون أنهم أخيار وهم بخلاف ذلك ، وفي قوله { ذلك بأنهم } إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم ، وفي { ووفيت كل نفس } إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء . والتكرار في { نصيباً من الكتاب } { يدعون إلى كتاب الله } إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحداً ، وإما في اللفظ إن كان مختلفاً . وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد . وفي : { مالك الملك } { تؤتي الملك } { وتنزع الملك } وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحداً ، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط ، وتكرار { من تشاء } وفي { تولج } وفي { تخرج } وفي متعلقيهما . والاتساع في جعل : في ، بمعنى : على ، على قول من زعم ذلك في قوله { تولج الليل في النهار } أي على النهار ، { وتولج النهار في الليل } أي على الليل . وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية . والنفي المتضمن الأمر في { لا ريب فيه } على قول الزجاج ، أي لا ترتابوا فيه ، والتجنيس المماثل في { مالك الملك } والطباق : في : تؤتي وتنزع ، وتعز وتذل ، وفي الليل والنهار ، وفي الحي والميت . ورد العجز على الصدر في : تولج ، وما بعده ، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها . كقوله { تؤتي الملك من تشاء } أي من تشاء أن تؤتيه . والإسناد المجازي في { ليحكم بينهم } أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم وروي في الحديث : " إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم : قل اللهم مالك الملك إلى بغير حساب . ويقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما من تشاء إقض عني ديني . فلو كان ملء الأرض ذهباً لأداه الله " { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } قيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو وقيل : في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود وقيل : في قوم من اليهود ، وهم : الحجاح بن عمر ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن يزيد ، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس . وقيل : في حاطب بن بلتعة ، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش ، فنزلت . ومعنى : اتخاذهم أولياء : اللطف بهم في المعاشرة ، وذلك لقرابة أو صداقة . قبل الإسلام ، أو يد سابقة أو غير ذلك ، وهذا فيما يظهر نهوا عن ذلك ، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم ، واللطف عام في جميع الأعصار ، وقد تكرر هذا في القرآن . ويكفيك من ذلك قوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] الآية ، والمحبة في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول الدين . وقرأ الجمهور : لا يتخذ ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي ، والمراد به النهي ، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها ، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق ، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك . وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلاَّ ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيداً ، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل ، والأرفع بالأوضع ، والنكاح فيهم . فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه ، ولسنا ممنوعين منه ، فالنهي ليس على عمومه . { من دون المؤمنين } تقدم تفسير : من دون ، في قوله { وادعوا شهداءكم من دون الله } [ البقرة : 23 ] فأغنى عن إعادته . و : يتخذ ، هنا متعدية إلى اثنين ، و : من دون ، متعلقة بقوله : لا يتخذ ، و : من ، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين . { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء ، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة ، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من الله ، وفي الكلام مضاف محذوف أي : فليس من ولاية الله في شيء وقيل : من دينه وقيل : من عبادته وقيل : من حزبه . وخبر : ليس ، هو ما استقلت به الفائدة ، وهي : في شيء ، و : من الله ، في موضع نصب على الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء ، والتقدير : فليس في شيء من ولاية الله . و : من ، تبعيضية نفي ولاية الله عن من اتخذ عدوه ولياً ، لأن الولايتين متنافيتان ، قال : @ تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ، ليس النَّوْكُ عنك بعازب @@ وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة : @ إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني @@ ليس بجيد ، لأن : منك ومني ، خبر ليس ، وتستقل به الفائدة . وفي الآية الخبر قوله : في شيء ، فليس البيت كالآية . قال ابن عطية { فليس من الله في شيء } معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من غشنا فليس منا " وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والتزلف . ونحو هذا مقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله : { ليس من الله في شيء } . انتهى كلامه . وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله ، يقتضي أن لا يكون من الله خبراً لليس ، إذ لا يستقل . فقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى : ليس ، على قوله لا يكون لها خبر ، وذلك لا يجوز . وتشبيهه بقوله عليه السلام : " من غشنا فليس منا " ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية . { إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة } هذا استثناء مفرع من المفعول له ، والمعنى لا يتخذوا كافراً ولياً لشيء من الأشياء إلاَّ لسبب التقية ، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب والضمير ، ولذلك قال ابن عباس : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ، ولا مودة لهم في قلبه . وقال قتادة : إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم ، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان . وقال ابن مسعود : خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه . وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : خالص المؤمن وخالق الكافر ، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن . وقال الصادق : التقية واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال : الرياء مع المؤمن شرك ، ومع المنافق عبادة . وقال معاذ بن جبل ، ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم . وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا . وفي قوله { إِلا أَن تتقوا } التفات ، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا ، بالياء المعجمة من أسفل ، وهذا النوع في غاية الفصاحة ، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز ، جعل ذلك في اسم غائب ، فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذاناً بلطف الله بهم ، وتشريفاً بخطابه إياهم . وقرأ الجمهور : تقاة ، وأصله : وقية ، فأبدلت الواو تاء ، كما أبدلوها في : تجاه وتكاه ، وانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة ، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلاً . وجاء مصدراً على غير الصدر ، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظير وقوله تعالى : { وتبتل إليه تبتيلا } [ المزمل : 8 ] وقول الشاعر : @ ولاح بجانب الجبلين منه ركام يحفر الأرض احتفاراً @@ والمعنى : إلاَّ أن تخافوا منهم خوفاً . وأمال الكسائي : تقاة ، وحق تقاته ، ووافقه حمزة هنا وقرأ ورش بين اللفظين ، وفتح الباقون . وقال الزمخشري : إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء : تقية . وقيل : للمتقي تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه . انتهى فجعل : تقاة ، مصدراً في موضع اسم المفعول ، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر ، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً . وقال أبو عليّ : يجوز أن يكون : تقاة ، مثل : رماة ، حالاً من : تتقوا ، وهو جمع فاعل ، وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقي . انتهى كلامه . وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله { إلا أن تتقوا منهم } وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً ، ولو كان جمع : تقي ، لكان أتقياء ، كغني وأغنياء ، وقولهم : كمي وكماة ، شاذ فلا يخرّج عليه ، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى : { اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] المعنى حق اتقائه ، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي ، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد بن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن : فعيلة ، وهو قليل نحو : النميمة . وكونه من افتعل نادر . وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك : الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر . قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ؛ وأما ما يببحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة . وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك . وأما من الأفعال : فكل محرم . وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ . وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، والضحاك . وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من الله تعالى ، وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة . قال أحمد بن حنبل ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا . وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة ، وتابعيهم ، بذلوا أنفسهم في ذات الله . وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم . وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة . وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال . إنتهى . قيل : وفي الآية دلالة على أنه لا ولاية لكافر على مسلم في شيء ، فإذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولايه له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره . قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة . { ويحذركم الله نفسه } قال ابن عباس : بطشه ، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الأعشى : @ يوماً بأجود نائلاً منه إذا نفس الجبان تجهمت سؤَّالها @@ أراد إذا البخيل تجهم سؤاله . قال ابن عطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات . وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه . فقال ابن عباس ، والحسن : ويحذركم الله عقابه . إنتهى كلامه . ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعدائه قال : { وإلى الله المصير } أي : صيرورتكم ورجوعكم ، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي . وفي ذلك تهديد ووعيد شديد . { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدّم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله : { يعلمه الله } وذلك من التفنن في الفصاحة . والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك . { ويعلم ما في السموات وما في الأرض } هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض . { والله على كل شيء قدير } فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدروهم . وقال الزمخشري : وهذا بيان لقوله { ويحذركم الله نفسه } لأن نفسه ، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى ، فلا يجسر أحد على قبيح ، ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ، فلا حق به العذاب . إنتهى . وهو كلام حسن ، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم ، والقدرة لله تعالى ، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة ، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات . { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } اختلف في العامل في : يوم ، فقال الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه . وقال أيضاً : العامل فيه : المصير . وقال مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضاً : فيه مضمر تقديره اذكر . وقال ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ، لطول الفصل . هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه : بالمصير ، للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه : بقدير ، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً . وأما نصبه باضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل . وقال الزمخشري : { يوم تجد } منصوب : بتود ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً . إنتهى هذا التخريج . والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب الكسائي ، وهشام ، وجمهور البصريين : إلى جواز هذه المسائل . ومنها الآية على تخريج الزمخشري ، لأن الفاعل : بتودّ ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تودّ ، وهو : يوم ، لأن : يوم ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ . وذهب الفراء ، وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ، لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيداً ضرب ، وزيداً ظنّ قائماً . والصحيح جواز ذلك قال الشاعر : @ أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني @@ أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر . و : تجد ، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضراً ، منصوباً على الحال . وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدّى إلى اثنين ، وينتصب : محضراً على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه . قيل : ومعنى : محضراً على هذا موفراً غير مبخوس . وقيل : ترى ما عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشيراً لها ، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل . وقرأ الجمهور : محضراً ، بفتح الضاد ، اسم مفعول . وقرأ عبيد بن عمير : محضرا بكسر الضاد ، أي محضراً الجنة أو محـضراً مسرعاً به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع . و : ما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفاً على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدّية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد محذوفاً ، أي : وما عملت من سوء محضراً . وذلك نحو : ظننت زيداً قائماً وعمراً ، إذا أردت : وعمراً قائماً ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تودّ ، مستأنفاً . ويجوز أن يكون : تود ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء ، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلاَّ بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتودّ تباعده لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير . والأولى : عوده على : ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى : أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف : ما عملت من سوء ، على : ما عملت من خير ، وكون ، تودّ ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء و : تودّ ، جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، شرطاً . قال الزمخشري : لارتفاع : تودّ . وقال ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه ، اللهم إلاَّ أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تودّ ، وفي ذلك ضعف . انتهى كلامه . وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تودّ ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه الله ، واستشكل قول الزمخشري . وقال : ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير : @ وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول : لا غائب مالي ولا حرم @@ وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى : ( بالتذكرة ) ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك ، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وان قام زيد يقم عمرو . فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب ( الإعراب ) عن بعض النحويين أنه : لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع : كان ، لقوله تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها } [ هود : 15 ] لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها . وظاهر كلام سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد سيبويه للفرزدق : @ دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدوراً ذات توغير @@ وقال أيضاً : @ تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان @@ وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير . وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بين زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضاً : @ وإن سل ريعان الجميع مخافة يقول جهاراً : ويلكم لا تنفروا @@ وقال أبو صخر : @ ولا بالذي إن بان عنه حبيبه يقول ويخفي الصبر : إني لجازع @@ وقال الآخر : @ وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر @@ وقال الآخر : @ وإن كان لا يرضيك حتى تردّني إلى قطري لا إخالك راضياً @@ وقال الآخر : @ إن يسألوا الخير يعطوه ، وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب إخبار @@ فهذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره . وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي ، وهو مصنف ( رصف المباني ) رحمه الله : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدّم الماضي أو تأخر ، وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر : @ إنك إن يصرع أخوك تصرع . @@ على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة . وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم . وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده . وذهب الكوفيون ، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضياً ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان . وتلخص من هذا الذي قلناه : أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون : وما عملت ، شرطاً لعلة أخرى ، لا لكون : تود ، مرفوعاً ، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منوياً به كالتقديم أدّى إلى تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية . ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز . فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط ؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير . فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب . وإذا كان كذلك تدافع الأمر ، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا . وهذا بخلاف : ضرب زيداً غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هنداً ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ، لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين . ولا يحفظ من لسان العرب : أودَّ لو أني أكرمه أياً ضربت هند ، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره . وقرأ عبد الله ، وابن أبي عبلة : من سوء ودّت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت . أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودّت ، جزاء الشرط . قال الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة . انتهى . و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، و : أن ، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس . وأمّا على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاَّ قليلاً ، كقوله تعالى { مثل ما أنكم تنطقون } [ الذاريات : 23 ] والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتودّ ، في موضع المفعول به . قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ، ذلك معناه . ومعنى أمداً بعيداً : غاية طويلة ، وقيل : مقدار أجله ، وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب . { ويحذركم الله نفسه } . كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه . { والله رؤوف بالعباد } لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجاً للقلوب ، ومنبهاً على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدّة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى : { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } [ الأعراف : 167 ] وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف ، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله ، وجاء المحذر مخصوصاً بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت إسمية ، فتكرر فيها اسم الله ، إذ الوصف محتمل ضميره تعالى ، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رؤوف ، وجاء متعلقه عاماً ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه . قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه . وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم . وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن . { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } . نزلت في اليهود ، قالوا : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] أو : في قول المشركين { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] قالوا ذلك ، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم " وكلا هذين القولين عن ابن عباس . وقال الحسن ، وابن جريج : في قوم قالوا : إنا لنحب ربنا حباً شديداً . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : في وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حباً لله . انتهى . ولفظ الآية يعم كل من ادّعى محبة الله ، فمحبة العبد لله عبارة عن ميل قلبه إلى ما حدّه له تعالى وأمره به ، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة ، ومحبته تعالى للعبد تقدّم الكلام عليها ، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل ، فأغنى عن إعادته . رتب تعالى على محتبهم له اتباع رسوله محبته لهم ، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه ، فإنه هو المبين عن الله ، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام الله في العبادات ولا في غيرها ، بل رسوله صلى الله عليه وسلم هو الموضح لذلك ، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى . وقرأ الجمهور : تحبون ، ويحببكم ، من أحب . وقرأ أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم ، بفتح التاء والياء من حب ، وهما لغتان وقد تقدّم ذكرهما . وذكر الزمخشري أنه قرىء : يحبكم ، بفتح الياء والإدغام . وقرأ الزهري : فاتبعوني ، بتشديد النون ، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية ، ولم يحذف الواو شبهاً : بأتحاجوني ، وهذا توجيه شذوذ . قال الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن أدّعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب ، وكتاب الله يكذبه . ثم ذكر من يذكر محبة الله ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب وينعر ويصفق ، وقبح من فعله هذا ، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه . وروي عن أبي عمرو إدغام : راء ، و : يغفر لكم ، في لام : لكم ، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك ، وذكرنا أن رؤساء الكوفة : أبا جعفر الرواسي ، والكسائي ، والفراء رووا ذلك عن العرب ، ورأسان من البصريين وهما : أبو عمرو ، ويعقوب قرآ بذلك وروياه ، فلا التفات لمن خالف في ذلك . { قل أطيعوا الله والرسول } هذا توكيد لقوله : فاتبعوني ، وروي عن ابن عباس أنه لما نزل { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } قال عبد الله بن أبي لاصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمر بأن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزل { قل أطيعوا الله } . { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } يحتمل أن يكون : تولوا ، ماضياً . ويحتمل أن يكون مضارعاً حذفت منه التاء ، أي : فإن تتولوا ، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به من اتباعه وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافراً . وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافراً ، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية ، فالمؤمن العاصي لا يندرج في ذلك . قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص . وفي قوله { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } والتكرار ، في قوله : المؤمنون من دون المؤمنين ، وفي قوله : من الله ، ويحذركم الله نفسه ، وإلى الله ، وفي : يعلمه الله ، ويعلم ، وفي قوله : يعلمه الله ، والله على ، وفي قوله : ما عملت ، وما عملت ، وفي قوله : الله نفسه ، والله ، وفي قوله : ويحذركم الله ، والله روؤف ، وفي قوله : تحبون الله ، يحببكم الله ، والله غفور ، قل أطيعوا الله ، فإن الله . والتجنيس المماثل في : تحبون ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في : تتقوا منهم تقاه ، وفي يغفر لكم وغفور . والطباق في : تخفوا وتبدوه ، وفي : من خير ومن سوء ، وفي : محضراً وبعيداً . والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى : { فإنها لا تعمى الأبصار } [ الحج : 46 ] الآية . والإشارة في قوله : ومن يفعل ذلك ، الآية . أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله . والاختصاص في قوله : ما في صدوركم ، وفي قوله : ما في السموات وما في الأرض . والتأنيس بعد الإيحاش في قوله : والله رؤوف بالعباد ، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير .