Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 75-79)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه . وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياءً في : تظنيت . أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألقته بمفردات كلامها . دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز وتميم ، تقول : دِمت ، بكسر الدال . قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم . وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف . والتدويم الاستدارة حول الشيء . ومنه قول ذي الرمة : @ والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم @@ وقال علقمة في وصف خمر : @ تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم @@ والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به . وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار . ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه . لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالإجرام . اللسان : الجارحة المعروفة . قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أمعه ألسنا . وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ مذكراً . انتهى . ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك . الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة . كما قالوا : لحياني ، وشعراني ، ورقباني . فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة . وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري في أحمر ، و : دواري في دّوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه . درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عافٍ . { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً } الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون . وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج . وهذا ضعيف جداً لما يأتي بعده من قولهم : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول { ليس علينا في الأميين سبيل } لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود . وقيل : { من إن تأمنه بقنطار } هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم . و : { من إن تأمنه بدينار } هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم . وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه . وقيل : { من إن تأمنه بقنطار } هم من أسلم من أهل الكتاب . و : { من إن تأمنه بدينار } من لم يسلم منهم . وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى . قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية . وعن ابن عباس : { من إن تأمنه بقنطار يؤده } هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأدّاه إليه . و : { من إن تأمنه بدينار } فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . انتهى . ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من . ألا ترى كيف جمع في قوله : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا } قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي . وقرأ أبي بن كعب : تئمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف . وقرأ ابن مسعود ، والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم . وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر . وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله { نستعين } [ الفاتحة : 5 ] فأغنى عن إعادته . وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلاَّ لغة : قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء الخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه . انتهى . ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ . وقد بينا ذلك في { نستعين } [ الفاتحة : 5 ] وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله : { والقناطير المقنطرة } [ آل عمران : 14 ] . وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء . وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون . قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل . وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً . انتهى كلام ابن إسحاق . وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء . فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا . وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة . وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع . وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضاً . قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون : { لربه لكنود } [ العاديات : 6 ] بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله . @ له زجل كأنه صوت حاد @@ وقال : @ إلا لأن عيونه سيل واديها @@ ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون . وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماماً في اللغة ، ولذلك أنكر على ثعلب في كتابه : ( الفصيح ) مواضع زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب . وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضاً قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام . والباء في : بقنطار ، وفي : بدينار قيل : للإلصاق . وقيل : بمعنى على ، إذا الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : { لا تأمنا على يوسف } [ يوسف : 11 ] وقال : { هل آمنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه } [ يوسف : 64 ] وقيل : بمعنى في أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار . والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل . وفي الدينار أقل منه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة . انتهى . ومعنى : { إلاَّ ما دمت عليه قائماً } قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ، والفراء ، وابن قتيبة : متقاضياً بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي اجتهاده فيها . وقال السدي وغيره : قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن معنى ذلك الخفر ، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله . وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن . وقيل : قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك . وقيل : معنى : دمت عليه قائماً ، أي : مستعلياً ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيـى بن وثاب ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه . و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية . و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائماً ، وأجاز أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتتقدر بمصدر ، وذلك المصدر ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان . قال : والتقدير : إلاَّ في حال ملازمتك له . فعلى هذا يكون : قائماً ، منصوباً على الحال ، لا خبراً لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية . { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل } روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال . العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر " والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم . والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل . والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله : { من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك } وجمع حملاً على المعنى ، أي : ترك الأداء في الدِّينار فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن : { ليس علينا في الأمّيين } وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب . وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة . والسبيل ، قيل : العتاب والذم وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور : @ وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح موجود عليّ طريق @@ وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم . والمعنى : ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين . قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ، فاستحلوا أموالهم وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم . وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم . وذكر هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون ماذا قال ؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس . { ويقولون على الله الكذب } أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم . قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها ، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل . والظاهر أنه أعم من هذا ، فيندرج هذا فيه ، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق . وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها . قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على الله ، بيقولون بمعنى : يفترون . قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب . قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول . { وهم يعلمون } جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن علم . { بلى } جواب لقولهم : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } وهذا مناقض لدعواهم ، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل ، وقد تقدّم القول في : بلى ، في قوله { بلى من كسب سيئة } [ البقرة : 81 ] فأغنى عن إعادته هنا . { من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك ، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى ، و : من ، يحتمل أن تكون موصولة ، والأظهر أنها شرطية ، و : أوفى ، لغة الحجاز . و : وفى ، خفيفة لغة نجد و : وفى ، مشدّدة لغة أيضاً . وتقدّم ذكر هذه اللغات . والظاهر في : بعهده ، أن الضمير عائد على : من وقيل : يعود على الله تعالى ، ويدخل في الوفاء بالعهد ، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، سواء