Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 93-101)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } قال أبو روق وابن السائب : نزلت " حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا على ملة إبراهيم " فقالت اليهود : فكيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " ذلك حلالٌ لأبي إبراهيم ونحن نحلُّه " " فقالت اليهود : كلُّ شيء أصبحنا اليوم نحرِّمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها والجامع بينهما أنه تعالى أخبر أنه لا ينالُ المرء البرّ إلا بالإنفاق مما يحب . ونبي الله إسرائيل روى في الحديث : " أنه مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إنْ عافاه اللَّهُ من سقمه أنْ يحرِّمَ ، أو ليحرمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبُّ الطعام إليه لحوم الإبل ، وأحبُّ الشراب ألبانها ، ففعل ذلك تقرباً إلى الله " فقد اجتمعت هذه الآية وما قبلها في أنّ كلاًّ منهما فيما ترك ما يحبه الإنسان وما يؤثره على سبيل التقرب به لله تعالى . وكلٌّ : من صيغ العموم . والطعام : أصلُه مصدرٌ أُقيم مقام المفعول ، وهو اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم للبر خاصة . قال الرازي : والآية تبطله لأنه استثنى منه ما حرم إسرائيل على نفسه . واتّفقوا على أنه شيء سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها . ومما يؤكد ذلك قوله في الماء { ومن لم يطعمه } [ البقرة : 249 ] . وقال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم } [ المائدة : 5 ] وأراد الذبائح انتهى . ويُجاب عن الاستثناء أنه منقطع ، فلا يندرجُ تحت الطعام . وقال القفال : لم يبلغنا أنّ الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع انّهما طعام ، فيحتملُ أنْ يكونَ ذلك على الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم تدَّعي أنها كانت محرمة على إبراهيم ، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم . والحل : الحلال ، وهو مصدرُ حلَّ نحو عزّ عزاً ومنه { وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 2 ] أي حلالُ به . وفي الحديث " عن عائشة : " كنت أطيِّبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلِّه ولحرمه " ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكر والمؤنث . قال : { لا هنّ حلٌّ لهم } [ الممتحنة : 10 ] وهي كالحرم ، أي الحرام . واللُّبس ، أي اللباس . وإسرائيل : هو يعقوب ، وتقدم الكلام عليه ، وتقدّم أنَّ الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول : الحسن ، وعطاء ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعبد الله بن كثير في آخرين . وقيل : العروق . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهو قول : مجاهد أيضاً ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وأبي مجلز في آخرين . قال ابن عباس : عرضت له الآنساء فأضنته ، فجعل لله إنْ شفاه من ذلك أنْ لا يطعم عرقاً . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر . وروي عن ابن عباس أنَّه حرم العروق ولحوم الإبل . وقيل : زيادتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله : عكرمة . وتقدَّم سببُ تحريمه لما حرمه . قال ابن عطية : ولم يختلف فيما علمت أنّ سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إنْ شفي . وقيل : هو وجع عرق النسا . وهذا الاستثناء يحتملُ الاتصال والانقطاع ، فإنْ كان متصلاً كان التقدير : إلاّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة ، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها . وإنْ كان منقطعاً كان التقدير : لكنَّ إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة ، ولم يحرمه الله على بني إسرائيل . والاتصال أظهر . وظاهر قوله : على نفسه ، أن ذلك باجتهاد منه لا بتحريم من الله تعالى . واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد . وقيل : كان تحريمه بإذن الله تعالى . وقيل : يحتمل أنْ يكون التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا . وقال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله كما يفعله كثيرٌ من الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم . واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود ، وهذا إذا قلنا : بأنّ الاستثناء متصل . أمّا إذا كان منقطعاً فلم يحرّم عليهم . وقال ابن عطية : حرمها عليهم بتحريم إسرائيل ، ولم يكن محرماً في التوراة ، وروي عن ابن عباس أن يعقوب قال : " إنْ عافاني اللهُ لا يأكله لي ولد " . وقال الضحاك : وافقوا أباهم في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع فأكذبهم الله تعالى . وقال ابن السائب : حرمه الله عليهم بعد التوراة لا فيها ، وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً حُرِّم به عليهم طعام طيب ، أو صبَّ عليهم عذاب ، ويؤكده { فبظلم } [ النساء : 160 ] الآية . وقيل : لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها ، ولا بتحريم إسرائيل عليهم ، ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضاً وافتراء . وقال السدي : لما أنزل الله التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمون على أنفسهم قيل نزولها . قال الزمخشري : والمعنى أنّ المطاعم كلها لم تزلْ حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه وهو ردٌّ على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله : { فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات } [ النساء : 160 ] الآية . وجحودُ ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا . فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول مَن حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرًّا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله ، وأكل الربا ، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرِّم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه . { من قبل أن تنزل التوراة } قال أبو البقاء : مِن متعلقة بـحرم ، يعني في قوله : إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه . ويبعد ذلك ، إذْ هو من الاخبار بالواضح ، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة . ويظهر أنه متعلق بقوله : كان حلاً لبني إسرائيل ، أي من قبل أن تنزل التوراة ، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن : في جواز أن ، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو : ما حبس إلا زيد عندك ، وما أوى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً . وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقاً نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز هو وابنُ الأنباري ذلك في مرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا : حل من قبل أن تنزل التوراة . { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } . قل : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : فأتوا محذوف تقديره : هذا الحق ، لا زعمُكُم معشر اليهود . فأتوا : وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم ، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم : من أنّ تلك المطاعم كانت حلالاً لهم من قديم ، وأن التحريم هو حادث . وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها ، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم . وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ الواضحة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان عليه السلام النبيّ الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة ، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصاً . وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع ، وهم ينكرون ذلك . وخرج قوله : " إن كنتم صادقين " مخرجَ الممكن ، وهم معلوم كذبهم . وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك : إنْ كنت شجاعاً فالقني ، ومعلوم ، عندك أنَّه ليس بشجاع ، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به . { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } يحتمل أن يكون مندرجاً تحت القول ، ويحتمل أنْ يكون ابتداءَ إخبارٍ من الله بذلك ، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة ، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه . أحدها : أن يكون إلى التلاوة ، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة ، ويكونُ افتراء الكذب أنْ يُنسب إلى كتب الله ما ليس فيها . والثاني : أنْ يكون إلى استقرار التحريم في التوراة ، إذ المعنى : إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم . وافتراء الكذب أنْ يزيد في المحرمات ما ليس فيها . والثالث : أنْ يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من سنن يعقوب . وشرع ذلك دون إذن من الله . ويؤيد هذا الاحتمال قوله : { فبظلم من الذين هادوا } [ النساء : 160 ] الآية . فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشدّدون فيشدد عليهم الله كما فعلوا في أمر البقرة . وجاءت شريعتنا بخلاف هذا ، دين الله " يسر يسروا ولا تعسروا ، بعثت بالحنيفية السمحة " { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] والأظهر في من أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة . وجمع في فأولئك حملاً على المعنى . وهم : يحتمل أن تكون فصلاً ، ومبتدأً ، وبدلاً . والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وقيل : هو هنا الكفر . { قل صدق الله } أمر تعالى نبيه أنْ يصدع بخلافهم ، أي الأمر الصدق هو ما أخبر الله به لا ما افتروه ومن الكذب . ونبّه بذلك على أنّ ما أخبر به من قوله : { كل الطعام } وسائر ما تقدم صدق ، وأنه ملة إبراهيم . والأحسنُ أن يكون قوله : " قل صدق الله " أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة . وقيل : في أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو على ملة إبراهيم ، وإبراهيم كان مسلماً . وقيل في قوله : { كل الطعام } [ آل عمران : 93 ] الآية قاله ابن السائب . وقيل : في أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً قاله : مقاتل وأبو سليمان الدمشقي ، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم فقال : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } وهي ملة الإسلام التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فيخلصون من ملة اليهودية . وعرض بقوله : { وما كان من المشركين } : إلى أنهم مشركون في اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة البقرة تفسيراً وإعراباً فأغنى عن إعادته . وقرأ أبان بن ثعلب قل صدق : بإدغام اللام في الصاد ، و { قل سيروا } [ العنكبوت : 20 ] بإدغام اللام في السين . وأدغم حمزة والكسائي وهشام { بل سولت } [ يوسف : 18 ] . قال ابنُ جني : علة ذلك فشوُّ هذين الحرفين في الفم وانتشار الصوت المثبت عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما انتهى . وهو راجع لمعنى كلام سيبويه ، قال سيبويه : والإدغامُ يعني إدغام اللام مع الطاء والصاد وأخواتهما جائز ، وليس ككثرته مع الراء ، لأن هذه الحروف تراخين عنها وهي من الثنايا . قال : وجواز الإدغام لأنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها انتهى كلامه . { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } روي عن مجاهد : أنه تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيتُ المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنّها مهاجرُ الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة . وقال المسلمون : بل الكعبة أفضلُ ، فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو : أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه ، أخذ في ذكر البيت وفضائله ليبني الحج ووجوبه . وأيضاً فإنّ اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جميع الأنبياء ، فأكذبهم الله في ذلك بقوله : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } كما أكذبهم في دعواهم قبل : إنما حرم عليهم ما كان محرماً على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضاً فإنّ كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حجُّ الكعبة وهم لا يحجونها ، فأكذبهم الله في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره . وتقدم الكلام على لفظ أول في قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } [ البقرة : 41 ] ووضع جملة في موضع الصفة . واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس . فقيل : هو أولُ بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السموات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته . وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طُفْ حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم ببيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السموات . وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذْ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت ؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال . وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش . و " قال أبو ذر : قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " قلت ؛ ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " قلت : كم كان بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا أنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما . وظاهرُ حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس . وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم : " أن بين الوضعين أربعين سنة " وأين زمانُ إبراهيم من زمان سليمان ! ومعنى وضع للناس : أي متعبداً يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم . وقرأ الجمهور ( وُضع ) مبنياً للمفعول . وقرأ عكرمة وابن السميفع وضع مبنياً للفاعل ، فاحتمل أنْ يعود على الله ، واحتمل أن يعودَ على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفق لحديث أبي ذر . وللناس متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ . والمعنى : للبيت الذي ببكة . وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام . وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إما لها ، وإمّا لما أضيفت إليه . إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ . ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريباً منك زيد . تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه . وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال : @ وأنّ حراماً أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم @@ والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة . ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه ، وهو لا يصحّ . { مباركاً وهدىً للعالمين } أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده . وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : { يُجْبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] . وقيل : بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها ، لأنّ البركة لها معنيان : أحدهما : النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها . والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك الله ثبت ولم يزل . وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه . روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب الله بها له حسنة ورفع له بها درجة " وقال الفراء : سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب . وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب . وقيل : بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب . وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان فيه إرشاد . وبولغ بكونه هدىً ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى . قيل : ومعنى هدى أي قبلة . وقيل : رحمة . وقيل : صلاح . وقيل : بيان ودلالة على الله بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى . وقال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعى العالمون إليه ، وانتصاب مباركاً على الحال . وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع ، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً ، أي في هذه الحال للذي ببكة . وهذا التقدير ليس بجائز ، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو : الخبر ، لأنه معمول لأنَّ خبر لها ، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركاً . وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولاً ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال . وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال بركته . وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركاً ، والمعطوف على الحال حال . وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار . { فيه آيات بينات } أي علامات واضحات منها : مقام إبراهيم ، والحجر الذي قام عليه ، والحجر الأسود وهو : من حجارة الكعبة ، وهو يمين الله في الأرض يشهد لمن مسه . والحطيم ، وزمزم ، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس ، وأمر الفيل ، ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر ، وجباية الأرزاق إليه ، وهو { بوادٍ غير ذي زرعٍ } [ إبراهيم : 37 ] وحمايته من السيول . ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه . وذكر مكي وغيره : أنّ من آياته كون الطير لا يعلو عليه . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والطير يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته انتهى . وأي عبد علا عليه عتق . وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب ، ومضاعفة أجر المصلي ، وغير ذلك من الآيات . وقوله : فيه آيات بينات ، الضمير في فيه عائد على البيت ، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت . لكنهم توسعوا في الظرفية ، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران . ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه على سبيل المجاز . ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من : تحريم قطع شجره ، ومنع الاصطياد فيه . والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم ، لأنه آية باقية على مر الأعصار . وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار . ثم أراد الله إبقاء ذلك آية للعالمين ليَّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين ، فذلك الاثر باق إلى اليوم . وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار . وقال في ذلك أبو طالب : @ وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل @@ فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول . وقيل : سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل : انزلْ . حتى اغسلَ رأسك ، فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه فيه . وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله ، فيكون المجرور في موضع الحال ، والعامل فيها محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة . ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز ، كنسبة الخبر إليها . إذا قلت : زيد في الدار ، أو عندك . ولذلك قال بعض أصحابنا : وما يعزى للظرف من خبرية وعمل ، فالأصح كونه لعامله . وكون فيه في موضع حال مقدّرة ، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة ، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه ، أو على ما أعربناه . ويجوز أو يكون جملة مستأنفة . أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات . { مقام إبراهيم } مقام : مفعل من القيام . وقرأ الجمهور : ( آيات بينات ) على الجمع . وقرأ أبيّ وعمر وابن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة " آية بينة " على التوحيد . فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام ابراهيم بدلاً ، وهو بدل كل من كل ، من قوله : آيات ، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف . أي هنّ مقام إبراهيم . وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع ، أو يخبر به عن الجمع ؟ وأجيب بوجهين : أحدهما : أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوّة ابراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى : { إن ابراهيم كان أمةً قانتاً } [ النحل : 120 ] . والثاني : اشتماله على آيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد فيه " آيات بينات مقام ابراهيم " وأمن من دخله ، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . وقال ابن عطية : والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصّا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم . فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله : أن مقام ابراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع ، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيراً صناعياً ، إنما جاء " ومن دخله كان آمناً " جملة من شرط وجزاء ، أو مبتدأ أو خبر ، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله : مقام ابراهيم ، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً . بل لم يأت بعد قوله : { آيات بينات } سوى مفرد وهو : مقام ابراهيم فقال . فإن قلت : كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان وقوله : ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة : إما ابتدائية ، وإما اشترطية ؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى . ولأن قوله : { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] دل على أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح . لأن تقديره وأمن الداخل ، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم ، وفسر بهما الآيات . والجملة من قوله : ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه . فلا يجعل قوله : ومن دخله كان آمناً في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب . قال الزمخشري : ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ونحوه في طي الذكر قول جرير : @ كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها @@ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة " انتهى كلامه . وفيه حذف معطوفين ، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله : آيات بينات . ورد عليه ذلك ، لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان . وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين ، فلا يلتفت إليه . وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين ، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين . وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم : عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله ، أعربه البصريون بدلاً ، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة ، فينبغي أن لا يجوز . والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أحدها : أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم . أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها : أي من الآيات البينات مقام إبراهيم . ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير ، ولإذكاره إياهم دين أبيهم إبراهيم . وأما على قراءة من قرأ : آية بينة بالتوحيد ، فإعرابه بدل ، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة ، كقوله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله } [ الشورى : 52 53 ] ويكون الله تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا ، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة . واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم . فقال الجمهور : هو الحجر المعروف . وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم ، لأنه بناه ، وقام في جميع أقطاره . وقال قوم : مكة كلها مقام إبراهيم . وقال قوم : الحرم كله . والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية . { ومن دخله كان آمناً } : الضمير في { ومن دخله } عائد على البيت : إذْ هو المحدث عنه ، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره . ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر . وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت ، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت ، وأمن من دخله من ذوي الجرائم . وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع الظلم ، إلا في الحرم كقوله تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رب اجعل هذا بلداً آمناً } [ البقرة : 126 ] فأما في الإسلام فمن أصاب حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيره . فمن زنى ، أو سرق ، أو قتل ، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول : أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه . وقال ابن عباس : من أحدث حدثاً واستجار بالبيت فهو آمن . والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية ، فلا يعرض أحد لقاتل وليه . إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه ، ولا يكلموه ، ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد . وقال بمثل هذا عطاء أيضاً ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، والسدي ، وابن جبير ، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا : هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه . واختلف فقهاء الأمصار : إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والحسن بن زياد ، وأحمد في رواية حنبل عنه : إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط ، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم . وقال مالك في رواية : لا يقتص منه فيه ، لا بقتل ولا فيما دون النفس ، ولا يخالط . قالوا : وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان . فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه . وقالوا : هذا خبر معناه الأمر . أي ومَن دخله فأمّنوه . وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله ، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله . وقال يحيـى بن جعدة في آخرين : آمناً من النار ، ولا بد من قيد في . ومن دخله كان آمناً : أي ومن دخله حاجًّا ، أو من دخله مخلصاً في دخوله . وقيل المعنى : ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } [ الفتح : 27 ] . وقال جعفر الصادق : منْ دخله ورقى على الصفا أمِن أمْن الأنبياء . وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً ، وكلّ هذه الأقوال سواه متكلفات ، وينبو اللفظ عنها ، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } روى عكرمة : أنه لما نزلت : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } [ آل عمران : 85 ] قالت اليهود : نحن على الإسلام فنزلت : { ولله على الناس حج البيت } الآية ، قيل له : حجهم يا محمد . إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام ، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود : لا نحجه أبداً . ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء ذلك بقوله : ولله ، فيشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء ، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين . قال الزمخشري : وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد . فمنها قوله : { ولله على الناس حج البيت } يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه ، . من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له . والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه ، وهو حسن . وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء ، والباقون بفتحها . وهما لغتان : الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية . وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو : ذكر ذكراً . وجعله الزجاج اسم العمل . ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر ، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر . وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً ، وأنْ يكون خبر الحج . ولا يجوز أن يكون " ولله " حالاً ، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي . وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت ، والألف واللام فيه للعهد . إذ قد تقدّم { أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة } [ آل عمران : 96 ] هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة . فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة ، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر : @ لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل @@ ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة . وذكروا أن شروطه : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والاستطاعة . وظاهر قوله : { ولله على الناس } وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود . وقال الجمهور : ليس مخاطباً به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه . قالوا : وكذلك الصغير . فلو حج العبد في حال رقِّّه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام . وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح يرد عليه . والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من : مشي ، وتكفف ، وركوب بحر ، وإيجار نفسه للخدمة . الرجال والنساء في ذلك سواء ، والمشروط مطلق الاستطاعة . وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير . ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور ، ولا على التراخي ، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة . والقولان عن الحنفية والمالكية . وقال أبو عمر بن عبد البر : ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته ، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها . وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض . وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون : أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق ، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم . وفي إعراب مَنْ خلاف ، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل ، فتكون مَن موصولة في موضع جر ، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير ، فهو محذوف تقديره ، من استطاع إليه سبيلاً منهم . وقال الكسائي وغيره : من شرطية ، فتكون في موضع رفع بالابتداء . ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها ، وحذف جواب الشرط ، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج ، أو فعليه ذلك . والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا . ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله : { ومن كفر } وقيل : مَنْ موصولة في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم من استطاع إليه سبيلاً . وقال بعض البصريين : مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج ، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو : عجبت من شرب العسل زيد ، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى . أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام ، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر ، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر . وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح ، لأنّه يكون المعنى : إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع . ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم ، والضمير في إليه يعود على البيت ، وقيل : على الحج . وإليه متعلق باستطاع ، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد . قال تعالى : { لا يستطيعون نصركم } [ الأعراف : 197 ] وكل موصل إلى شيء ، فهو سبيل إليه . وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً ، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدّمنا . وقال عمر ، وابنه ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراحلة ، وعلى هذا أكثر العلماء . وقال ابن الزبير والضحاك : إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه . قال الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك ؛ فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة ، أكان يتركه ، بل كان ينطلق إليه ؟ ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج . وقال الحسن : مَنْ وجد شيئاً يبلغه فقد وجب عليه . وقال عكرمة : استطاعةَ السبيل الصحة . ومذهب مالك : أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه ، وعنه ذلك على قدر الطاقة . وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد . وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه . وقال الشافعي : الاستطاعة على وجهين بنفسه : أولاً : فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك . واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست عادته ذلك في إقامته . فروى عنه ابن وهب : لا بأس بذلك . وروي عنه ابن القاسم : لا أرى ذلك ، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً . وكره مالك أن تحج النساء في البحر . واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك . ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته . فقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق : المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم . قال أبو حنيفة : إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض ؟ قال الشافعي : له أن يمنعها وعن مالك روايتان : المنع ، وعدمه . والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة ، أو رضاع ، أو صهر ، والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء ، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة نكاحها أو مسلماً غير مأمون ، فلا تخرج ولا تسافر معه . وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء . وقال الشافعي : مع حرة ثقة مسلمة . وقال ابن سيرين : مع رجل ثقة من المسلمين . وقال الأوزاعي : مع قوم عدول ، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ، ولا يقربها رجل . واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة . فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس . وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض . فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وعليه مضت الأعصار . وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج . فقال مالك : يسقط عن المعضوب فرض الحج ، ولا يحج عنه في حال حياته . فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث ، وكان تطوّعاً . وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك ، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه الحج ببذل الطاعة ، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله . ومسائلُ فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه . { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس : بوجوب الحج ، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر . وقال مثله : الضحاك ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وعمران القطان . وقال ابن عمر وغيره : ومن كفر بالله واليوم الآخر . وقال ابن زيد : ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت . وقال السدي وجماعة : ومَنْ كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج ، فهذا كفر معصية ، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود . ويصير على قول السدي لقوله : " من ترك الصلاة فقد كفر " " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " على أحد التأويلين . وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله : ومن كفر ، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً " ونحوه من التغليظ " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " ، انتهى كلامه ، وهو من معنى كلام السدي . وقال سعيد بن المسيب : ومَن كفر بكون البيت قبله الحق ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] وكفروا بها وقالوا : لا نحج إليها أبداً . ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء ، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله : { عن العالمين } إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم . وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية : والقصد بالكلام : فإن الله غني عنهم ، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه ، حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربَّ سواه انتهى . وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : عن العالمين ، ولم يقل عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة . ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فإن الله غني عن حج العالمين . { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون } : قال الطبري : سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله : { وأولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] " أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه : شاس بن قيس ، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين ، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج ، فقال : ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملأ بني قيلة ، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر ، ففعل ، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " ؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً " ، هذا ملخصه وذكروه مطولاً . وقال الحسن : وقتادة ، والسدي : نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم : إنّ محمداً ليس بالموصوف في كتابنا ، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة ، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة . وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكر . وقيل : المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوّته ، واستدل بقوله : { وأنتم شهداء } [ آ ل عمران : 99 ] انتهى هذا القول . وخصّ أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمجابون عن شبههم في ذلك . ولأن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به . ولما ذكر تعالى أنّ في البيت { آيات بينات } [ آل عمران : 97 ] وأوجب حجه ، ثم قال : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [ آل عمران : 97 ] ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم بآيات الله ، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب ، فلا يناسب مَنْ يعتزي إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته ، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها ، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة . والآيات : هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق . وقيل : آيات الله هي آيات من التوراة فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم . ويحتمل القرآن ، ومعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم . { والله شهيد على ما تعملون } جملة حالية فيها تهديد ووعيد . أيْ إنّ مَن كان الله مطَّلعاً على أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته ، فلا يجامع العلم بأن الله مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات الله ، لأن من تيقن أن الله مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر . وأتت صيغة " شهيد " لتدل على المبالغة بحسب المتعلق . لأن الشهادة يراد بها العلم في حق الله ، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان . فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها . وتقدّم الكلام على " لم " وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار . وقوله : " على ما تعملون " متعلق بقوله : شهيد . وما موصولة . وجوزوا أنْ تكون مصدرية ، أي على عملكم . { قل يا أهل الكتاب لم تصدُّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } لمّا أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم ، ولم يكتفوا حتى سعوا في إضلال مَنْ آمن ، أنكر عليهم تعالى ذلك ، فجمعوا بين الضلال والإضلال " من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها " وصدّ : لازم ومتعد . يقال : صد عن كذا ، وصد غيره عن كذا . وقراءة الجمهور : يصدون ثلاثياً ، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن . وقرأ الحسن : تصدُّون من أصدّ ، عدى صدّ اللازم بالهمز ، وهما لغتان . وقال ذو الرّمة : @ أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم @@ ومعنى صد هنا : صرف . وسبيل الله : هو دين الله ، وطريق شرعه ، وقد تقدّم أنها تذكر وتؤنث . ومن التأنيث قوله : @ فلا تبعد فكل فتى أناس سيصبح سالكاً تلك السبيلا @@ قال الراغب : وقد جاء { يا أهل الكتاب } دون قل ، وجاء هنا قل . فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق ، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد . ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير متساهلين أنْ يخاطبهم بنفسه ، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم . وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة ، وعلى الذّم أخرى . وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح ، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو : { يكتبون الكتاب بأيديهم } [ البقرة : 79 ] وقد يراد به ما أنزل الله . وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم ، كما لو قيل : يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه ، انتهى ما لخص من كلامه . والهاء في يبغونها عائدة على السبيل . قال الزجاج والطبري : يطلبون لها اعوجاجاً . تقول العرب : ابغني كذا بوصل الألف ، أي اطلبه . أي وأبغني بقطع الألف أعني على طلبه . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف يبغونها عوجاً وهو محال ؟ ( قلت ) فيه معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنَّ فيها عوجاً بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ، ونحو ذلك . والثاني : أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ، وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى . وقيل : يبغون هنا من البغي وهو التعدي . أي يتعدّون عليها ، أو فيها . ويكون عوجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في يبغون ، أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى . وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به ، والجملة من قوله : " يبغونها عوجاً " تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون حالاً من الضمير في يصدُّون أو من سبيل الله ، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما . { وأنتم شهداء } أي بالعقل نحو : { أوألقى السمع وهو شهيد } [ ق : 37 ] أي عارف بعقله ، وتارة بالفعل . نحو : { قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } [ آل عمران : 81 ] وتارة بإقامة ذلك ، أي شهدتم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه . وقال الزمخشري : وأنتم شهداء أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ . أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ، ويستشهدون في عظام أمورهم ، وهم الأحبار انتهى . قيل : وفي قوله : { وأنتم شهداء } دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة ، لأنه تعالى سماهم شهداء ، ولا يصدق هذا الإسم إلا على من يكون له شهادة . وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع ، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وهو قول أبي حنيفة وجماعة . والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال ، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة . وما الله بغافل عما تعملون وعيد شديد لهم ، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته . { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين } لمّا أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت بلفظ " قل " ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم . وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ، لأنه لم تقع طاعتهم لهم . والإشارة بـ يا أيها الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس . وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل ، أي أنْ يصدرَ منكم طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم ، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول . والردّ هنا التَّصييرُ أي يصيرونكم . والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة ، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج . ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له . وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي ، واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية . وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله : @ فرد شعورهنّ السود بيضاً وردّ وجوههنّ البيض سودا @@ وقيل : انتصب على الحال ، والقول الأول أظهر . { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين : وهما تلاوة كتاب الله عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، وكينونةَ الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق . ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه ، فلا يتطرّق إليهم كفر مع ذلك . وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون ، ولذلك نودوا بقوله : يا أيها الذين آمنوا . فليس نظيرُ قوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً } [ البقرة : 28 ] والرسول هنا : محمد صلى الله عليه وسلم بلا خلاف . والخطاب قال الزجاج : لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه . وقيل : لجميع الأمة ، لأن آثاره وسنته فيهم ، وإنْ لم يشاهدوه . قال قتادة : في هذه الآية علمان بينان : كتاب الله ، ونبي الله . فأما نبي الله فقد مضى ، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه ، حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته . وقيل : الخطاب للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور . وقرأ الجمهور تتلى بالتاء . وقرأ الحسن والأعمش : يتلى بالياء ، لأجل الفصل ، ولأن التأنيث غير حقيقي ، ولأن الآيات هي القرآن . قال ابن عطية : وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه صلى الله عليه وسلم وهو في أمّته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره . وقال الزمخشري : وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرّق إليكم الكفر ، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ؟ . { ومن يعتصم بالله فقد هديَ إلى صراط مستقيم } قال ابن جريج : ومن يؤمن بالله . ويناسب هذا القول قوله : { وكيف تكفرون } [ آل عمران : 101 ] . وقيل : يستمسك بالقرآن . وقيل : يلتجىء إليه ، فيكون على هذا القول حقاً على الالتجاء إلى الله في دفع شرور الكفار . وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، ودخلت قد للتوقع ، لأن المعتصم بالله متوقع للهدى . وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة : الاستفهام الذي يراد به الإنكار في { لم تكفرون } { لم تصدون } { وكيف تكفرون } والتكرار : في يا أهل الكتاب ، وفي اسم الله في مواضع ، وفيما يعملون ، والطباق : في الإيمان والكفر ، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية ، وفي العوج والاستقامة ، والتجوز : بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل : هو يهودي غير معين . وقيل : هو شاس بن قيس اليهودي . وإطلاق العموم والمراد الخصوص : في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج . والحذف في مواضع .