Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 62-68)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إن هذا لهو القصص الحق } هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور ، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى ، وكونه مخلوقاً من غير أب ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم . أي : هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلهاً أو ابن الله ، ولا ما تدعيه اليهود فيه ، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله { وما من إله إلاَّ الله } ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله : وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله . انتهى . لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في : لهو ، دخلت على الفصل . والقصص خبر إن ، والحق صفة له ، والقصص مصدر ، أو فعل بمعنى مفعول ، أي : المقصوص كالقبض ، بمعنى المقبوض ، ويجوز أن يكون : هو ، مبتدأ و : القصص ، خبره ، والجملة ، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران ، وغيرهم ، في أمر عيسى وإلاهيته . { وما من إله إلا الله } أي : المختص بالإلهية هو الله وحده ، وفيه ردّ على الثنوية والنصارى ، وكل من يدعي غير الله إلهاً . و : من ، زائدة لاستغراق الجنس ، و : إله ، مبتدأ محذوف الخبر ، و : الله ، بدل منه على الموضع ، ولا يجوز البدل على اللفظ ، لأنه يلزم منه زيادة : من ، في الواجب ، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلاَّ ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً ، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية ، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء . { وإن الله لهو العزيز الحكيم } إشارة إلى وصفي الإلهية وهما : القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء ، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع ، فلا يخفى عنه شيء . وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى . ويجوز في : لهو ، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص ، وتقديم ذكر فائدة الفصل . { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } قال مقاتل : فإن تولوا عن الملاعنة . وقال الزجاج : عن البيان الذي أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو سليمان الدمشقي : عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد وقال المرسيّ : عن هذا الذكر وقيل : عن الإيمان . و : تولوا ، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه ، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله : { فان الله عليم بالمفسدين } ، والمعنى : ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه على العلة التي توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعاً ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد . { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير . قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد ! ما تريد إلاَّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟ ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتاباً ، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بيا أهل الكتاب ، هزاً لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيهاً على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم بالدلائل الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو : دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم . وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، و : كلمة ، كسدرة ، وتقدّم هذا عند قوله : { مصدقاً بكلمة } [ آل عمران : 39 ] والكلمة هي ما فسرت به بعد . وقال أبو العالية : { لا إله إلا الله } ، وهذا تفسير المعنى . وعبر بالكلمة عن الكلمات ، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد موضع الجمع ، كما قال : @ بها جيفُ الحسرى ، فأما عظامها فبيض ، وأما جلدها فصليب @@ وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها . وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة . وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر . قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : كلمة ، وإن كان نكرة ذو الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى : استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من : استوى الشيء ، وقال زهير : @ أروني خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء @@ والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم . وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه . وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم . وقال ابن عباس : أي كلمة مستوية ، أي مستقيمة . وقيل : إلى كلمة قصد . قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حقٍ لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة : العدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى { فانبذ إليهم على سواء } [ الأَنفال : 58 ] على بعض التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّاً مقاسماً لك . في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته . واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب . انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء . { أن لا نعبد إلاَّ الله } موضع : أن ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن يكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلاَّ الله . وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء والخبر قوله : بيننا وبينكم . قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضاً ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، والبصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف . والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئاً ، أي : لا نجعل له شريكاً . وشيئاً يحتمل أن يكون مفعولاً به ، ويحتمل أن يكون مصدراً أي شيئاً من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة . { ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } أي لا نتخذهم أرباباً فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة . وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الاساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعاً . قاله ابن جريج ، كقوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم } [ التوبة : 31 ] و " عن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال : " أليس كانوا يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم " ؟ قال : نعم . قال : " هو ذاك " وفي قوله : بعضنا بعضاً ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } [ إبراهيم : 10 ] { إن نحن إلا بشر مثلكم } [ إبراهيم : 11 ] { أنؤمن لبشرين مثلنا } [ المؤمنون : 47 ] فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضاً ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أرباباً في الطاعة لهم في تحليلٍ وتحريمٍ وفي السجود لهم . قال الطبري : في قوله : { أرباباً من دون الله } أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله . وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض . انتهى . وفيه بعض اختصار . { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون . وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ . قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون . انتهى . وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . انتهى . وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل . { قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاَّ من بعده أفلا تعقلون } عن ابن عباس وغيره . أن اليهود قالوا : كان إبراهيم يهودياً ، وأن النصارى قالوا : كان نصرانياً . فأنزلها الله منكراً عليهم . وقال ابن عباس ، والحسن : كان إبراهيم سأل الله أن يجعل له { لسان صدق في الآخرين } [ الشعراء : 84 ] فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته كل فرقة . و : ما ، في قوله : لمَ ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك ، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد هذه الدعوى قال : { أفلا تعقلون } أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل يمنع من ذلك . ولا يناسب أن يكون موافقاً لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام . أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة . وادعاء اليهود أن عزيراً ابن الله ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم . وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] وقوله : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } [ النحل : 124 ] وغير ذلك فلا يمكن إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله . ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنتان وثلاثون سنة . وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون . والواو في : { وما أنزلت التوراة } لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا . والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى : { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } [ آل عمران : 70 ] وقوله { لم تلبسون } [ آل عمران : 71 ] ثم قال { وأنتم تعلمون } [ آل عمران : 71 ] وقوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها ؟ وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] إذ الحنيف هو المائل للحق ، والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم { كان حنيفاً مسلماً } [ آل عمران : 67 ] . وفي قوله : { أفلا تعقلون } توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم . { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجوداً في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه . قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم . وهو الظاهر لما حف به من قبله ، ومن بعده من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم كما كان هنالك على حقيقته . وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم وجدوا نعته في كتبهم ، فجادلوا بالباطل . والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم . والظاهر في قوله : { فيما لكم به علم } إثبات العلم لهم . وقال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم . وقال قتادة أيضاً : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا ؟ وقال الرازي : { ها أنتم هؤلاء } الآية . أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ؟ وهو ادّعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ويحتمل أن يكون قوله { لكم به علم } أي : تدعون علمه لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة . وقرأ الكوفيون ، وابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش : ها ، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولاً بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر إسم الإشارة ، لكن اعتنى بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أناذا قائماً ، و : ها أنت ذا تصنع كذا . و : ها هوذا قائماً . ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك ؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيداً ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على : { أيه الثقلان } [ الرحمن : 31 ] يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس . وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم . فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء . لأنها أختها . واستحسنه النحاس . وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيداً ، بمعنى : أَتَضرب زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو : @ وأتت صواحبها وقلن هذا الذي منح المودّة غيرنا وجفانا @@ ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وهمزة : أتت ، لا يناسب ، لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى : هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه ؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه . وقد وجهوا قراءة قنبل على أن : الهاء ، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة : أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم ، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في : هيأه . وأمّا تحقيقها فهو الأصل ، وأمّا إبدالها ألفاً فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] . و : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء . الخبر . و : حاججتم ، جملة حالية . كقول : ها أنت ذا قائماً . وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون } [ البقرة : 85 ] على أحسن الوجوه في إعرابه . وقال الزمخشري : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء ، خبره ، و : حاججتم ، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ انتهى . وأجازوا أن يكون : هؤلاء ، بدلاً ، وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون ، هؤلاء ، موصولاً بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم ، صلته . وهذا على رأي الكوفيين . وأجازوا أيضاً أن يكون منادى أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيء : @ إن الأُلى وصفوا قومي لهم فهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً @@ وقال : @ لا يغرّنكم أولاء من القو م جنوح للسلم فهو خداع @@ يريد : يا هذا اعتصم ، و : يا أولاء . { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة . والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : إسمع فإني أعلم ما لا تعلم . { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ، ثم استدرك ما كان عليه بقوله { ولكن كان حنيفاً مسلماً } ووقعت لكن هنا أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل . ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما ، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ، وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم . وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، فتكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها من قوله { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركاً ، فيناسب النفي قبله ، لأنها رأس آية . وقال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية . وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفي نفس الملل ، وقرر الحال الحسنة ، ثم نفي نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً ، بل حفظته . وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ . انتهى كلامه . وتلخص بما تقدم أن قوله . { وما كان من المشركين } ثلاثة أقوال : أحدها : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود والنصارى والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى . وقال عبد الجبار : معنى { ما كان يهودياً ولا نصرانياً } لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون . وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة . وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا ذمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل كان على جهة الإسلام . والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي ، ويختتن . ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً . انتهى . وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي عالماً من اليهود ، ثم عالماً من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله . وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله . فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب الله ، ومن لعنته . فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا ؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً . قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلاَّ الله وحده ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء . وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم . وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول ، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونصاراه . لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله . لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى ، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول ، وإن كان في الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ، وأما موافقته لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان في الأصول فظاهر ، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر ، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة . { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين } قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : والله يا محمد ، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وإنه كان يهودياً ، وما بك إلاَّ الحسد . فنزلت . وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه ، وعمرو بن العاص ، وأصحابه . بالنجاشي ، وفيه : أن النجاشي قال : لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم . أي : لا خوف ولا تبعة ، فقال عمرو : من حزب إبراهيم ؟ فقال النجاشي : هؤلاء الرهط وصاحبهم ، يعني : جعفراً وأصحابه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليـي منهم أبي ، وخليل ربي إبراهيم " ثم قرأ هذه الآية . ومعنى : أولى الناس : أخصهم به وأقربهم منه من الولي ، وهو القرب . والذين اتبعوه يشمل كل من اتبعه في زمانه وغير زمانه ، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات . وعنى بالأتباع أتباعه في شريعته . وقال عليّ بن عيسى : أحقهم بنصرته أي : بالمعونة وبالحجة ، فمن تبعه في زمانه نصره بمعونته على مخالفته . ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقاً سالماً من المطاعن ، وهذا النبي : يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم ، وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة ، كقوله { وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] . { والذين آمنوا } قيل : آمنوا من أمّة محمد ، وخصوا أيضاً بالذكر تشريفاً لهم ، إذ هم أفضل الأتباع للرسل ، كما أن رسولهم أفضل الرسل . وقيل : المؤمنون في كل زمان وعطف { وهذا النبي } على خبر إن ، ومن أعرب { وهذا النبي والذين آمنوا } مبتدأ والخبر : هم المتبعون له ، فقد تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه . وقرىء : وهذا النبيّ ، بالنصب عطفاً على : الهاء ، في اتبعوه ، فيكون متبعاً لا متبعاً : أي : أحق الناس بإبراهيم من اتبعه ، ومحمداً صلى الله عليهما وسلم ، ويكون : والذين آمنوا ، عطفاً على خبر : إن ، فهو في موضع رفع . وقرىء : وهذا النبي ، بالجر ، ووجه على أنه عطف على : إبراهيم ، أي : إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم . و : النبي ، قالوا : بدل من هذا ، أو : نعت ، أو : عطف بيان . ونبه على الوصف الذي يكون به الله ولياً لعباده ، وهو : الإيمان . فقال : وليّ المؤمنين ، ولم يقل : وليهم . وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا ، وبالفوز في الآخرة . وهذا كما قال تعالى : { الله وليّ الذين آمنوا } . قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة : التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : { إن هذا لهو القصص الحق } وفي : { وإنّ الله لهو العزيز } والإختصاص في : { عليم بالمفسدين } وفي : { وليّ المؤمنين } والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في : { إلى كلمة سواء } وباطلاق اسم الجنس على نوعه في : { يا أهل الكتاب } إذا فسر باليهود . والتكرار في : إلا الله ، و : إنّ الله ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم . وفي : إبراهيم ، و : ما كان إبراهيم ، و : إن أولى الناس بإبراهيم . والتشبيه في : أرباباً ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلق عليه : أرباباً تشبيهاً بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب ، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت . يا أبت وكقول الشاعر : @ مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً @@ وقول الآخر : @ بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا فكم من رماد صار منه لهيب @@ والتجنيس المماثل في : أولى وولي .