أضيف العهد إلى : من ، أو : إلى الله ، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين ، أو ما قبله ، فرد من أفراده ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، التقدير : يحبه الله ، ثم قال { فإن الله يحب المتقين } وأتى بلفظ : المتقين ، عاماً تشريفاً للتقوى دحضاً عليها . { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحيـي بن أخطب ، قاله عكرمة . أو : فيمن حرّف نعته صلى الله عليه وسلم من اليهود ، قاله الحسن . أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي ، أو مع بعض قرابته . أو : في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا ، يميناً كاذبة ، قاله مجاهد ، والشعبي . والإضافة في { بعهد الله } إما للفاعل وإما للمفعول ، أي : بعهد الله إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم ، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه ، أو بعهد الله . والاشتراء هنا مجاز ، والثمن القليل : متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك ، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها . { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي : لا نصيب لهم في الآخرة ، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي ، ونعني : لا نصيب له من الخير ، نفي نصيب الخير عنه . { ولا يكلمهم الله } قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة ، قاله الزّجاج . وقال قوم : هو عبارة عن الغضب ، أي : لا يحفل بهم ، ولا يرضى عنهم ، وقاله ابن بحر . وقد تقدّم في البقرة شرح : { ولا يكلمهم الله } [ آل عمران : 77 ] . { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، يريد نفي اعتداده به ، واحسانه إليه . فإن قلت أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه . قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثَمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر . انتهى كلامه . وقال غيره : ولا ينظر أي : لا يرحم قال : @ فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم لذي غلة صديان قد شفه الوجدُ @@ { ولا يزكيهم } ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، أو لا يطهرهم من الذنوب . أقوال ثلاثة ، وتقدّم شرحه في البقرة . { ولهم عذاب أليم } تقدّم شرحه أيضاً . { وإن منهم لفريقاً } أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس . وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة . وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم . { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب } أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض . انتهى . والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الاخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم . وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة . وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه الله تعالى ، كتاباً في ( السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه ) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [ الأعراف : 157 ] وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته . { ذلك مثلهم في التوراة } [ الفتح : 29 ] . وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } [ الأَنعام : 91 ] وقال تعالى { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } [ المائدة : 15 ] فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل . وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً . ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكثير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي . والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في : لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب . ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : { أو كظلمات في بحر لجّي يغشاه } [ النور : 40 ] أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف . { وما هو من الكتاب } أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة . { ويقولون هو من عند الله } تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة . { وما هو من عند الله } رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله { وما هو من الكتاب } نفى أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها . قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده . وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم . وقال ابن عطية { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب . ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : { وما هو من عند الله } . { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً . { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } " روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد ! إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى ؟ فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت " ، فنزلت . وقيل : " قال رجل : يا رسول الله ! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : " لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله " واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : { ما كان لبشر } فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكروا سبب النزول المذكور . وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى { ما كان لبشر أن يؤتيه الله } وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين . أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } [ النمل : 60 ] { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [ آل عمران : 145 ] . والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أن الله لا يعطي الكَذَبة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام . والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : " إن من الشعر لحكماً " . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس . أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم . { كونوا عباداً لي من دون الله } عباداً جمع عبد . قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي . قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى . وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر . وقال قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية . والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } [ آل عمران : 30 ] و { عباد مكرمون } [ الأَنبياء : 26 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] . وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرىء القيس : @ قولاً لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل @@ ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي ، ومنه { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } اعبدوني واجعلوني إلهاً . انتهى كلام ابن عطية . وفيه بعض مناقشة . أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، و : أما عبدى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت أمرىء القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى { بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال : عباد ، دون : عبيد ، لأن فعالاً في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد . قال سيبويه : وربما جاء فعيلاً وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد . انتهى . فلما كان فعال هو المقيس في جمع : عبد ، جاء : عباد ، كثيراً . وأما { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله { أولئك ينادون من مكان بعيد } [ فصلت : 44 ] وبعده { قالوا آذناك ما منا من شهيد } [ فصلت : 47 ] فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : { وما أنا بظلام للعبيد } [ ق : 29 ] لأن قبله { قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد } [ ق : 28 ] وبعده { يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد } [ ق : 30 ] وأما مدلوله فمدلول : عباد ، سواء . وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ : عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقل حمزة على أحد الجائزين . وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفاً على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : عباداً لي ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها . { ولكن كونوا ربانيين } هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين . أو : الفقيه ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد . أو : العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره . أو : الحكيم الفقيه ، قاله ابن عباس . أو : الفقيه العلم ، قاله الحسن ، والضحاك . أو : والي الأمر يربيهم ويصلحهم ، قاله ابن زيد . أو : الحكيم التقي ، قاله ابن جبير . أو : المعلم ، قاله الزجاج . أو : العالم ، قاله المبرد . أو : التائب لربه ، قاله المؤرج . أو : الشديد التمسك بدين الله وطاعته ، قاله الزمخشري . أو : العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله عطاء . أو : العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير . أو : العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه أقوال متقاربة . وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ، لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الآمة . { بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى . وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما . وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية . وقرىء : تدرسون ، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدر وجه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضاً ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته . انتهى كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان .