Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 52-61)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس . يقال : أحسست الشيء ، وحسست به . وتبدل سينه ياء فيقال : حسيت به ، أو تحذف أولى سينيه في أحسست فيقول : أحست . قال : @ سوى ان العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس @@ وقال سيبويه : وما شذ من المضاعف ، يعني في الحذف ، فشبيه بباب : أقمت ، وذلك قولهم : أحست وأحسن يريدون : أحسست ، وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت لم أحس لم تحذف . الحواري : صفوة الرجل وخاصته . ومنه قيل : الحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ قال أبو جَلْدة اليشكري : @ فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلابُ النوابح @@ ومثله في الوزن : الحوالي ، للكثير الحيل ، وليست الياء فيهما للنسب ، وهو مشتق من : الحور ، وهو البياض . حورت الثوب بيضته . المكر : الخداع والخبث وأصله الستر ، يقال : مكر الليل إذا أظلم واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملتف ، فكان الممكور به يلتف به المكر ، ويشتمل عليه ، ويقال : امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق . والمكر : ضرب من النبات . تعالى : تفاعل من العلو ، وهو فعل ، لاتصال الضمائر المرفوعة به ، ومعناه : استدعاء المدعوّ من مكانه إلى مكان داعيه ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدّوه ولبهيمته ونحو ذلك . الابتهال : قوله بهلة الله على الكاذب ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، ويقال بهله الله : لعنه وأبعده ، من قولك أبهله إذا أهمله ، وناقة باهلة لا ضرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن التعاناً . وقال لبيد : @ من قروم سادة من قومهم نظر الدهر إليهم فابتهل @@ { فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } تقدّم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام ، وهل الحذف بعد قوله { صراط مستقيم } [ آل عمران : 51 ] أو بعد قوله : { ورسولاً إلى بني إسرائيل } [ آل عمران : 49 ] وذلك عند تفسير { ورسولاً إلى بني إسرائيل } [ آل عمران : 49 ] قال مقاتل : أحس ، هنا رأى من رؤية العين أو القلب وقال الفراء : أحسّ وجد وقال أبو عبيدة : عرف . وقيل : علم وقيل : خاف . والكفر : هنا جحود نبوّته وإنكار معجزاته ، و : منهم ، متعلق بأحس قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكفر . { قال مَن أنصاري إلى الله } لما أرادوا قتله استنصر عليهم ، قال مجاهد وقال غيره : إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل : استنصرهم لإقامة الحق . قال المغربي : إنما قال عيسى : { من أنصاري إلى الله } بعد رفعه إلى السماء وعوده إلى الأرض ، وجمع الحواريين الأثني عشر ، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق ، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جداً ، لم يذكره غيره ، بل المنقول . والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء . قال السدّي : من أعواني مع الله . وقال الحسن : من أنصاري في السبيل إلى الله . وقال أبو علي الفارسي معنى : إلى الله : لله ، كقوله : { يهدي إلى الحق } [ يونس : 35 ] أي للحق وقيل : من ينصرني إلى نصر الله . وقيل : من ينقطع معي إلى الله ، قاله ابن بحر وقيل : من ينصرني إلى أن أبين أمر الله وقال أبو عبيدة : من أعواني في ذات الله ؟ وقال ابن عطية : من أنصاري إلى الله . عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ، ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ، ويتعرض للأحياء في المواسم . انتهى وقال الزمخشري وإلى الله من صلة أنصاري ؟ مضمناً معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني ؟ أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء ، أي : من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه ؟ انتهى . { قال الحواريون } أي أصفياء عيسى . قاله ابن عباس . أو : خواصه ، قاله الفراء . أو : البيض الثياب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس . أو : القصارون ، سموا بذلك لأنهم يجودون الثياب ، أي يبيضونها ، قاله الضحاك ، ومقاتل . أو : المجاهدون ، أو : الصيادون ، قال لهم عيسى على نبينا وعليه السلام : ألا تمشون معي تصطادون الناس لله ؟ فأجابوا . قال مصعب : كانوا اثني عشر رجلاً يسيحون معه ، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض ، فقالوا : من أفضل منا ؟ نأكل من أين شئنا . فقال عيسى : من يعمل بيده ؟ ويأكل من كسبه ؟ فصاروا قصَّارين وحكى ابن الأنباري : الحواريون : الملوك وقال الضحاك ، وأبو أرطاة : الغسالون وقال ابن المبارك : الحوار النور ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها وقال تاج القراء : الحواري : الصديق . قيل : لما أراهم الآيات وضع لهم ألواناً شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه . وقرأ الجمهور : الحواريون ، بتشديد الياء . وقرأ إبراهيم النخعي ، وأبو بكر الثقفي ، بتخفيف الياء في جميع القرآن ، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل : القاضيون ، فتنقل الضمة إلى ما قبلها وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فكان القياس على هذا أن يقال : الحوارون ، لكن أقرت الضمة ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في : يستهزئون ، إذ أبدل الهمزة ياءً ، وحملت الضمة تذكراً لحال الهمزة المراد فيها . { نحن أنصار الله } أي : أنصار دينه وشرعه . والداعي إليه . { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } لما ذكروا أنهم أنصار الله ذكروا مستنداً لإيمانهم ، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه ، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم ، وعليهم . ودل ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام ، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } [ آل عمران : 67 ] الآية ، ويحتمل أن يكون : واشهد ، خطاباً لله تعالى أي : واشهد يا ربنا ، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران ، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى ، فليس كمقالهم فيه ، ودعوى الإلهية له . { ربنا آمنا بما أنزلت } أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك ، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل أو بالإنجيل . { واتبعنا الرسول } هو : عيسى على قول الجمهور . { فاكتبنا مع الشاهدين } هم : محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق . روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ، أو : من آمن قبلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . أو : الأنبياء لأن كل نبي شاهد على أمّته . أو : الصادقون ، قاله مقاتل . أو : الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، قاله الزجاج . أو : الشاهدون لنصرة رسلك ، أو : الشاهدون بالحق عندك ، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم ، وعبروا عن فعل الله ذلك لهم بلفظ : فاكتبنا ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال . { ومكروا ومكر الله } الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في : { فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء الله . { ومكر الله } مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكراً ، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] وقوله { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } [ البقرة : 194 ] وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه . وقيل : مكر الله بهم هو ردّهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل . وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانياً ، ولم يظهر ذلك . ثمَ ولي ملك آخر بعدُ وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحوٍ من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجراً على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز . وقال المفضل : ودبروا ودبر الله ، والمكر لطف التدبير . وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل ، ومكرهم لزومهم إبطال دينه . والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني : @ ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا @@ ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل . { والله خير الماكرين } معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى : { والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً } [ النساء : 84 ] . وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } [ الفرقان : 24 ] وقال حسان . @ فشركما لخيركما الفداء @@ وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في : أحس ، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى : سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون : أحس ، لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته . قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر . والسؤال والجواب في : { قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون } والتكرار في : من أنصاري إلى الله ، وأنصار الله ، وآمنا بالله ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر الله ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف ، في مواضع . { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } العامل في : إذ ، ومكر الله قاله الطبري ، أو : اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري . وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس بمكلم ، قاله ابن عطية . و : متوفيك ، هي وفاة يوم رفعه الله في منامه ، قاله الربيع من قوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } [ الأَنعام : 60 ] أي : ورافعك وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب . أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس . وقال وهب : مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات . وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير . وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم . وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، ومطر الوراق ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، من : توفيت مالي على فلان إذا استوفيته . وقيل : أجعلك كالمتوفي ، لأنه بالرفع يشبهه وقيل : آخذك وافياً بروحك وبدنك وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك . قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : " أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة " وقيل : أربعين سنة . انتهى . { ورافعك إليّ } الرفع نقل من سفل إلى علو ؛ و : إليّ ، إضافة تشريف . والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي . وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلاَّ أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهراً وقيل : إلى محل ثوابك . قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى فرفعه الله في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر . وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه . وروى أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت . { ومطهرك من الذين كفروا } جعل الذين كفروا دنساً ونجساً فطهره منهم ، لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو : الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس وهو الكفر ، كما قال : { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] وكما جاء في الحديث : " المؤمن لا ينجس " فجعله علة تطهيره الإيمان . وقيل : مطهرك من أذى الكفرة . وقيل : من الكفر والفواحش . وقيل : مما قالوه فيك وفي أمك . وقيل : ومطهرك أي مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان . وقال الراغب : متوفيك : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعاً مكانياً وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قدر رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم . وقيل : تخليصه من قتلهم ، لأن ذلك نجس طهره الله منه . قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلاَّ أن لفظ التطهير فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة . ولهذا ذكره الله في المؤمنين ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين . { وجاعل الذين اتبعوك } الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة . وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من تلوين الخطاب . إنتهى هذا القول ، ولا يظهر . ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون . لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع . { فوق الذين كفروا } يعلونهم بالحجة ، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه . فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن . أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد . فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى . فالآية ، على قوله ، مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكماً دنيوياً لا فضلية فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود . وقال الجمهور : بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين . والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان الله . وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات . وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاماً في المسلمين ، وعاماً في الكافرين ، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، يكون الكافرون خاصاً باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به . وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازاً أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينياً ، و : إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيوياً ، وإما بهما . { إلى يوم القيامة } الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لجاعل ، إذ معنى جاعل هنا مصيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلاَّ ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدّم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مظهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، أما برافعك أو مطهرك ، فظاهر . وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال . وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولاً : بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانياً : برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه . ثم ثالثاً : برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولاً وآخراً . ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدىء بهما . ولما كان التطهير عاماً يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهي أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقرّ بذلك عينه ، ويسر قلبه . ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيه ، وأوتي تابعوه من الخير . { ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ، لأنه سبق ذكر مكذبيه : وهم اليهود ، وذكر من آمن به ؛ وهم الحواريون . وأعقب ذلك قوله : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } فذكر متبعيه الكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إليّ مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجراً لمن يزدجر . ثم ذكر لفظة : إليّ ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهماً ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى : كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم . وقال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى . إنتهى كلامه . والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته . { فأما الذين كفروا } قيل : يحتمل أن يكون خاصاً ، أي : كفروا بك وجحدوا نبوّتك ، والظاهر العموم ، ويجوز أن يكون الذين ، مبتدأ ويجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال . { فأعذبهم عذاباً شديداً } وصف العذاب بالشدّة لتضاعفه وازدياده . وقيل : لاختلاف أجناسه . { في الدنيا } بالأسر والقتل والجزية والذل ، ومن لم ينله شيء من هذا فهو على وجل ، إذ يعلم أن الإسلام يطلبه . { والآخرة } بعذاب النار . وهذا إخبار منه تعالى بما يفعل بالكافر من أول أمره في دنياه إلى آخر أمره في عقباه . { وما لهم من ناصرين } تقدّم تفسير هذه الجملة في هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } بدأ أولاً بقسم الكفار ، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار ، والإخبار بجزائهم ، فناسبت البداءة بهم ، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله : { فوق الذين كفروا } وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله ، ثم أتى ثانياً بذكر المؤمنين ، وعلق هناك العذاب على مجرَّد الكفر ، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال في الإيمان ، ودعاء إليها . والتوفية : دفع الشيء وافياً من غير نقص ، والأجور : ثواب الأعمال ، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله . وتوفية الأجور هي : قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى ، وفي الآية قبلها قال : { فأعذبهم } أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده ، وذلك ليطابق قوله : { فأحكم بينكم } وفي هذه الآية قال : فيوفيهم ، بالياء على قراءة حفص ، ورويس ، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة . وقرأ الجمهور : فنوفيهم ، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن ، كما خالف في الفعل ، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله ، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة . ويجوز أن يكون : الذين آمنوا ، مبتدأ ، ويجوز انتصابه على إضمار فعل يفسر ما بعده ، ويكون ذلك من باب الإشتغال ، كقوله : { وأما ثمود فهديناهم } [ فصلت : 17 ] فيمن نصب الدال . { والله لا يحب الظالمين } تقدّم تفسير ما يشبه هذا ، وهو قوله : { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } [ آل عمران : 32 ] واحتج المعتزلة بهذا على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، لأن مريد الشيء محب له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فيقال : أحب زيداً ، ولا يقال : أريده ، وأمّا الأفعال فهما فيها واحد ، فقوله : لا يحب : لا يريد ظلم الظالمين ، هكذا قرره عبد الجبار ، وعند أصحابنا المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير له ، فهو تعالى ، وإن أراد كفر الكافر ، لا يريد إيصال الثواب إليه . { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } ذلك : إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما ، و : نتلوه ، نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء ، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفاً له ، جعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر ، وفي : نتلوه ، التفات ، لأن قبله ضمير غائب في قوله : لا يحب ، ونتلوه : معناه تلوناه ، كقوله : { واتبعوا ما تتلو الشياطين } [ البقرة : 102 ] ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال ، لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ، ويكون : ذلك ، بمعنى : هذا . والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات ، أي : نأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا ، وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب ، فهي آيات لنبوتك . قال ابن عباس ، والجمهور : والذكر : القرآن والحكيم أي : الحاكم ، أتى بصيغة المبالغة فيه ، ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى ، أو : كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه . قال الزجاج : لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه ، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم ، قاله الجمهور ، أحكم عن طرق الخلل ، ومنه قوله : { أحكمت آياته } [ هود : 2 ] ويكون : فعيل ، بمعنى : مفعل ، وهو قليل ، ومنه : أعقدت العسل فهو معقد وعقيد ، وأحبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس . وقيل : المراد بالذكر هنا اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه أنزل هذه القصص مما كتب هناك . و : ذلك ، مبتدأ ، و : نتلوه ، خبر و : من الآيات ، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال ، أي : كائناً من الآيات . و : من ، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر ، وجوّزوا أن يكون : من الآيات ، خبراً بعد خبر ، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف ، إذا كان لمبتدأ واحد ، ولم يكن في معنى خبر واحد ، وجوّزوا أن يكون : من ، لبيان الجنس ، وذلك على رأي من يجيز أن تكون : من ، لبيان الجنس . ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلاَّ بمجاز ، لأن تقدير : من ، البيانية بالموصول . ولو قلت : ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم ، لاحتيج إلى تأويل ، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات ، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات ، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات ، والذكر هو الآيات ، والذكر على سبيل المجاز . وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية ، وبدأ به ، ثم قال : ويجوز أن تكون للتبعيض . وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال ، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك ، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الإشتغال ؛ فزيدٌ ضربته ، أفصح من : زيداً ضربته ، وإن كان عربياً ، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه ، لا موضع له من الإعراب ، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف ، ويكون : من الآيات ، حالاً من ضمير النصب في : نتلوه . وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك ، بمعنى : الذي ، و : نتلوه ، صلته . و : من الآيات ، الخبر . وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية ، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، إلاَّ في : ذا ، وحدها إذا سبقها : ما ، الإستفهامية باتفاق ، أو : من ، الإستفهامية باختلاف . وتقرير هذا في علم النحو . وجوّزوا أيضاً أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من الآيات ، خبر . و : نتلوه ، حال . وأن يكون : ذلك ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك . و : نتلوه ، حال . والظاهر في قوله : { والذكر الحكيم } أنه معطوف على الآيات ، ومن جعلها للقسم وجواب القسم : { إن مثل عيسى } فقد أبعد . { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه " فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت . وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله ! فنزلت . وروى وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهبا نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد " قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه . فأنزل { إن مَثَل عيسى } وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] . وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال . وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ] وفي هذا إقرار الكاف في قوله : { كمثل آدم } على معناها التشبيهي . وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل . وكذلك { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ] عبارة عن المتصوّر منها . وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى . والكاف في { كمثل آدم } اسم على ما ذكرناه من المعنى . إنتهى كلامه . ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال . أو بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه . على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه . والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . إنتهى . ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه . قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره . وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة . وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال . وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان . وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات . والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب . وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا . وفي العبودية ، وفي النبوّة . وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله . وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله . وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال : { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] وفي العلم ، قال : { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] وقال : { ويعلمه الكتاب والحكمة } [ آل عمران : 48 ] وفي نفخ الروح فيهما { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] { فنفخنا فيه من روحنا } [ الأَنبياء : 91 ] وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو . أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه . والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقر واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيـي الموتى . قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . انتهى . وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره . وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ الله عليه بصره . { خلقه من تراب } هي من تسمية الشيء باسم أصله . كقوله { الله الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة } [ فاطر : 11 ] كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم . كما قال : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وقال تعالى : { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] وقال : { قال أأسجد لمن خلقت طيناً } [ الإِسراء : 61 ] . والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب . وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه . قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل . إنتهى كلامه . وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين { ثم قال له كن } أي أنشأه بشراً ، قاله الزمخشري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم . قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء . لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : { ثم قال له كن } لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى { ثم قال له كن } عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار . فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره . قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر . و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك . وقال الراغب : ومعنى : كن . بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروح . وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . إنتهى . والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي . { الحق من ربك } جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو . أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، و : من ربك ، حال أو : خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق . ومع كونها حقاً فهي إخبار صادر عن الله . { فلا تكن من الممترين } قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى ، والأخبار الواردة من الله تعالى . وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له . قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممترياً ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره . وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا تكن من الممترين ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى . { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه صلى الله عليه وسلم وبين وفد نجران . والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله : { إن مثل عيسى } وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى . وقيل : المراد وفد نجران . و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل . و : ما ، في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها . و : من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائناً من العلم . وتكون : من ، تبعيضية . ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول الأخفش : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك . { فقل تعالوا } قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير تفاعل ، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول : إخشَ واسعَ . وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فحذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ . { ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي : يدعُ كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعليّ . قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع حاجه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : " لما نزلت هذه الآية : { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : " اللهم هؤلاء أهلي " وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته . وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتيبة . قال تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] أي : إخوانكم . وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري . { ثم نبتهل } أي : ندع بالالتعان . وقيل : نتضرّع إلى الله ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : نخلص في الدعاء . وقال الكلبي : نجهد في الدعاء . وقيل : نتداعى بالهلاك . { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } أي : يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن صلى الله عليه وسلم اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف . وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو صلى الله عليه وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته . قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ لتبيين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ . قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك . إنتهى كلامه . وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط . إنتهى . وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي . وكان متكلماً على طريق الاثني عشرية . على : أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك أن قوله تعالى : { وأنفسنا وأنفسكم } ليس المراد نفس محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلاَّ أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك . قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : " من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب " فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم . قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة . وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبياً ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء . وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه . منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد . ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا . ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء مّا ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة . فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا . وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء ؟ قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : { إذ قال الله يا عيسى } والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة . والاستعارة في : { متوفيك } وفي : { فوق الذين كفروا } والتفصيل لما أجمل في : { إليّ مرجعكم فأحكم } بقوله : فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في { من ناصرين } أو : المثل في قوله { إن مثل عيسى } . والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله { نتلوه } وفي { فيكون } وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في { كمثل آدم } وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في { خلقه من تراب } . وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في { فلا تكن من الممترين } . والعام يراد به الخاص في { ندع أبناءنا } الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة .